د/ أحمد بن حامد الغامدي
ليس من فراغ جاءت تسمية كوكب المريخ بالكوكب الأحمر فمنذ زمن البابليين وقدماء الاغريق تم الربط بين هذا الكوكب وبين مظاهر الخصام والصراع ولهذا يرد ذكر المريخ في الأساطير القديمة مع المزاج السيئ والحرب والاعتداء والاغتصاب. وبحكم أن مجال علم الفلك من المواضيع العلمية المحببة لدي سواءً من خلال قراءة الكتب أو مشاهدة الأفلام الوثائقية فقد شد انتباهي عبر السنين كثرة الأمور الجدلية المرتبطة بكوكب المريخ. الطريف في الأمر أنه في واقعنا العربي وبالرغم من بعدنا عن دنيا الفلك وعالم المريخ ومع ذلك ما تكاد تأتي سيرة ذلك الكوكب الأحمر حتى تحتدم المشاكل. عالم الفضاء المصري عصام حجي الذي يعمل بوكالة الفضاء ناسا كانت بداية شهرته نتيجة لخبرته البحثية في مجال دراسات اكتشاف المياه تحت سطح الأرض باستخدام أجهزة الرادار المثبتة على الأقمار الصناعية. وكجزء من مهام التجهيز لمسبار الفضاء الأمريكي فينيكس الذي أطلق نحو المريخ عام 2007م والذي أرسل لاكتشاف المياه على المريخ ولهذا قام عصام حجي بتدريب مجموعة من علماء الفضاء على هذه المهمة العلمية في الصحراء الغربية بجمهورية مصر العربية والتي تشبه البيئة الجيولوجية على سطح القمر. وعندما سأل ضابط مصري عند نقطة التفتيش في منطقة الواحات عن طبيعة عمل الدكتور عصام حجي رد عليه بقوله (بدور ميه في المريخ) وبسبب بساطة تفكير الرجل العسكري وعنجهيتة ظن أنه يسخر منه فرد عليه بقوله (شكلك قليل الأدب وعايز تتربى).
وقبل حوالي عشر سنوات من تلك الحادثة أي في عام
1997م عندما نجحت الولايات المتحدة وفي يوم عيد الاستقلال الأمريكي من إنزال مركبة
الفضاء باثفايندر على سطح القمر بلغ بي العجب مبلغه وأنا أتابع خلال ذلك الصيف ولعدة
أشهر (الجدال) العربي في زاوية القراء في جريدة الشرق الأوسط والردود المتبادلة حول
المشككين لحقيقة قدرة الأمريكان من الهبوط بأجهزة علمية على سطح المريخ. وعليه لا
غرابة هذه الأيام أن نجد نفس عينة وطبيعة (الجدل) العربي حول مدى إمكانية الإخوة
الكرام في الإمارات العربية المتحدة بتصنيع مركبة فضائية (مسبار الأمل) تصل للمريخ.
الإشكال يظهر من أن المهمة العلمية لمسبار الأمل هي دراسة الغلاف الجوي لكوكب المريخ
والتي تأتي دون خبرة علمية ملموسة سابقاً للأشقاء في هذا الجانب. في حين أنه قبل
ذلك بأربع سنوات فقط أي في عام 2016م ولأداء نفس تلك المهمة العلمية المعقدة لدراسة
غازات علاف المريخ اشتركت جميع الدول الأوروبية بالتعاون مع روسيا في تصنيع مركبة
الفضاء (مسبار تقصي الغازات TGO).
ومن خلال هذا المدخل عن ثنائية (المريخ - الجدل) في واقعنا العربي ربما نتفهم نوعا ما حالة الاختلاف حيال ما يتعلق بأخبار المريخ إذا علمنا أن هذا الأمر متكرر منذ القدم في تاريخ الرصد العلمي لذلك الكوكب الناري المثير للجدال والخصام. كما هو معلوم في منتصف القرن السادس عشر تسبب عالم البولندي نيكولاس كوبرنيكوس في زلزلة علم الفلك عندما توصل لنظرية أن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون (النظام الشمسي). بالطبع قاومت الكنيسة هذه البدعة العلمية لأن الإله المخلص بزعمهم يجب أن ينزل في مركز الكون وليس في كوكب عادي وبعد ذلك بحوالي نصف قرن تسببت البيانات التي رصدها عالم الفلكي الدنماركي تيكو براهي عن حركة كوكب المريخ في هزة فلكية ودينية إضافية. باستخدام نتائج الأرصاد الفلكية تلك توصل عالم الفلك الألماني يوهانس كيبلر إلى أن مدار كوكب المريخ إهليجي وليس دائرة تامة وأن الشمس تقع على إحدى بؤرتي (القطع الناقص) لذلك المسار. في الواقع منذ عهد الإغريق كان للإشكال الهندسية تقديس معنوي وكانت الدائرة تعتبر رمز الكمال ولهذا ثار (الجدل) عندما اكتشف الناس أن المريخ وغيره من الكواكب لا تدور حول الشمس في مدار دائري تام وإنما في شكل فراغي أقل سمو ومثالية.
الغالبية العظمى من كواكب المجموعة الشمسية
لها أقمار تدور حولها وبحكم إن أغلب هذه الأقمار هي في الأصل كويكبات صغيرة الحجم
تقع في أسر جاذبية تلك الكواكب كان من المفهوم نسبيا عدم وجود أقمار لكوكبي عطارد
والزهرة ولقربهما من الشمس سوف يتم جذب هذه الكويكبات نحو الشمس بدل أن تدور
حولهما. الإشكال الوحيد لفترة طويلة من الزمن كان كوكب المريخ فلم يكن يظهر له أي
أقمار ولهذا دار الجدل الفلكي حول أسباب ذلك. وبالرغم من أن علماء الفلك استطاعوا
في عام 1846م رصد قمر ترايتون لكوكب نبتون البعيد جدا جدا منا إلا أنهم لم يستطيعوا
رصد أقمار المريخ (فوبوس وديموس) إلا عام 1877م وذلك ربما بسبب صغر حجمهما. الإحراج
الكبير لعلماء الفلك أنه قبل اكتشاف أقمار المريخ بقرن ونصف من الزمن ذكر الأديب
الإيرلندي جونثان سويفت في روايته الشهيرة (رحلات جاليفر) وعند حديثه عن علماء فلك
الجزيرة الطائرة أنهم اكتشفوا لكوكب المريخ قمرين أحدهما اسمه فوبوس والآخر ديموس
(على اسم كلبي الصيد لإله الحرب مارس/المريخ). ليس هذا وحسب بل أن جونثان سويفت
ذكر في روايته تلك المسافة التي يبعدها كل من قمر فوبوس وديموس عن سطح المريخ
وسرعة دورانه حول كوكب المريخ والعجيب في الأمر أن الأرقام التي ذكرها قريبا نسبيا
من الواقع. ولهذا ثار (جدل) بين علماء الفلك والمؤرخين ما زال قائم حتى اليوم عن
كيفية توصل الروائي جونثان سويفت لهذه الأرقام العجيبة في الوقت الذي لم يعرف
علماء الفلك بوجود هذه الأقمار أصلا. ولهذا وكنوع من التكريم لذلك الأديب الملهم
قام علماء الفلك بإطلاق اسم (جونثان سويفت) واسم بعض الشخصيات القصصية في رواية رحلات
جاليفر على بعض الفوهات الموجودة على سطح المريخ وكذلك على قمر فوبوس.
المريخ كوكب الخوف والرعب
في نفس العام الذي تم فيه اكتشاف أقمار
المريخ فوبوس وديموس سوف تبدأ قصة جديدة (مثيرة للجدل) تغير نظرة البشر للمريخ من
كوكب يثير الفضول إلى كوكب يثر الخوف والرعب (بالمناسبة معنى كلمة فوبوس باللغة الإغريقية
الخوف فحين معنى ديموس الرعب). في تلك السنة أي عام 1877م وضع مدير المرصد الفلكي
لمدينة ميلان جوفاني شكياباريلي خرائط لسطح المريخ تظهر وجود خطوط مستقيمة فهم من
الترجمة الخاطئة للغة الإيطالية أنه أطلق عليها اسم القنوات. ومن هنا نشأ (وهم
عقلي) وخداع بصري لعدد كبير من علماء الفلك في بريطانيا وأمريكا وفرنسا استمر
لحوالي ثلاثين سنة حيث أوهموا أنفسهم بأنهم يشاهدون قنوات مائية ضخمة في خطوط
طويلة جدا ومتقاطعة محفورة بشكل اصطناعي على سطح المريخ. وكان من ضمنهم أحد أشهر
علماء الفلك في نهاية القرن التاسع عشر وهو الأمريكي بيرسيفال لويل الذي بلغ من
مهارته الفلكية ليس فقط تنبؤه باحتمالية وجود الكوكب التاسع في المجموعة الشمسية
وهو كوكب بلوتو ولكن أيضا تنبؤه بدقة عالية للمكان الذي يمكن أن يعثر فيه على ذلك
الكوكب المتوقع. ومع ذلك وقع لويل في الخطأ القاتل عندما انتقل من العلم إلى الوهم
والتخمين وقام بالزعم أن هذه القنوات حفرها كائنات حية أكثر ذكاء وقدرة من البشر وأن
هدفهم نقل المياه من الأقطاب المتجمدة شمال وجنوب المريخ إلى وسط الكوكب. ومن هنا
ظهرت القصة المثيرة للجدل والهلع حول المريخ وهي أنه كوكب على وشكل الجفاف وأن
سكان كوكب المريخ Martians
سوف يقومون قريبا بغزو كوكب الأرض وتدمير الحضارة البشرية.
لقد تسببت هذه الأفكار العلمية المزعومة في
انتشار حالة هلع وخوف شديدة في أوساط العالم الغربي وخصوصا في أمريكا وبريطانيا.
وفي هذه الأجواء المرعبة ظهرت في عام 1897م رواية الخيال العلمي ذائعة الصيت (حرب
العوالم) للكاتب البريطاني المعروف هـ ج ويلز وتدور أحداث هذه الرواية كما هو
معلوم عن تعرض الأرض لهجوم من قبل سكان المريخ. الطريف في الأمر أنه حصل في عام 1938م
وفي حادثتين منفصلتين قيام إذاعة BBC البريطانية وإذاعة CBS
الأمريكية ببث معالجة درامية لرواية حرب العوالم وأن سكان المريخ قد بدءوا بالفعل بغزو
مدينة لندن وولاية نيوجيرسي الأمريكية. وهذه (التمثيلية) الإذاعية التي صدقها
المستمعون تسببت في موجة هلع حادة في بريطانيا أما في أمريكا فبسبب حالة الهستيريا
تخندق المئات في أقبية بيوتهم وتسلحوا بالبنادق بينما حاول الآلاف الهرب من المدن
التي وقع عليها الغزو المريخي المزعوم.
ربما يتوقع البعض أن هذه الحالة المضحكة
والمخزية من الخوف والوهم من غزو سكان المريخ (اشتهر توصيفهم ورسمهم بالرجال الخضر
القصار القامة) قد انتهت في عصر العلم والتقنية الحديثة ولكن الواقع أن (موجات)
الهلع والجدل حول سكان المريخ تتكرر كل فترة وحين. من ذلك مثلا أنه في عام 1976م
ميلادي عندما كانت المركبة الفضائية الأمريكية فايكنغ واحد تدور حول المريخ وتلتقط
الصور لسطحه إثارة إحدى الصور جدل علمي وإعلامي هائل حيث أنه أظهرت جسم ما يحمل
معالم وجهة بشري طوله ثلاث كيلومترات. ومن هنا تجددت وانبعثت حاله الجدل حول حقيقة
وجود حضارة متقدمة على سطح المريخ ووجود كائنات ذكية (وربما شريرة) استطاعت أن تبني
ذلك الوجه الضخم (تبين فيما بعد أنه مجرد هضبة صخرية عادية) وكذلك أن تقوم بنحت
مجسمات أخرى على صخور المريخ تظهر على شكل أهرامات أو عمود شاهق الارتفاع أو
منحوتات على شكل أجسام بشرية. وبالرغم من إن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ووكالة
الفضاء الأوروبية وحتى وكالة الفضاء الهندية واليابانية (وحاليا الصينية والإماراتية)
قاموا بإرسال أقمار ومركبات فضائية مزودة بكاميرات تصوير دقيقة جدا قامت بمسح كامل
لجميع تضاريس المريخ ولم تثبت وجود هذه الأجسام المتوهمة إلا أن البعض ما زال ينساق
وراء نظرية المؤامرة وأن ناسا بالذات تعلم بوجود حضارة متقدمة وتخفي عن العالم هذه
الحقيقة المذهلة.
وفي مثل هذه الأجواء المشحونة بالوهم والخوف
(والجدل) ليس من المستغرب ظهور خرافة مريخية جديدة بدأت في الانتشار في السنوات
الأخيرة تعرف إعلاميا باسم (لعنة المريخ). بلا جدال يعتبر كوكب المريخ أكثر جسم
سماوي تم إرسال 75 مركبة فضائية لسبر أغواره ودراسته أغلبها كانت عبارة عن أقمار
اصطناعية مهمتها الدوران حول الكوكب في حين أن 19 من تلك المسابير العلمية هبطت
على سطح المريخ. ونظرا لقوة جاذبية المريخ يوجد احتمال كبير عن هبوط هذه المسابير
الفضائية أن تتحطم أو تتعطل وهذا ما حصل مع أول مركبة فضائية حطت على سطح المريخ
وهو المسبار السوفيتي مارس 2 والذي تحطم مباشرة على السطح في حين أن المسبار مارس
3 تعطل بعد أن بث بينات مختصرة استمرت لمد 14 ثانية فقط. ومع تكرر مثل هذه الأعطال
انتشرت شائعة تزعم أن سبب هذه الأعطال أو التحطيم لهذه المركبات الفضائية أن سكان
المريخ من الكائنات الذكية هي من يقوم بتحطيمها أو تخريبها. وخلال العقود الماضية أصابت
لعنة المريخ المزعومة حوالي ستة مركبات فضائية كان أخرها قبل أربع سنوات المركبة
الفضائية الأوروبية التي تحطمت على سطح القمر وكانت تحمل اسم عالم الفلك الإيطالي
شكياباريلي السالف الذكر والذي تسبب في زوبعة الخوف وكذلك والاهتمام البالغ
بالكوكب الأحمر.
بقي أن نقول في الختام أنه في نفس الوقت التي تثار فيها حالة من الهلع والترقب من وجود كائنات مريخية ذكية توجد حالة (جدال) محتدم بين العلماء بأن كوكب الأرض بالفعل قد تعرض لغزو من جهة المريخ قبل حوالي ثلاثة مليارات سنة. بعض النظريات العلمية المتداولة حاليا في الأوساط البحثية تزعم أنه قبل بلايين السنين كان كوكب المريخ يعج بمحيطات من المياه ومن المحتمل أنه ظهر فيها أنواع معينة من الكائنات المجهرية. ثم لاحقا وبطريقة ما بعد سقوط نيازك على سطح المريخ تم نزع بعض الصخور المحتوية على هذه الأحياء الدقيقة والتي قذفت إلى الفضاء ثم لاحقا سقطت على كوكب الأرض. هذا السيناريو العلمي الخيال يقال إنه حدث قبل ثلاثة مليارات سنة ومن هنا انتشرت الحياة على سطح الأرض بمعنى أنه في الماضي السحيق تم غزو الأرض بكائنات حية مجهرية قادمة من المريخ. نظرية (الجيل الثاني) التي تزعم أن الحياة بدأت في المريخ وانتشرت وتنوعت في الأرض تشهد حماس غريب من بعض العلماء من ضمنهم الدكتور عاصم حجي ومع ذلك ينبغي التنبيه على عدم (التهور العلمي) والاستعجال في الإعلان عن (اكتشافات) علمية خيالية لا تخلو من الجدل. في عام 1996م قام الرئيس الأمريكي السابق بل كلينتون بنفسه بالإعلان عما زعم بأنه أعظم اكتشاف علمي معاصر وهو اكتشاف علماء ناسا أن أحد النيازك التي عثر عليها عام 1984م في القطب الجنوبي هو في الواقع قطعة صخرية قادمة من المريخ وأنها كانت تحتوي على بكتيريا متحجرة وهذا أول إثبات أن الحياة يمكن أن توجد خارج الأرض. وبمجرد صدور هذا الإعلان الرئاسي المتسرع نشب جدال علمي حاد حول هذا الاكتشاف المزعوم والذي قام في حينه فريق بحثي بريطاني بتفنيده ورفضه.
الغريب أن كوكب واحد للمريخ وبعيد جدا عنا
عرضنا ولفترات طويلة لكل هذا الجدل فما بالنا لو قبلنا بالنظريات الحديثة في علم
الفلك التي تزعم أنه في بداية نشوء المجموعة الشمسية كان يوجد بها حوالي 30 كوكب
بحجم المريخ. وفي نظريات أخرى أن مدار كوكب المريخ (وكذلك بعض الكواكب الغازية) تتغير
وتتحرك عبر الزمن لدرجة أن مدار المريخ مع الزمن يزداد قربا من الشمس وبالتالي حسب
طريقة تفكير بعضهم هذا من شأنه أن يسهل أكثر عملية قفز وغزو رجال المريخ الخضر
لكوكب الأرض !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق