الخميس، 30 أبريل 2020

دور (المريض) العربي في علاج البشرية

المرضى العرب أكثير تأثيرا في الطب من الأطباء العرب !!

 
د. أحمد بن حامد الغامدي
للأسف الشديد منطقتنا العربية تستحق بجدارة التوصيف السياسي الدولي لها بأنه (حزام الازمات) وذلك لتجذر الثلاثي النكد في جنباتها منذ قرون طويلة (الجهل والمرض والفقر) وفي أزمة وباء الكورونا الأخيرة أكملنا الضلع المفقود وربعنا المثلث. البعد الجديد في منظومة الكوارث العربية هو ضلع العبث والعبثية والتي هي وليدة تزاوج وتمازج الجهل مع القهر. فبعد مهزلة اكتشاف جهاز الكفتة الطبي للواء عبدالعاطي التي حصلت قبل سنوات تشهد الساحة الإعلامية العربية هذه الأيام تزايد تداول (الخلطات والمتبلات) وليس الوصفات الطبية المزعومة لعلاج الوباء القاتل. المشهد العبثي المنتشر حاليا هو اقتراح وصفات طبية لعلاج مرض الكورونا بالغ الخطورة باستخدام الفول والشلولو والكركم والسماق وعصير الليمون والشاهي الساخن !!.
مرة أخرى نتأسف بشدة أنه ليس للعرب في العصر الحديث أي دور ملموس في تقديم أي نفع للبشرية في الجائحة الوبائية الأخيرة بل من العجائب (والعجائب جمة كما قال الأول) أننا في وقتنا الحالي أقل نفعا للبشرية عما كنا قبل قرن من الزمان. والمهزلة الكبرى أننا في تلك الفترة لم تكن منفعتنا للإنسانية أننا تقمصنا دور (الطبيب) بل لأننا أتخذنا دور (المريض).
يعتبر الطبيب الألماني وعالم الاحياء الدقيقة روبرت كوخ أحد أهم علماء الجراثيم والامراض المعدية على الاطلاق ولهذا استحق بكل جدارة الحصول على جائزة نوبل في الطب عام 1905م نظير اكتشافه وعزله للبكتيريا المسببة لمرض السل كما إن له أبحاث مهمة تتعلق بالميكروبات المسببة لأمراض وأوبئة الملاريا والطاعون والجمرة الخبيثة وغيرها. ومن هنا ندخل لدور (المريض) العربي في علاج البشرية حيث انتشر وباء خطير لمرض الكوليرا في مصر في عام 1882م وبحكم أن روبرت كوخ كان في تنافس شديد مع أسطورة العلم الفرنسي لويس باستور في اكتشاف المكروب المسبب لمرض الكوليرا لهذا سارع كوخ للسفر إلى مصر. وفي مستشفى اليوناني بالإسكندرية بدأ روبرت كوخ أبحاثه المتواصلة لعزل الميكروب وهنالك توصل إلى نتائجه الأولية بأن هذا المرض القاتل يتسبب به مكروب يدعى بكتيريا الضمة vibrio  وليس هذا وحسب بل أن كوخ أثناء إقامته في مصر أجرى كذلك بعض الأبحاث الطبية لمحاولة تحديد سبب مرض الدوسنتاريا. الجدير بالذكر أن روبرت كوخ في بحثه المنشور حول دراسته عن وباء الكوليرا في مصر يشكر الاثنا عشر مريضا الذي طبق أبحاثه عليهم كما لم يفته أن يذكر أهمية جثث الموتى العشرة التي ساعدته كثيرا في عزل الميكروب القاتل.
ومن وباء الكوليرا بالديار المصرية إلى وباء الملاريا في البلاد الجزائرية ومن مدينة الإسكندرية إلى مدينة عنابة نلتقي مرة أخرى بطبيب أجنبي ومريض عربي غيروا وجه التاريخ الطبي. لقد دخل الطبيب الفرنسي شارل لافران التاريخ من أوسع أبوابه ليس فقط لحصوله على جائزة نوبل في الطب عام 1907م ولكن أيضا لإسهامه في اكتشاف سبب أحد أكثر الامراض تأثيرا في تاريخ البشرية الا وهو مرض الملاريا. طريق المجد الذي سار عليه لافران بدأ في عام 1878م عندما وصل إلى مدينة عنابة الجزائرية ولقد ساهمت دماء الجزائريين (المرضى وليس المجاهدين للاحتلال الفرنسي) في تمكينه من اكتشافه الطبي الكبير. لاحقا أنتقل لافران للعمل في المستشفى الفرنسي العسكري في مدينة قسنطينة الجزائرية واهتم كثيرا بتحديد سبب مرض الملاريا المتفشي في صفوف جنود الاحتلال الفرنسي وكذلك بين السكان. وهنا استطاع لافران أن يكتشف بعد تشريحه لجثث العديد من المرضى بالملاريا أن دماءهم تحتوي على ميكروب طفيلي يدعى Plasmodium والذي تم تعريبه ليعرف باسم المُتصوِّرة. وللتأكد من صدقية هذا الاكتشاف قام لافران في مرحلة تالية بفحص عينات دماء 192 شخص من مرضى الملاريا (جلهم من الجزائريين وبعض الجنود الفرنسيين) ووجد أن 148 مريض منهم تحوي دمائهم على هذا الميكروب الطفيلي.
وما زلنا مع دور المرضى العرب في تقدم الطب الحديث وأحداث قصتنا هذه المرة تقع في البلد الجميل تونس الخضراء ومع الطبيب الفرنسي شارل نيكول الحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1928 ميلادي. منذ عام 1903م تولى هذا الطبيب الفرنسي إدارة فرع معهد باستور المقام في مدينة تونس العاصمة واستمر في منصبه ذاك لمدة جاوزت الثلاثة عقود لدرجة أنه توفي وهو مقيم في الديار التونسية. ما يهمنا هنا أنه في عام 1909م انتشار وباء خطير وقاتل لحمى التيفوئيد (التيفوس) في الأراضي التونسية لدرجة تكدس جثث المرضى على مداخل المستشفيات. لفترة من الزمن عمل الدكتور شارل نيكول في المستشفى الصادقي (حاليا هو مستشفى عزيزة عثمانة الجامعي) بساحة القصبة بمدينة تونس وهنا لاحظ أن المرضى المصابين بوباء التيفوئيد عند مخالطتهم للمرضى الاخرين في غرفة الانتظار بالمستشفى ينقلون لهم الوباء. بينما لو تم تغيير ملابس المرضى بالتيفوئيد وجعلهم يستحمون لحظة دخولهم للمستشفى تقل كثيرا احتمالية تسببهم في نقل عدوى المرض بل أن ملابس المرضى المغسولة بالماء الساخن لا تنقل المرض. من هذا وذاك استنتج شارل نيكول بشكل سليم أن النقال لمرض التيفوئيد هي حشرة القمل المجودة بملابس المرض ولهذا توصل لمعلومة مهمة لتقليل انتشار المرض عن طريق فقط رفع مستوى النظافة الشخصية في المناطق الموبئة. وهذا الاكتشاف البسيط منح شارل نيكول جائزة نوبل في الطب حتى ولو لم يساهم في اكتشاف الميكروب المسبب للمرض أو اكتشاف مصل علاجي له أو لقاح وتطعيم يمنع حصوله ابتداءً مما يدل خطورة ذلك الوباء وسعادة الأطباء في التخفيف بأي قدر من غلوائه وهو ما كان للمريض العربي بشكل أو آخر شرف المساهمة فيه.
ونختم بذكر رابع طبيب يحصل على جائزة نوبل في الطب وله ارتباط بنا ولكن هذه المرة مع إخوتنا في الدين والعقيدة حيث ننتقل إلى أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان وهو إندونيسيا وبالتحديد جزيرة جاوة وعاصمة البلاد جاكرتا. لقرون طويلة خضعت إندونيسيا للاحتلال الهولندي حيث كانت إحدى أهم المستعمرات الاقتصادية لها ومن باب الاستفادة القصوى من مواردها الزراعية والبشرية اهتم الهولنديين بتقصي أسباب مرض البري بري الذي يضعف بشدة الحيوية الجسمانية والحركية للشخص مما يضعف انتاج المزارع. ولهذا تم في عام 1897م ارسال الطبيب الهولندي كريستيان أيكمان والذي ليس فقط اكتشف سبب هذه المرض وأنه يعود إلى نقص فيتامين ب 1 الذي يوجد في قشر الأرز ولكن الأهم من ذلك اكتشافه لأول مره مفهوم (الفيتامينات). وبسبب تعرف أيكمان للفيتامينات ووجودها في المواد الغذائية وارتباطها الكبير بصحة الانسان، لذا استحق بجدارة أن يحصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1929 ميلادي.
بقي أن نقول إنه في الختام نحتاج أن نذكر بكتاب حمل اسم (تذكرة داوود) وسبب التذكير بهذا الكتاب بالذات لأنه آخر اسهام علمي عربي كبير في مجال العلاج الطبي والأدوية الصيدلانية وهو من تأليف الطبيب المسلم المشهور داوود الانطاكي والذي توفي بمكة المكرمة عام 1008 هجري وهو بهذا آخر علماء الطب العرب ذوي الشهرة العالمية المرموقة. ومنذ وفاة داوود الانطاكي وحتى الان وبعد مرور أربعة قرون كاملة لا يوجد لأهل الإسلام إسهام حقيقي بارز ومميز في تقدم علم ومهنة الطب. للأسف الشديد أمتنا الإسلامية والعربية أصابها الوهن الشديد وأصبحت بالفعل عالة على العالم لدرجة أن (أهل المرض) منها وليس (أهل الطب) هم من ساعدوا بشكل أو آخر في تحقيق بعض أهم الاكتشافات الطبية الحديثة.
ومع ذلك كلمة حق يجب أن تقال وهي أن أهل الطب في عالمنا الإسلامي وإن كانوا لم يتوصلوا لاكتشافات مبهرة وتاريخية ولكنهم في الغالب على درجة عالية من (المهنية) الصحية و(الخبرة) الطبية والتميز السلوكي والتفاني في الإخلاص. وفي زمن الكورونا الحالي الجميع وبجميع اللغات البشرية يلهج بالدعاء ويصدح بالثناء على جهود الأطباء وجميع العاملين في القطاع الصحي على دورهم البطولي في التصدي لهذه الجائحة المريعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق