الجمعة، 23 أبريل 2021

( إبرة التطعيم وتنشيط الذاكرة )

الألم والذاكرة توأمان لهذا لا عجب أن نتذكر مع تطعيم الكورونا تطعيم الجدري 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 وأخيرا قبل أيام تشجعت لاتخاذ الخطوة المنتظرة بأخذ الجرعة الأولى من اللقاح ضد مرض الكورونا بعد ترقب للتأكد من نجاعة التطعيم وبعد توتر بسبب القلق من وخز الإبر. من الطريف أن جزء من التردد بأخذ حقنة التطعيم نتائج من الخوف من الألم وإن كان مغلف بادعاء الحكمة في التريث بسلامة اللقاح الجديد وفاعليته. من العجيب أن ظاهرة تفادي الذهاب للمستشفيات والعيادات الصحية بغرض أخذ الحقن الطبية أو سحب الدم هي ظاهرة ملموسة بشكل جلي لبعض الأشخاص بسبب إصابتهم المحتملة باضطراب نفسي يدعى رهاب الإبر أو فوبيا الحقن (التريبانوفوبيا). وعلى خلاف الاعتقاد السائد من أن الأطفال هم فقط من يخاف من شكل وألم إبرة الحقن الطبية فالدراسات النفسية المتعلقة بمرض فوبيا الإبر تشير إلى أن نسبة وجوده في شريحة البالغين قد تصل إلى رقم مرتفع يبلغ 22 بالمائة لديهم هلع حاد من الحقن الطبية. فالحقيقة العارية إذا أن الجميع يخشى من وخز الإبرة فالصغار كما الكبار هم جميعا سواسية تم تخويفهم عبر القصص والحكايات من أي طرف معدني حاد. فجميع الأطفال تم غرس الخوف في نفوسهم من الإبر من خلال قصص الأطفال مثل حكاية (الجميلة النائمة) وكيف تم تفعيل اللعنة الشريرة ضدها من خلال جرح إصبعها بسن إبرة المغزل. وفي حكايات وروايات الكبار ورد في عدد من الأعمال المسرحية لشكسبير ذكر وخز الإبرة في سياق الشر والشؤم كما نجده في مسرحية هاملت وتاجر البندقية بينما في مسرحية ماكبث نجد المقطع الرهيب عندما تعلن الساحرة الثانية البغيضة قولها (عن طريق وخز إبهامي، تأتي أشياء شريرة). 

وبالفعل قديما قبل اكتشاف المضادات الحيوية كان حادث خفيف مثل وخز الإبهام قد يأتي بأشياء شريرة وقد سبق الإشارة إلى إن الطفلة الألمانية هايدغارد أصيبت بالتسمم البكتيري المميت نتيجة تعرض إحدى أصابعها لوخز إبرة ملوثة وقد أنقذ حياتها اكتشاف والدها الطبيب الألماني غرهارد دوماك لأدوية السلفا التي حققت له كذلك جائزة نوبل في الطب. وكذلك خدش يكاد لا يذكر عن طريق شوكة وردة أوشك أن يتسبب في وفاة رجل شرطة إنجليزي يدعى أبرت ألكسندر الذي تعرض هو الآخر لتسمم بكتيري تم علاجه بأول كميات تم استخلاصها من عقار البنسلين. والمقصود أن حياة البشر في القديم كانت في بعض الظروف على محك الخطر المميت بسبب (وخزة إبرة) سواء كانت بسبب كائنات حية مثل لدغة العقرب أو لسعة الدبور أو كانت مجرد خدشة شوكة ملوثة أو وخزة دبوس مسمم. من مثل هذه الذكريات المؤلمة ترسب ومنذ الأزل في أغوار النفس البشرية الخوف والفزع من الإبر ولاحقا من الحقن الطبية.

للكاتبة والروائية السورية غادة السلمان عبارة متداولة تقول فيها (إن الذاكرة والألم توأمان) والعجيب في الأمر أن علماء الأعصاب الألمان توصلوا قبل عدة سنوات لاكتشاف منطقة في قشرة دماغ الإنسان يرتبط فيها الشعور بالأم مع تسجيل الذاكرة. وبالإذن من القارئ العزيز إذا أثقلت عليه بذكر الاسم العلمي الغريب لتلك المنطقة من الدماغ والتي تسمى (المركب القذالي الوحشي LOC) والمرتبطة بالإدراك والوعي ولها علاقة كذلك بالذاكرة وقد وجد العلماء أن هذه الأنشطة الذهنية في ذلك الجزء من عقل الإنسان تتأثر بالألم. قد يكون هذا اكتشاف طبي حديث، ولكن في الواقع كتب تاريخ الطب سجلت وقائع تجربة علمية طريفة ومشهورة نسبيا حملت عنوان (تجربة وخزة الدبوس) كما عرفت أيضا بالعنوان الأكثر دراما (العلاج بالصدمة). في عام 1911م كان طبيب الأعصاب السويسري إدوارد كلاباريد يحاول علاج مريضة تعاني من حالة حادة من فقدان الذاكرة. لقد كان الطبيب كلاباريد يقوم بتعرف نفسه لهذه السيدة وبعد دقائق قليلة تنسى اسمه وتنسى تماما أن تكون تعرفت عليه. وفي إحدى الجلسات العلاجية قام كلاباريد بتعريف نفسه للسيدة مرة أخرى ثم قام بمصافحتها بعد أن وضع بشكل غير ملحوظ دبوس في راحة يده وكما هو متوقع أحست السيدة بألم وخزة الدبوس فسحبت يدها بسرعة. لقد كانت تلك السيدة دائما تنسى شكل وهيئة الدكتور كلاباريد بعد دقائق معدودة ومع ذلك بعد تلك التجربة الأليمة والصادمة وعندما قابلت الدكتور في اليوم التالي ومد يده لمصافحتها رفضت السيدة أن تصافحه خوفا من تجربة الأمس وهذا عزز الفكرة العلمية لدى الأطباء أن الألم في بعض الحلات يكون (منشط) للذاكرة أو توأم لها حسب وصف الروائية غادة.

في حالة المجتمعات ما يتم تنشيطه بسبب وخز الإبر وغرز الحقن هو (الذاكرة الجمعية) وليس الذاكرة الفردية ولهذا لا عجب عندما تجتمع مع لفيف من الأقارب أو المعارف بعد أن يقوم أحدهم أو عدد منهم بتلقي تطعيمات مرض الكورونا أن تسترجع (الذاكرة الجمعية) لهذه الشلة من الأصدقاء أو الثلة من الأقرباء قصص وأخبار الطفولة مع التطعيمات المدرسية. الغالبية الكاسحة من أبناء الجيل الجديد يتلقون التطعيمات الصحية واللقاحات الطبية وهم في سن مبكر جدا قبل الدخول للمدرسة ولهذا غالبا لا ذكريات لهم من وقائع (ملحمة التطعيمات). أما أبناء جيل الطيبين والزمن الجميل كما يقال فجميعهم دون استثناء عاصروا حالة الفزع والرعب من (الحملات والغزوات) الصحية لتطعيم طلاب المدارس بالعديد من اللقاحات الطبية التي ولدت عصر الرعب والعقد النفسية. مع وخزة إبرة لقاح الكورونا تنشطت ذاكرة البعض منا لاسترجاع أحداث وأهوال حملات وحفلات التطعيم ضد مرض الجدري أو الحصبة والتي كانت تتم (ويا للهول) ليس بوخزة إبرة واحدة، ولكن عبر تشريط الساعد الأيسر مثلا بالعديد من الغرز المتتالية والمتتابعة لتشكل جرح غائر على شكل دائرة. هذه العملية الصحية لإعطاء اللقاح كانت تسمى في الزمن الغابر (بالتينة) أو التيانه وفي بعض المناطق اشتهرت باسم التوتينة ويبدو والله أعلم أن التسمية من المحتمل هي تحريف لكلمة (كرنتينه) وهي كما هو معلوم مركز الحجر الصحي وفي الغالب يكثر فيها تطعيم الأشخاص المحجوزين باللقاحات ضد الأمراض المعدية مثل الجدري والحصبة والملاريا. الجدير بالذكر أن من يتتبع الأخبار العالمية المصاحبة لانتشار حملات التطعيم باللقاح المضاد للكورونا في العديد من بلدان العالم يجد أن وخز الإبر له دور السحر في تنشيط الذاكرة الجمعية لدى الشعوب الأخرى. فتجد تلك الأخبار الدولية تستحضر في نفس الوقت الحملات الصحية القديمة للتطعيم في فترة الستينيات من القرن العشرين ضد مرض شلل الأطفال أو ما تلا ذلك في السبعينيات من التطعيم ضد الحصبة والجدري.

بقي أن أقول في الختام وقبل أن نغادر أنه من الأمانة أن أعترف لقارئي العزيز أن عنوان هذا المقال (إبرة التطعيم وتنشيط الذاكرة) ليس المقصود به بالدرجة الأولى ما سبق ذكره عن تنشيط (الذاكرة الجماعية) وإنما ما سوف يأتي ذكره عن (الذاكرة المناعية) !!. قبل عدة أيام عندما ذهبت مع غيري من مئات الآلاف من البشر على مستوى العالم إلى مراكز التطعيم لأخذ وخزة الإبرة بحقنة اللقاح ضد مرض الكورونا في الواقع ما كنا نقوم به هو باللغة الطبية (تفعيل الذاكرة المناعية) وذلك من خلال تنشيط قدرة الجهاز المناعي في جسم الإنسان على التعرف بسرعة ودقة وكفاءة على فيروس وباء الكورونا المعروف باسم (كوفيد 19). فكرة تنشيط عمل جهاز المناعة تقوم على آلية (المحاكاة) لتعرض الجسم للجراثيم والفيروسات حيث يتم حقن الجسم من خلال إبرة اللقاح بسائل يحتوي على فيروسات ميتة أو حتى أجزاء من الحمض النووي لبعض الفيروسات. وهنا يأتي دور الاستجابة المناعية المكتسبة لجسم الإنسان والتي تتم من خلال ما يسمى خلايا (الذاكرة) البائية memory B cell وخلايا (الذاكرة) التائية وهي إحدى أنواع خلايا الدم البيضاء والتي يتخصص دورها في إنتاج الأجسام المضادة والتي (تتذكر) وتتعرف على فيروس الكورونا في حال تسل إلى جسم الإنسان ومن ثم تقوم بالقضاء عليه قبل أن يتكاثر وينتشر في الجسم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق