الخميس، 30 أبريل 2020

( الفرج بعد الشدة .. الصين أنموذجا )

الصين تعيد كتابة التاريخ بطمس دور أمريكا


د/ أحمد بن حامد الغامدي

لطالما كانت الصين على موعد مع الكوارث في الواقع وفي الاساطير على حدا سواء وفي كل مره كانت الأمة الصينية كما طائر الفينيق تنهض متجدده من رماد الحريق. في عالم الاساطير فجع الإمبراطور المؤسس للصين فو زي بغرق ابنته في النهر ومن هذه الفاجعة ظهرت الحضارة الصينية حيث تحولت الفتاه الغريقة إلى إلهة النهر الأصفر الذي نمت على ضفافة الإمبراطورية الصينية الممتدة في التاريخ. للحضارة الصينية خصوصية عجيبة مع التاريخ فبالرغم من توالي وتعدد الكوارث والنكبات التي أصابتها إلا أنها هي الحضارة الوحيدة المتواصل بقائها عبر العصور بينما اندثرت مع الغابرين الحضارة الفرعونية والاشورية واليونانية والرومانية والبيزنطية والمكسيكية (المايا) والعباسية والعثمانية. وبسبب هذه الديمومة والحيوية المتجددة لاقت الحضارة الصينية إعجاب الكثير لدرجة أن فولتير الحبر الأكبر لعصر الأنوار (عصر فولتير كما وصفه وول ديورانت في كتاب قصة الحضارة) كان مفتون بالحضارة الصينية حتى أنه قال عنها (لقد دامت هذه الامبراطورية أربعة آلاف عام دون أن يطرأ عليها تغير يذكر وإن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم).
وكل هذا العز المديد والمجد التليد للأمة الصينية لم يأت صفو من الأكادر ولا خلو الانحدار بل أصابته النكبات المتتالية والجوائح المتواصلة من مثل الفيضانات والزلازل والاوبئة والمجاعات والحروب.
الإمبراطورية الصينية فريدة في امتدادها التاريخي لكنها شحيحة في بعدها الجغرافي لدرجة أنها امبراطورية بدون مستعمرات فهي امبراطورية الثروة وليست امبراطورية الثورة. الاعجب من ذلك أن الأمة الصينية عاشت لعقود طويلة وهي تخشى من جيرانها وليس العكس وبالرغم من بناء سور الصين العظيم منذ أكثر من ألفين سنة وبطول زاد عن عشرين ألف كيلومتر إلا أن ذلك لم يمنع وقوع الصين تحت الاحتلال العسكري المتكرر من الغرباء. يقول شاعرنا الجاهلي (ليس الكريمُ على القنا بمحرمِ) وعلى نفس الجناس ليست الدول الكبرى على بمحرمه على حِراب الحرب وسيوف الحُتوف ولهذا قد تقع تحتل ذل الاحتلال وهوان الاجتياح. في القرن الخامس الميلادي اجتاح برابرة الشعوب الجرمانية مدينة روما معلين بذلك سقوط الإمبراطورية العظمى وقبل ذلك بفترة اجتاحت جموع البرابرة الخمسة الإمبراطورية الصينية القديمة وتم تدمير عاصمتها القديمة لويانغ. الاحتلال الأجنبي السافر للصين أكثر ما تمثل في سيطرة قبائل المغول أحفاد جنكيز خان على كامل الصين لمدة قاربت القرن من الزمن ومع ذلك ينبغي التنبيه أن حكم هؤلاء (البرابرة) التتار للصين وخصوصا زمن الامبراطور قبلاي خان شهد ذروة التقدم التقني والحضاري للصين. بينما في المقابل زمن الاحتلال البريطاني للصين في منتصف القرن التاسع عشر شهد قاع الضعف للأمة الصينية خصوصا زمن حروب الافيون واقتحام ونهب وحرق قصور الاباطرة في العاصمة بكين. وبسبب انتشار تعاطي المخدرات في أوساط الشعب الصيني أفرز ذلك تدهور مريع في القدرة الاقتصادية والعسكرية للبلد لدرجة أن الإمبراطورية الصينية تعرضت في تلك الفترة لذل لغزو المباشر للجيوش الإنجليزية والفرنسية بالإضافة للخضوع للابتزاز والاستغلال الامريكي والروسي. وفي نهاية المطاف خارت تماما قوى التنين الصيني ليتم أخيرا الإعلان النهائي عن انهيار الإمبراطورية الصينية وعزل (الامبراطور الأخير) في مطلع القرن العشرين. وما كادت الامة الصينية تتعافى من ذلل حروب الافيون حتى وقعت في عام 1931م تحت بطش الاحتلال الياباني الشنيع لإقليم منشوريا في شمال الصين والذي لا يبعد عن العاصمة بكين إلا بمسافة قصيرة وبعد هلاك حوالي عشرين مليون شخص تم تحرير الصين من القبضة اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية.
المرحلة الأولى (للفرج بعد الشدة) في قصة الصين بدأت منذ منتصف القرن العشرين حيث بعد انتهاء زمن الاحتلال المهين دخلت مرحلة (الآن نغزوهم ولا يغزونا) ومن تحرير إقليم منشوريا إلى احتلال الصين لدولة التبت في أسيا الوسطى أعلن التنين الصين دخوله لنادي الدول العظمى. لكن في عز انفراج الشدة الأمنية وقعت الصين في واحدة من أصعب شدائدها الكبرى وهي حادثة (المجاعة الكبرى) التي هلك فيها أكثر من أربعين مليون منكوب. إذا كانت سهول الهلال الخصيب بين الشام والعراق هي مهد الزراعة قبل أكثر من عشرة الاف سنة فإن الصين وبدون منازع هي مهد صناعة الغذاء وفن الطبخ منذ آلاف السنين كما أن أرضها زراعية خصبة وغنية بالأنهار والقنوات المائية هذا بالإضافة لنظام صوامع حفظ الحبوب المعقد والضخم. تناقض الخصوبة الزراعية مع المجاعة والفقر في الصين كانت هي محور الرواية الأدبية البديعة (الأرض الطيبة) للكاتبة الامريكية بيرل بيوك التي أهلتها للحصول على جائزة نوبل في الادب عام 1938م. بسبب الكثافة السكانية المنفرطة للصين لطالما عانى الشعب الصيني من المجاعات المتكررة لدرجة أنه يقال إن الصين في الالفين سنة الماضية أصيبت بحوالي 1900 مجاعة خطيرة إي بمعدل مجاعة مهلكة كل سنة. وخلال المائة سنة الأخيرة قبل المجاعة الكبرى التي حصلت عام 1959م تشير الاحصائيات إلى أن الصين ربما خسرت ما يقارب المائة وخمسين مليون هالك جراء المجاعات والجفاف والقحط.
المثير للسخرية أن المجاعة الصينية الكبرى كانت بسبب الأخطاء الكارثية في المشروع الاقتصادي والاجتماعي الذي طرحة الرئيس الصيني الهالك ماو تسي تونغ تحت العنوان الجذاب (القفزة الكبرى إلى الامام) والذي كان يهدف إلى تحويل الصين من دولة زراعية متخلفة إلى دولة صناعية عظمى. وما كادت الصين تخرج من كارثة المجاعة تلك حتى وقعت في الشدة والكارثة الأخرى التي أفرزها الفكر الشيوعي (الماوي) وهي مصيبة (الثورة الثقافية الكبرى) التي أطلقها مرة أخرى القائد الأحمر ماو تسي تونغ عام 1966ميلادي. وكان من ثمارها المرة احتقار ركائز المجتمع الصيني ممثلة في الاسرة والتعليم والدين وغسل أدمغة شباب المدارس والجامعات لإهانة وتعذيب بل وحتى قتل والديهم ومعلميهم ورهبان المعابد وهو أمر بالغ الإثم في المجتمع الصيني القائم على تعاليم الكونفوشيوسية التي تقدس الاسرة والاسلاف. تخمين أثر هذا الزلازل المجتمعي الهائل يمكن استيعابه عندما نعلم أن هذه الثورة الثقافية المزعومة نتج عنها قتل واعدام حوالي نصف مليون شخص في حين تعرض عشرين مليون للتعذيب والسجن.

الصين .. قوة عظمى تعود
عندما طرح نبي الاشتراكية كارل ماركس أفكاره الجديدة حول الشيوعية في كتابه رأس المال (الذي أطلق عليه إنجلز لقب: إنجيل الطبقة العاملة) كان النداء أن يتحد عمال العالم في الدول الصناعية ولكن الكارثة أن من استجاب له هم المزارعين وأهل الفلاحة في روسيا والصين. ولهذا كانت الشيوعية كارثة و(شدة) خانقة بكل المقاييس على هذه المجتمعات لدرجة أنها أنهكتها وتسببت في نهاية المطاف بانهيار وتقويض المنظومة الشيوعية كما هو معلوم. وفي حين تفتت كيان الاتحاد السوفيتي بشكل كامل نجد أن الصين نجت إلى حدا ما بسبب (حيوية) الأمة الصينية وسرعة تأقلمها مع المصائب والنكبات (الاحتلال الأجنبي والافيون والمجاعات .. الخ). ولهذا من الأساس اختطت الصين لها طريق اشتراكي ذو خصوصية صينية ثم لاحقا بعد هلاك ماو تسي تونغ بدأ عهد الإصلاح والانفتاح والذي أثمر أخيرا سياسة (الحلم الصيني) والمتمثل في جعل الصين بلد شبة رأسمالي بغلاف اشتراكي ماركسي.
قبل حوالي قرن من الزمان تنبأ المفكر والفيلسوف البريطاني برتراند راسل أن الولايات المتحدة هي من سوف تكون أهم دولة في العالم لمدة قرن أو قرنين ثم قال (وبعد ذلك سوف يأتي دور الصين). مع الزخم الاقتصادي للصين في عالم اليوم أغلبنا لن يستغرب كثيرا هذا التوقع ولكن ينبغي التنويه أن هذه المقولة صدرت من برتراند رسل عام 1930 والصين على مشارف أن تقع تحت الاحتلال الياباني المهين بمعنى أنها أبعد ما تكون أن تصبح دولة عظمى. وكما هو متوقع فإن عالم الرياضيات العبقري برتراند راسل أعتمد في حساب معادلته المستقبلية تلك على الرصيد الحضاري الكبير والثري للأمه الصينية وليس على واقعها المخزي في زمنه.
قبل الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة كانت الأمة الامريكية تتميز بضخامة قدرتها الاقتصادية ولكن المال ليس كل شي في عالم السياسية الدولية ولكن الأهم (الرغبة) في الريادة والمنافسة على القيادة. لسنوات طويلة تتمتع ألمانيا الاتحادية بثروة اقتصادية وتقنية هائلة ومع ذلك توصف في عالم السياسية بأنها (عملاق اقتصادي وقزم سياسي) وأخشى أنه بعد أزمة فيروس الكورونا سوف تصبح الصين هي الأجدر بهذا الوصف الساخر والمهين إذا ركزت فقط على تضخيم قوتها الاقتصادية. (اهتبلوا الفرصة) هكذا نصح الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون في كتابه الذائع الصيت (الفرصة السانحة) عندما حث أمته الامريكية للانتهاز الفرصة بعد سقوط الكتلة الشيوعية والتفرد بزعامة العالم. فليت شعري هل يوجد من بين رجالات السياسة في الصين من يدفع قادة بلدة ويصرخ بهم: (اهتبلوا الفرصة) واغتنموا الارتباك الدولي بسبب الوباء وعززوا تحرككم السياسي والعسكري والتقني للتفرد بقيادة العالم بعد انكماش سيدة العالم ماما أمريكا.
سبق وأن ذكرت بأن الصين وهي منذ فجر التاريخ امبراطورية بلا مستعمرات بل أنها حضارة منكفئه على نفسها لدرجة أن الامبراطور الصيني المؤسس تشين شي أقام حضارة متماسكة ومملكة شاسعة وفي نفس القوت أمر بحرق الكتب ومنع انتشار الأفكار. لقد كانت الصين في القرن الخامس عشر خلال حكم سلالة المينغ مؤهلة تماما بفضل اسطولها البحري الضخم (وقائدها المسلم الهمام أمير البحر تشنغ هي أو حجي محمود شمس) أن تسيطر على العالم ولكن بدلا من اقتناص وانتهاز التنين الصيني للفرصة السانحة اتخذ حكام ومفكري المارد الصيني خيار التراجع والانغلاق. فهل سوف يعيد التاريخ نفسه مع الإمبراطورية الصينية الحديثة وتستمر حسب المعنى الحرفي لاسمها القديم (المملكة الوسطى) التي لا ترغب في مد حكمها للشرق أو للغرب. توقعي الشخص أنه هذا ما سوف يحصل وسوف تستمر الصين كعملاق اقتصادي بالغ الضخامة وكقوة دولية عظمى superpower الجميع يأخذها بعين الاعتبار لكن لا يخشى تغولها العسكري.
بالنسبة لما يهمنا في الدور الصيني في عالم الغد أنها في الغالب سوف تكون دولة مزاحمة وليست دولة ممانعة للنفوذ الأمريكي وهذا من شأنه ليس فقط تخفيف أجواء التوتر السياسي ولكن والاهم هو دورها في اشغال واضعاف نفوذ النسر الأمريكي وتحويل عالم السياسية من حالة العالم (أحادي القطب) إلى العالم (متعدد الاقطاب). لكن سؤال المليون كما يقال هو لماذا لن يكون عالم السياسية القريب ثنائي القطب (أمريكا في مواجهة الصين) وكذلك من هو القطب الثالث وهل سوف نشاهد الرايات الخفاقة (للرايخ الرابع) تنبعث من جديد من الديار الجرمانية. تعمدت أن أختم المقال (بنهاية مفتوحة) قابله لجميع الاحتمالات لأن العاقل من اتعظ بخير كما يقال ومن الحكمة ألا يقع المرء في سذاجة الكاتب الأمريكي فوكوياما الذي ألف كتاب (نهاية التاريخ) وبشر بغباء أن أمريكا والرأسمالية الغربية سوف تحكم البشرية إلى الأبد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق