السبت، 17 أكتوبر 2020

( في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .. هل البقاء للأضعف ؟!! )


 القوة المادية والعسكرية ليست المقياس الوحيد للنصر

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

يُشتهر عن الأرض المباركة في أكناف بيت المقدس وأرض الشام أنها تسمى (أرض المحشر) والتسمية هي توصيف لدور هذه البقاع في آخر الزمان ولكن من جانب آخر نجد هذه الأماكن التاريخية هي المواقع ذاتها التي (تجمع وحشر فيها) في أول الزمان أكبر وأهم جيوش التاريخ البشري. مرة أخرى سوف نستعير وصف (أرض الملاحم والمعارك) في وصف أرض فلسطين وأرض الشام ليس لدورها المستقبلي ولكن لدورها في القديم عندما كانت ممر ومقبرة الغزاة من كل جنس ولون على اختلاف الدهور من الفراعنة إلى الفرس والمقدونيين والرومان والصليبيين والتتار والإنجليز والفرنسيين.

من كل أولئك الأعداء الألداء ما يهمنا الآن هو التركيز على الصراع الذي نشب قديما وسوف يحدث مستقبلا على هذه البقعة بين العرب واليهود وهو صراع يبدأ في الغالب بانتصار مفاجئ لليهود ثم ينتهي بهزيمة ماحقة تجتثهم. للأسف الحروب المحورية بين أولاد العم الكنعانيون والعرب واليهود غير موثقة بشكل تاريخي سليم لأنها إما وقعت منذ غابر الأزمان أو هي ستقع في مستقبل الأيام ولهذا سوف نعتمد على وصف التوراة لأول حرب وآخر قتال بين الفلسطينيين واليهود.

قبل حوالي 3500 سنة وبعد خروج اليهود من أرض مصر رفض الجيل الأول أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ولهذا عاقبهم الله بالتيه في البرية لمدة أربعين سنة. ثم لما كتب الله لهم الخروج من التيه قاد نبي الله يوشع بن نون شعب بني إسرائيل عبر نهر الأردن وخاض بهم معارك دموية لاحتلال الأرض وطرد سكانها الأصليين من الكنعانيين والأموريين واليبوسيين. وبالرغم من أني بني إسرائيل أثناء زمن التيه تعرضوا لبعض الحروب والمناوشات الطفيفة إلا أن خبرتهم العسكرية كانت محدودة وأسلحتهم بدائية ولهذا يذكر في التوراة أن أول نصر لبني إسرائيل في قديم الزمن كان نصرا بلا قتال حقيقي. وذلك عندما سقطت جدران مدينة أريحا كمعجزة لنبي الله يوشع عندما تقوضت وتهاوت الحصون من صوت الأبواق ولهذا ورد في التوراة في سفر القضاة امتنان الله على شعب بني إسرائيل في تلك المعركة بالذات (فلم تكن سيوفكم ولا سهامكم هي التي نصرتكم).

تشير كتب التاريخ إلى أن أول معركة حربية كبرى حصلت بين بني إسرائيل وأهل فلسطين هي تلك التي وقعت في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد واشتهرت باسم (معركة جبل طابور) والتي وقعت بالقرب من مدينة الناصرة.  كانت المعركة بين مملكة الكنعانيين في شمال فلسطين وعاصمتها مدينة حاصور وبين قبائل بني إسرائيل بقيادة الحاكم والمقاتل بارك بن أبينوعام. منذ البداية كانت كفة الجاهزية الحربية تميل بشدة لصالح الكنعانيين ليس فقط لأن عددهم أضعاف عدد بني إسرائيل ولكن لحيازة الجيش الكنعاني سلاح فائق التطور في ذلك الزمن إلا وهو (عربة القتال). في العصور القديمة كان العربة الحديدية Chariot هي بمثابة دبابة الأبرامز الأمريكية المنيعة في وقتنا الحاضر وقد كان جيش الكنعانيين يمتلك حوالي 900 عربة قتالية تكفي لإبادة إي جيش تقليدي. وبمثل هذه الكفاءة القتالية الساحقة للعربة ذات العجلات المبطنة بالحديد لا غرابة أن نجد أن كبار قادة الجيوش في العالم القديم تفاخروا بالقتال على ظهرها. فهذه جدران معبد أبو سنبل الفرعوني في أسوان تؤرخ المنحوتات المنقوشة عليه الانتصارات العسكرية للفرعون رمسيس الثاني وهو يطارد بعربته الحربية الجنود الفارين من أعدائه الحيثيون بعد انتصاره (المزعوم) عليهم في معركة قادش على أرض سوريا. وفي المتحف البريطاني بلندن يتحلق الزوار بذهول حول المنحوتة الجدارية المسروقة من أطلال قصور مدينة نينوى بشمال العراق والتي تعرض الصورة الشهيرة لملك الآشوريين وهو يطلق السهام وجنوده الذين معه على العجلة يصيدون الأسود بالرماح. كما إن العربة اعتبرت أهم وسيلة دفاع أمام أخطار ما بعد الموت ولهذا نجد أن قدماء المصريين دفنوها في مقبرة الفرعون توت عنخ آمون وكذلك كانت العربة الحربية هي في قلب الجيش الطيني الشهير terracotta army المدفون للدفاع بعد الموت عن أول إمبراطور للصين.

والمقصود أن هزيمة بني إسرائيل بأسلحتهم البدائية أمام جيش العربات الحربية العرمرم كانت شبه مؤكدة لكن القوة العسكرية ليست كل شيء في دنيا القتال. بسبب الهزائم المتوالية للأمة العربية في العصور الحديثة أصبح يستهوين جمع الكتب التي تناقش أسباب الهزائم العسكرية في التاريخ البشري بدلا من الاستمتاع بتخدير النفس باجترار قراءة الانتصارات في معاركنا الخالدة في الوجدان والبائدة على أرض الواقع. في مقال سابق حمل عنوان (فن صناعة الهزيمة) نشر قبل عدة سنوات بمناسبة مرور ذكرى هزيمة حرب 67 المذلة أمام اليهود، ذكرت في ذلك المقال بعض أسباب وعوامل الهزيمة في المعارك الحربية. ومن ذلك مثلا ضعف كفاءة القائد العسكري أو سوء الأحوال الجوية أو خطأ اختيار موقع المعركة أو ضعف الخطة العسكرية أو عدم كفاءة الأسلحة أو تأخر الإمدادات أو ما شابه ذلك من تفاصيل فنون القتال. في واقعنا المعاصر تم تفسير هزيمة العرب الشنيعة في زمننا الحالي وفق المقولة القديمة للجنرال الأمريكي دوغلاس ماكارثر (أنه لأمر فادح أن تدخل الحرب وأنت لا تنوي النصر فيها). من المحزن أن أهل فلسطين والعرب يكررون نفس الأخطاء في القديم والحديث فبالعودة لمعركة جبل طابور نجد أن الخطأ العسكري الفادح الذي وقع فيه سيسرا قائد الجيش الكنعاني أنه تراخى كثيرا في أخذ زمام المبادرة. ونتيجة لغروره بقوته العسكرية وتقليله من شأن خطورة عدوه لم يكن الكنعاني سيسرا في عجلة من أمره لإنهاء المعركة. في بداية الأمر حاصر الكنعانيون لفترة طويلة من الزمن عدوهم الإسرائيلي المخيم في أعلى الجبل ولم يحاولوا حسم المعركة بسرعة على أمل أن تضعف الروح المعنوية لعدوهم وتنفذ ذخيرته ومؤونته. الكارثة حلت عندما بدأت المعركة الفعلية في التوقيت الخاطئ والقاتل للجيش الكنعاني وذلك بعدما هطل مطر شديد على أرض المعركة وبالتالي لم تعد تستطيع العربات الحربية الثقيلة الحركة بعد أن علقت في الطين. يقال إنه حتى في الحروب الحديثة قد يكون من أسباب الهزيمة الاعتماد الزائد على التقنية والقوة العسكرية البحتة.

وبهذا في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي انتصر الطرف الأضعف في (أول) معركة كبرى بينهما ويبدو أن الطرف الأضعف منهما هو من سوف ينتصر في (آخر) معركة كبرى بينهما وذلك وفق وصف التوراة نفسها. في مطلع التاريخ أعتمد الكنعانيون على القوة فقط فانتصر الطرف الأضعف (بني إسرائيل) لأنه كان لديهم سلاح الإيمان بعد تنقية الصف الداخلي لهم بغربال سنوات التيه. وفي مختتم التاريخ ستنعكس الأمور ويعتمد بني إسرائيل على قوتهم وسيطرتهم لفترة من الزمن حتى يصيبهم الغرور كما ورد في سفر عاموس من التوراة عما سيحدث لهم في آخر الزمان (أنتم الفرحون بالبطل، القائلون أليس بقوتنا اتخذنا لأنفسنا قرونا). ثم يحصل القضاء العدل ففي أول حرب كان بني إسرائيل هم أهل الحق ولهذا نصرهم الله كما سبق وأن ذكرنا القول الوارد في العهد القديم (فلم تكن سيوفكم ولا سهامكم هي التي نصرتكم) بينما في الحرب الأخيرة يقول الرب محذرا لهم (هأنذا أقيم عليكم يا بيت إسرائيل أمة يضايقونكم). وحتى وإن كان عدونا الصهيوني أقوى منا بالعتاد فإن سلاحنا الحقيقي في المعركة الأخيرة هو الإيمان ولهذا كثيرا ما تصف التوراة الاندفاع الحماسي والكثيف لأعداء أورشليم الآثمة وأنه إذا وقع يوم غضب الرب فإن الأبطال الذين يناكفونها ويضايقونها لا يملكون الأسلحة المتطورة والذكية. وإنما بقدراتهم البسيطة والمحدودة يحققون النصر فهم كما ينصح ويحمس بعضهم بعضا (اطرقوا محاريثكم سيوفا ومناجلكم رماحا) فلا سلاح لهم إلا حديد أدواتهم الزراعية واي سلاح هذا. حقا وصدقا محك الأمر في أسباب النصر على الأعداء كما قالها الفاروق عمر وهو المحدث الملهم (إنكم لا تُنصرون على عدوكم بقوة العدة والعتاد، إنما تنصرون عليه بطاعتكم لربكم ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية، كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق