الجمعة، 23 أبريل 2021

( قاعدة فيثاغورس في عشق الرياضيات )


 عشق الرياضيات تحول عند البعض لطقوس وعبادات بل وحتى قتل المخالف !!

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 وافق الأسبوع الماضي مرور ذكرى (اليوم العالمي للمرأة) وبحكم أن المرأة نصف المجتمع الذي أعيش فيه فقد كان من الملائم أن أكتب مقالا ثقافيا عن تلك المناسبة. وفي مطلع هذا الأسبوع مرت ذكرى (اليوم العلمي للرياضيات) وبحكم أن الرياضيات توصف أحينا بأنها ( أم ) العلوم وهو المجتمع الذي انتسب له لهذا كان من الملائم للمرة الثانية على التوالي كتابة مقال حيال هذا المناسبات المتكررة.

(المحاور) و (الزوايا) و (النقاط) و (الدوائر) التي يمكن من خلالها مناقشة مجال وعلم الرياضيات عديدة ومتنوعة وربما من باب الملاطفة للزملاء الأفاضل من محترفي علم الرياضيات ومن لف لفهم (من أهل الإحصاء والهندسة بل وحتى المحاسبة والاقتصاد) أن نتطرق لبعض حالات الغلو والتعصب والجنون في عشق وتقديس الرياضيات. لعلم الرياضيات مكانة مرموقة في الإرث البشري والحضارة الإنسانية لدرجة أن الفيلسوف الإغريقي البارز أفلاطون كان يعتبرها بأنها أسمى صورة للمعرفة في حين أن العالم الأسطورة جاليليو اشتهر عنه وصفه بأن كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات وكذلك نجد أن الفيلسوف العربي الشهير الكندي ألف رسالة وكتاب خاص في أن الفلسفة لا تنال إلا بعلم الرياضيات. كل هذا سليم ولا غبار عليه ولكن الإشكال يأتي من (التعصب) المبالغ فيه والمتطرف نحو ((تقديس)) علم الرياضيات كما نجده لدى رمز علم الرياضيات الأكبر فيثاغورس وتلاميذه من اتباع المدرسة الفيثاغورسية.

لقد كانت فكرة فيثاغورس وتلامذته عن الأرقام الرياضية بأنها هي جوهر وروح كل الأشياء وأن الأرقام هي العنصر الأول والأبدي للكون وأنها شي نقي وسحري ومفتاح فهم الدين والفلسفة. تطور الأمر بعد ذلك لدرجة أن فيثاغورس وتلامذتها أن للرياضيات والأرقام هي بحد ذاتها (دين خاص) ومن ذلك مثلا أنهم يكنون إجلالا خاصا للأعداد التامة مثل العدد 6 والعدد 28 اللذان يساوي كل منهما مجموع قواسمه. كما خصوا العدد 10 باحترام عظيم وأطلقوا عليه اسم الرابوع الإلهي كما جعلوا العدد المربع 4 رمز للعدالة والإنصاف. وبحكم أن الأرقام في عقيدة فيثاغورس هي أساس الجمال ورمز القدسية ولهذا عندما توصل أحد تلاميذ فيثاغورس والمدعو هيبياسي إلى إثبات أن جذر العدد اثنين √2 هو رقم غير حقيقي irrational   وهذا ما تسبب في إثارة هيجان فيثاغورس وتلاميذه بالزعم بوجود شيء قبيح مثل الأعداد غير الحقيقة. يقال أن هيبياسي توصل لذلك الإثبات الرياضي لوجود الأعداد غير الحقيقة عندما كان مع فيثاغورس وبعض تلاميذه في رحلة بحرية وهنا كانت ردة فعل فيثاغورس ضد هذه (الزندقة والبدعة) الرياضية الشنيعة أن أمر تلاميذه بقذف وإغراق هيبياسي في البحر.

 لقد كانت (قاعدة فيثاغورس) هي التعصب الشديد والغلو المفرط في التعلق بالرياضيات ولو تسبب ذلك في ارتكاب الجرائم مثل القتل والاعتداء على أي عالم رياضيات يخالف في المفاهيم الرياضية السائدة أو ينتقص من المكانة الرياضية لرموز علم الحساب. عالم الفلك الدنماركي الشهير تايكو براهي وهو أحد أبرز علماء القرن السادس عشر كان له ولع وعشق كبير لعلم الرياضيات لدرجة أنه دخل في مبارزة دامية بالسيوف مع عالم رياضيات آخر وكان سبب الشجار بينهما زعم كل واحد منهما أنه هو الأفضل والأكثر عبقرية في مجال الرياضيات. هذه الحادثة أثرت كثيرا على تايكو براهي حيث أنه نجا من الموت بأعجوبة لأن القتال تم في الظلام الدامس ولكن مع ذلك خسر أنفه الذي جذع وتعرض لجرح غائر في جبهته. التاريخ الدامي في صراع علماء الرياضيات فيما بينهم البين أو مع الآخرين له العديد من الشواهد كما نجد ذلك في الحادثة الأليمة عندما قام عالم الرياضيات الفرنسي المرموق أندرية بلوخ بقتل أخيه عالم الرياضيات جورج بعد لوثة عقلية أصابته جعلته يقتنع بأن أخيه وبعض أقاربه هم عبء على البشرية ويجب التخلص منهم بقتلهم. وما زلنا في فرنسا ومع عالم رياضيات مميز هو الشاب إيفاريست غالوا والذي اشتهر بنظرية غالوا ذات الأهمية الكبرى في نظرية الزمر في الرياضيات الحديثة. في سن العشرين تورط الشاب غالوا في خصام وقتال بالمسدسات مع شاب آخر. وعندما تم تحديد موعد هذه المبارزة المسلحة duel في صبيحة يوم 29 من شهر أبريل لعام 1832م شعر غالوا بأن موعد مقتله قد اقترب ولهذا أمضى الليلة السابقة بطولها وهو يسجل أخر أفكاره الرياضية الملهمة المتعلقة بطريقة مبتكرة لحل المعادلات عن طريق الجذور وقام بإرسال تلك الأوراق إلى قريب له مع توصية له بأن يحاول نشرها في مجلة أكاديمية العلوم الفرنسية.

الجدير بالذكر أن ليس كل (المعارك) العلمية في تاريخ الرياضيات هي معارك دامية وقتال مسلح فكثير ما يكون الخصام والصراع مجرد تراشق بالسباب أو عراك بالألفاظ. ومن القصص المشهورة في تاريخ العلوم ذلك النزاع المشين والصراع المهين الذي نشب بين أشهر عمالقة الرياضيات على الإطلاق ألا وهم الإنجليزي إسحاق نيوتن والألماني غوتفريد ليبنتز. لسنوات طويلة في مطلع القرن الثامن عشر زعم كلا من نيوتن وليبنتز أنه هو من أكتشف فكرة علم التفاضل والتكامل في الرياضيات وهو المجال العلمي الذي لا يمكن تخيل تقدم البشرية الحالي لو لم يتم تطوير ذلك الفرع الإبداعي. وبالرغم من أن أغلب الرموز والمفردات في علم التفاضل والتكامل والمستخدمة حتى اليوم كان أول من وضعها هو ليبنتنز إلا أن من المشهور أن نيوتن بالفعل قد اكتشف ذلك الحقل الرياضي وهو بعد في أوائل الشباب ولكن لم ينشر هذا الاكتشاف التاريخي إلا بعد سنوات طويلة. وبسبب البلبلة التي حصلت في المجتمع العلمي حيال هذا الخصام والاتهام المتبادل بالسرقة والانتحال قامت الجمعية الملكية البريطانية بتشكيل لجنة خاصة للتحقيق والتدقيق في هذا النزاع. ولقد كان من السخف البالغ واللؤم الحقير أن نجد نيوتن وبحكم نفوذه كرئيس للجمعية الملكية البريطانية يقوم بتعيين عين نفسه رئيسا لهذه اللجنة. وكما هو متوقع خرج التقرير النهائي للجنة التحكيم باتهام ليبنتنز وإدانته بسرقة وانتحال أفكار نيوتن مما تسبب في حالة إحباط حادة له لدرجة أن نيوتن بعد وفاة ليبنتنز قال إنه شعر بمتعة كبيرة حين حطم فؤاده. وقبل حادثة الخصام الرياضية المشينة هذه بحوالي قرن من الزمن حصلت حالة خصام وشقاق وتشاحن حول الاسبقية في الاكتشافات الرياضية بين عالم الرياضيات الفرنسي المعروف رينه ديكارت وبين أستاذه عالم الرياضيات الهولندي إسحاق بيكمان حيث زعم التلميذ الفرنسي أن ليس لأستاذه الهولندي فضل عليه في توصله لأي من اكتشافاته الرياضية وهو ما عده بيكمان جحود وعدم أمانة علمية.

 دالة العشق والهيام الرياضي الا منتهي

ما سبق ذكره عن الحدة والتعصب بين علماء الرياضيات لدرجة العنف أو الفجور في الخصومة يعكس مشاعر وجدانية ووشائج نفسية شديدة التعلق والعشق بعلم الرياضيات. وكما هو متوقع ليس جميع عشاق وأنصار علم الرياضيات هم على تلك الدرجة من العدوانية مع الآخرين من المنافسين فالغالبة العظمى منهم انشغلوا بالتفرغ للتمتع بلذتهم الذهنية ومتعتهم الفكرية وهم في حضرة (ملكة العلوم) أي علم الرياضيات كما وصفها عالم الرياضيات الألماني البارز كارل جاوس الذي ربما يعرفه جميع طلاب المرحلة الثانوي من خلال ما يسمى (منحنى جاوس) في علم الإحصاء. وبمناسبة ذكر كارل جاوس الذي يلقب في كتب التاريخ (بأمير الرياضيات) لا عجب أن يعشق ويفتتن هذا الأمير بوجوده بين يدي ملكة العلوم لدرجة أنه كان كثيرا ما ينغمس ولفترة طويلة من الزمن قد تصل لبعض الأسابيع في قضايا رياضية معقدة. وفي إحدى المرات وعندما كان مستغرقا بشكل كلي في أحد مواضيعه العلمية تم قطع خلوته العلمية بإخباره أن زوجته المريضة تحتضر وعلى وشك الموت وهنا يقال أن جاوس قال لم اخبره بذلك الأمر الطارئ جدا (أخبرها بأن تنتظر قليلا حتى أنتهي مما لدي).

وفي سياق ذكر الموت والرياضيات نجد أن العاشق المتيم بحب الرياضيات عالم الرياضيات السويسري الكبير ليونارد أويلر أحد أهم علماء الرياضيات في القرن الثامن عشر، نجده من شدة تعلقه بالعلم وهو على فراش الموت في سن السادسة والسبعين كان مشغولا لدرجة كبيرة في إجراء الحسابات الرياضية بالرغم من أصابته بالعمى. بقي أن نعرف أن أويلر كان يحاول حل مسائل علمية جديدة تماما عليه ففي يوم وفاته وذلك في نهاية عام 1783م كان يحاول حساب قوانين الإقلاع ببالون الهواء وكان ذلك اختراع حديث جدا في تلك الفترة. ولعل من الطريف أن نذكر أن وفاة أويلر كانت في مدينة سانت بطرسبرج عاصمة الإمبراطورية الروسية وذلك بعد أن استقطبته الامبراطورة كاترين عاشقة العلوم. الجدير بالذكر أن أويلر كان مشهور جدا بتدينه لدرجة أن الكنيسة اللوثرية كان تضعه في قائمتها للقديسين وبحكم أن (القديس) أويلر كان في مدينة القديس بطرس (سانت بطرسبرج) فقد سمع بزيارة الفيلسوف الفرنسي الشهير دنيس ديدرو (صاحب الموسوعة وقائد حركة التنوير بزعمهم) وأنه يقوم بإلقاء سلسلة من المحاضرات في المدن الروسية ينادي فيها بعقيدته بنشر الإلحاد وإنكار وجود الخالق. وهنا نجد أن أويلر يعلن أنه قد توصل لاكتشاف معادلة رياضية جبرية تثبت وجود الله ولهذا يطلب أن يعرضها على ذلك الفيلسوف الملحد والمتعجرف. وهنا عندما أُحرج الفيلسوف الفرنسي ما كان له إلا أن يحضر المناظرة والجدال مع العالم الرياضي حول وجود الله وعندما تقابل الرجلين تقدم (القديس) الرياضي أويلر إلى الفيلسوف ديدرو وقال له بعبارة واثقة وقوية:

سيدي a+ bn/n = x  لذا فإن الله موجود، أجب.

وهنا نجد أن الفيلسوف الفرنسي يُأخذ على حين غره ولهذا أرتج الأمر عليه فهو خبير في الأدب والفن والفلسفة ولم يكن يعلم أي شيء عن الرياضيات لهذا طلب الفيلسوف أن يسمح له بالانصراف والانسحاب من المناظرة ويقال إنه غادر مباشرة إلى فرنسا.

أمر أخير أود أن أذكره عن عالم الرياضيات الألماني العجيب أويلر وهو أنه من شدة عشقه الشديد وانغماسه في علم الرياضيات أنتج عدد كبير من الأبحاث والأوراق العلمية المنشورة بلغت حوالي 886 بحث رياضي وهذا رقم كبير جدا بمقاييس القرن الثامن عشر الذي عاش به. وهذا يقودنا إلى عالم الرياضيات المجري بول إردوس والذي بلغ من درجة انغماسه وعشقه لعلم الرياضيات أنه يعتبر أكثر علماء الرياضيات عبر التاريخ من ناحية غزارة إنتاجه العلمي حيث نشر ما يقارب 1600 بحث علمي في مجال الرياضيات. وبحكم أن بين العبقرية والجنون شعره فإن إردوس خير من يمثل العالم المجنون أو غريب الأطوار على الأقل. الغالبية العظمى من تلك الأبحاث الهائلة العدد نشرها إردوس بمفرده ومع ذلك كان في بعض الأحيان يضطر أن ينشر بعض تلك الأبحاث الرياضية مع الآخرين من زملائه وتلاميذه. السبب في ذلك أن إردوس كان لا يملك منزل خاص به ولذا عاش معظم حياته متنقلا بحقيبة ملابسه بين منازل معارفه وزملائه وتلاميذه في أوروبا أو في الولايات المتحدة. من الناحية المبدئية المفترض أن يكون إردوس شخص ميسور الحال ماديا لأنه كان يعمل في جامعة برنستون الأمريكية العريقة وذلك بعد ان استقطبه لها العالم المشهور أينشتاين الذي كان يعمل في نفس تلك الجامعة. ونظرا لأن إردوس كان لا يحتفظ بأي نقود أو أموال حيث كان يتبرع بها للفقراء ولذا كان يفضل أن يعيش حياة التشرد والإقامة في منازل زملائه وتلاميذه ولهذا ربما كان يضيف أسمائهم في أبحاثه المنشورة كنوع من الرشوة أو المقايضة لهم للسماح له بالإقامة معهم.

 في مطلع هذا المقال ربطنا بين مناسبتي اليوم العالمي للمرأة واليوم العالمي للرياضات وكان مدخلنا الحديث عن الغلو والتطرف في عشق الرياضيات ولعنا في ختام المقال أن نجمع بين ذلك الثالوث: المرأة والرياضيات والغلو. وخير مثال لدمج هذه الأمور الثالثة هو شخصية عالمة الرياضيات والكونتيسة الإنجليزية آدا لوفلايس والتي بلا جدال هي أشهر وأهم عالمة رياضيات في جميع العصور. شخصية الكونتيسة آدا لوفلايس ثرية جدا ومتشعبة فمن خلال والدها اللورد بايرون تنفتح أبعاد الأدب والشعر الإنجليزي ومن ناحية أبنتها الليدي آنا بلنت نرتبط بالرحلات لبلاد العرب وزيارة آنا الشهير لمنطقة حائل. أما من جانب ارتباطها بالعالم الإنجليزي تشارلز باباج (الذي كان يلقبها بساحرة الأرقام) فقد دخلت آدا التاريخ من أوسع أبوابه عندما ساهمت في تصنيع أول حاسب آلي وكذلك كونها أو مبرمجة كومبيوتر في التاريخ. على كل حال ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى الدرجة المفرطة في غلو وتطرف آدا في حماسها لعلم الرياضيات التي جعلتها (كما فيثاغورس وتلاميذه) دينها واعتبرت نفسها نبيه ورسول للرياضيات بل تطرفت لدرجة أنها كانت تصف نفسها بأنها اللسان الناطق للإله والرب الخاص بالرياضيات تعالى الله عما يقلون علوا كبيرا.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق