الجمعة، 10 أبريل 2020

( الحجر المنزلي والاصابة بمرض الكتابة )

العزل المنزلي أثمر أروع الأعمال الأدبية في الشرق والغرب

د. أحمد بن حامد الغامدي

قبل سبعة قرون ماضية أُلفت موسوعة أدبية ضخمة من أربعة الاف صفحة حملت عنوان (نهاية الأرب في فنون الأدب) حاول فيها الأديب والمؤرخ شهاب الدين النويري استقصاء غالب مواضيع ومجالات الأدب العربي حتى عصره. وبعد هذا الفارق الزمني الطويل لابد وإن تقسيمات (وفنون) ومواضيع أدبية حديثة استجدت عبر العصور ومن أشهرها في زمننا الحالي: الأدب المسرحي وأدب الخيال العلمي والأدب النسوي وأدب الرحلات وأدب السيرة الذاتية وأدب الطفل وغيرها كثير جدا.
الأديب العربي في الجملة شديد الاعتزاز بموطنه وشديد التعلق بحريته ولهذا في العصر الحديث بالذات كان من أبرز الأنواع الجديدة في الأدب العربي ما يسمى (أدب المهجر) للشعراء المغتربين خارج الوطن العربي و (أدب السجون) للأدباء المعتقلين داخل زنزانة الوطن العربي. في هذه الأيام نحن نعيش حالة استثنائية بجميع المقاييس فأغلب شعوب العالم في حالة هجرة شعورية عن المألوف واعتقال حقيقي داخل منازلهم بسبب الاحتياطات الصحية للحد من انتشار وباء وبلاء الكورونا. وبهذا من الناحية الأدبية يبدو أننها نتحول من (أدب المهجر) إلى (أدب المحجر) بحيث يصبح الطاغي على الاعمال الأدبية المختلفة تسيد ما استجد في حياتنا من (الحجز المنزلي) و (الحجر الصحي).
للمؤرخ البريطاني البارز أرنولد توينبي نظرية مشهورة لمحاولة تفسير التاريخ تسمى (نظرية التحدي والاستجابة) استلهمها من علم النفس السلوكي وتدور ببساطة حول فكرة أن الشخص أو الدولة أو الأمة إذا تعرضت لصدمه ما تستجيب لهذا المؤثر القوي بعدة طرق قد يكون منها استجابة تحفيزية تثمر نتائج إيجابية تطويرية. وبالأذن من أهل السياسة وفلسفة التاريخ سوف نستعير نظرية التحدي والاستجابة لتوضيح كيف أنه حتى في الأدب والفنون محنة الإقامة الجبرية في المنزل أو الحجر الصحي في المستشفى قد تكون منحة لإبداع أروع الاعمال الأدبية.
خذ على ذلك مثلا ما حصل مع شاعر العربية المبجل أبي تمام الطائي فأثناء رجوعه من خرسان مر على صديقه أبي الوفاء ابن مسلمة في مدينة همذان فأكرم مثواه وأبقاه عنده لعدة أيام. ما حصل بعد ذلك أنه نزل الثلج بكثافة على همذان لدرجه أنه (حجر) ومنع أبي تمام من إكمال سفره فقال له صاحبه (وطن نفسك على البقاء، فإن الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان) وحتى يقوم ابن مسلمه بتسلية أبي تمام وتخفيف أمر (العزل المنزلي) الطويل عليه فتح له خزانة كتبه الضخمة الموجودة بداره. بعض أهل الأدب يقولون إن أبي تمام في اختياراته الشعرية أشعر وأجود منه في نظمه للشعر وإن صدق هذا النقد الأدبي فلنا أن نشعر بالامتنان لذلك الشتاء الثلجي الذي أجبر شاعرنا النحرير على العزل المنزلي في دار ابن سلمه ومطالعة نوادر الكتب واكتشاف شوادر الاشعار لينتج لنا خمسة كتب أدبية مهمة في الشعر من أبرزها ديوان (الحماسة) الذائع الصيت والفائق التأثير.
ولننتقل من زمهرير خرسان إلى كآبة ليالي الشتاء السويسري ومن مبجل الشعر العربي أبي تمام إلى مبجل الشعر الإنجليزي اللورد بايرون والذي نستدعيه هنا ليس لأنه توفي نتيجة انتشار وباء التيفوئيد في اليونان عام 1824م ولكن بسبب دور الحجر المنزلي في تحفيز روائع الأدب. في شتاء عام 1816م كان الشاعر المنبوذ اللورد بايرون يقيم في منزله الفخم على ضفاف بحيرة ليمان السويسرية ويستضيف في بيته الشاعر الانجليزي الشاب العبقري بيرسي شيلي وزوجته الروائية ماري شيلي. في تلك السنة وبسبب من ثورة بركانية هائلة في اندونيسيا نتج عنها رماد كثيف غطى سماء الأرض وعكس اشعة الشمس ولهذا أصاب أوروبا شتاء كاتم في ظلمته وبرودته. سوء الأجواء الخارجية اضطرت اللورد بايرون وضيوفه على البقاء لفترات طويلة في المنزل ولهذا اقترح اللورد بايرون في إحدى الامسيات على إقامة مسابقة بينهم من يستطيع أن يؤلف قصة رعب تحاكي الأجواء المظلمة والفظيعة التي يعيشون فيها. ومن ذلك العزل المنزلي الشتوي جاء الالهام للشابة الرقيقة ماري شيلي لإبداع رواية المعروفة (فرانكشتاين) والتي تدور عن مخلوق بشع ومرعب تم تجميع اجزائه من الجثث وهذه الرواية قد تكون أول رواية في مجال أدب الرعب والجريمة وذات تأثير كبير في انتاج تيار أدبي غربي جديد يسمى الأدب القوطي.
مرارا وتكرارا في تاريخ الأدب أنتجت مثل هذه الفترات الزمنية المركزة والمكثفة أثناء الحجز المنزلي العديد من أبرز الاعمال الأدبية وكدليل إضافي خذ على سبيل المثال خبر الروائي البريطاني ذو الأصول اليابانية كازو إيشيغورو والحاصل على جائزة نوبل في الادب عام 2017 الذ حصل على شهرته ومكانته الأدبية المرموقة نتيجة تأليفه لرواية (بقايا النهار) والتي يعترف بأنه كتبها خلال أربعة أسابيع فقط عندما (حجز) نفسه في شقته الصغيرة جنوب لندن وعمل بشكل مكثف ولساعات طويلة يوميا حتى ينجزها.
إذا كان الحجر المنزلي القصير لعدة أسابيع أو أشهر أثمر نماذج متعددة من روائع الادب العالمي فما بالك بالسنوات الطويلة التي يقضيها بعض الادباء والشعراء في العزلة المنزلية الاختيارية. جميعنا يعلم أن شاعر العربي الكبير أبي العلاء المعري يحمل لقب (رهين المحبسين) لأنه كان حبيس العمى وحبيس قعر منزله ولكن ليت شعري هل كان لتك الإقامة المنزلية والعزلة المجتمعية دور في عبقريته المشهورة. الجدير بالذكر أن أبا العلاء المعري لم يحبس نفسه في بيته إلا بعد أن تخطى سن الأربعين وحتى تلك الفترة لم يكن بعد قد أنتج أياً من أعماله الأدبية والفكرية الكبرى مثل رسالة الغفران وشرح ديوان الحماسة وكتاب معجزة أحمد واللزوميات ويبدو أن للعزلة المنزلية دور كبير في تشكيل فكره الفلسفي وأرثه الأدبي. ونفس هذه الظاهرة يمكن أن نسقطها بشيء من التجوز على عملاق اللغة العربية الحديثة إلا وهو الاديب الكبير عباس محمود العقاد فهو في بداية حياته الفكرية أشتهر فقط بمقالاته الصحفية وببعض معاركه الأدبية المفتعلة لكن مرحلة النضج الفكري البارز له كان في آواخر عمره عندما أقام في شبه عزله في شقته الشهيرة في مصر الجديدة والتي انشاء فيها صالونه الأدبي المعروف. وخلال هذه الفترة من شيخوخة العقاد بدأ في كتابة أهم وأبرز انتاجه العلمي والمتمثل في سلسلة كتب (العبقريات) والعديد من كتبه الفلسفية والفكرية وكتب مقارنة الأديان.
وقبل مغادرة مجال العزل المنزلي وتحفيزه للإبداع الادبي تجدر الإشارة السريعة (لضيق فضاء المقال) لموضوع ذو صله وهو فرض (الإقامة الجبرية) على العديد من الشعراء والادباء والمفكرين وما كان أثر ذلك فيما نحن فيه. الحضارة الغربية تفتخر بعصر النهضة في القرن الخامس عشر وعصر الانوار في القرن الثامن عشر وأحد أهم رموز حركة التنوير الأوروبية هو الأديب والمفكر الفرنسي دينس ديدرو صاحب فكرة ورئيس تحرير الموسوعة الفرنسية ذات التأثير البالغ الأثر في تشكل الفكر الغربي الحديث. في سن السابعة والثلاثين وبسبب انحرافاته الفكرية الصادمة للمجتمع تم اعتقال ديدرو لفترة من الزمن ثم أطلق سراحه بشرط أن يخضع للإقامة الجبيرة في منزله وخلال ذلك الحجر المنزلي بدأت بواكير تنفيذ مشروع حياته الكبير في انتاج موسوعة الادب والعلوم والمهن.
ومن الأمور التي يجدر الإشارة إليها ولو بعجالة أنه قد تضطر الظروف البعض إلى (الاختباء المنزلي) وعليه قد تتاح الفرصة لهم إما لكتابة مذكراتهم خلال فترة الاختفاء البيتي أو تأليف كتب أو روايات فريدة. خير مثال على ذلك الفتاة المراهقة اليهودية آن فرانك Anne Frank والتي توارت هي واسرتها في علية أحد المنازل في هولندا وذلك للفرار من الاضطهاد النازي لليهود. لقد قامت تلك الفتاه بكتابة مذكراتها اليومية عن مرحلة الاختباء التي استمرت لمدة سنتين ونشرت لاحقا في كتاب واسع الانتشار جدا حمل عنوان (مذكرات فتاه صغيرة) وتحول لفلم سينمائي كما تم تحويل مخبأ الاسرة السري إلى متحف مشهور في مدينة أمستردام.

الحجر الصحي ومرض الكتابة
 بحق المرأة كائن غريب فعلى الرغم من كونها أكثر مخلوق ملازم للمنزل إلا أنها يبدو لم تتأثر كثيرا من الفرضية التي سقناها بأن البيت يحفز الابداع بل أن الادب النسوي لا ينتفش إلا في لحظة مغادرة المرأة لحصنها البيتي. ولهذا في الغالب تحتاج المرأة أو الفتاه إلى محفز ودافع أقوي لإطلاق شحنتها الابداعية ومواهبها الأدبية وهذا يتمثل أحيانا في تعرض المرأة لمؤثر إضافي أثناء اقامتها في المنزل مثل أن تتعرض لمرض أو وعكة صحية تتوجب (حجر) إضافي لها في المنزل.
في أوائل مراحل الشباب تعرضت الفتاة الشقية أجاثا كريستي لمرض أجبرها على ملازمة سريرها في المنزل لعدة أيام وتحت توجيهات ونصائح والدتها السيدة كلارا بدأت تلك الشابة في تجزيه الوقت بكتابه قصة قصيرة حملت عنوان (بيت الجمال). ومن هذه الوعكة الصحية تسلل مرض الكتابة للسيدة أجاثا كريستي (المشهورة بملكة روايات الجريمة) لتصبح واحدة من أكثر الكتاب انتشارا وشهرة لدرجة أنه يتوقع أن عدد مبيعات رواياتها بلغ أكثر من بليونين نسخة. ومن أشهر روائية بريطانية أجاثا كريستي إلى أشهر روائية أمريكية مارغريت ميتشل صاحبة الرواية البارزة (ذهب مع الريح) حيث نجدها هي الأخرى تتسبب وعكة صحية في ملازمتها للبيت. في سن السادسة والعشرين تعرضت السيدة مارغريت ميتشل لجرح في كاحل رجلها أجبرها على البقاء في سريرها بالمنزل حتى تتعافى وبنصيحة من زوجها هذه المرة أخذت تسري عن نفسها بالتجهيز لروايتها الوحيدة والفريدة والتي استغرقها تأليفها ستة سنوات كاملة.
وفي أوائل بواكير الشباب أصيب الأديب العربي الكبير على أحمد باكثير بمرضى الحمى الذي اقعدته تماما في منزله وكان غاية أمنياته أن يستطيع المشي ليخرج ولو للحظات من المنزل ومن هنا جادت قريحته الشعرية قصيدته (دعيني أيتها الحمى) والتي لفتت الأنظار لملكته الأدبية الجيدة. وما أن تعافى باكثير من الحمى حتى أصيب بمرض الكتابة وبدأ المشاور الطويل في كتابة الاعمال الروائية والمسرحية الخالدة.
وفي مقابل أجاثا كريستي ومارغريت ميتشل وعلى أحمد باكثير الذين بدأوا مشوار الادب بالحجر الصحي المنزلي نجد العديد من مشاهير الادباء والشعراء في فترات متعددة من حياتهم أجبروا على الإقامة في منازلهم بسبب تفاقم شدة المرض عليهم. من ذلك مثلا الشاعر الإنجليزي الشاب جون كيتس (أحد أبرز رموز حركة الشعر الرومانتيكية مع اللورد بايرون وبيرسي شيلي السالفين الذكر) الذي أصيب بمرض السل وتوفي في سن السادسة والعشرين. وكذلك الاديب الفرنسي البارز مارسيل بروست (صاحب رواية البحث عن الزمن المفقود) والذي عانى طوال عمره من مرض الربو ولهذا كان يتجنب الخروج للمنزل لدرجة أنه في آخر ثلاث سنوات من عمره لم يكن حتى يغادر غرفة نومه المقفلة بستائر كثيفة.
وختاما أنا ما زلت في حيرة من عبارة الشاعر الإنجليزي توماس إليوت (صاحب قصيدة الأرض اليباب والحاصل على جائزة نوبل في الادب) عندما قال: البيت هو المكان الذي يبدأ منه المرء (Home is where one starts from)، فهل كان يقصد بداية الولادة أم بداية الكتابة !!!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق