د/ أحمد بن حامد الغامدي
الشاعر العباسي أشجع السلمي ولد في أرض الغربة بعيدا عن العراق ولهذا ربما رضع الحنين للأوطان مع حليب أمه ومن هنا قال لاحقا عندما شب وشاب:
لابد للمشتاق من ذكر الوطن واليأس والسلوة من بعد الحزن
وبحكم إن الشعر هو ومضات ودفقات فهو بذا يعطي فقط لمحات خافتة وإضاءات خاطفة لحال المهاجر في غربته ولهذا كان المجال أوسع للرواية الأدبية لوصف حال الدراما النفسية والخفايا البشرية لمن عاش تجربة الارتحال خارج الوطن. قديما حذر الإمام زين العابدين في قصيدته المشهورة من التعرض للغريب بالمضايقة فيكفيه ما هو فيه من أن الغريب (الدهر ينهره بالذل والمحن) فالمقيم خارج الوطن معرض للغصص والنكبات وهذه مادة الحبكة الدرامية لإنتاج أعمق الأعمال الأدبية. ليس من باب المصادفة أن الرواية الأدبية التي حققت الشهرة العالمية للأديب الإنجليزي روديارد كبلينغ ليحصل على جائزة نوبل في الأدب هي رواية (كيم) والتي تتعلق بطفل إيرلندي يتيم مغترب كان يعيش في مدينة لاهور. وبدرجة أقل الروائي الإنجليزي إدورد فورستر رشح 16 مرة في سنوات مختلفة للحصول على جائزة نوبل في الأدب بعد شهرته المدوية بسبب روايته (الطريق إلى الهند) والتي في جزء منها تناقش تعقيدات الجالية الإنجليزية الحاكمة المقيمة في الهند. وهذه رواية بول وفرجيني (التي عربها المنفلوطي تحت عنوان: الفضيلة) للأديب الفرنسي دي سان بيير لاقت إعجاب الجميع في فرنسا من الملك لويس السادس عشر وحتى نابليون لأنها لامست شغاف القلوب الحزينة لحال أبطال الرواية الفرنسيين المهاجرين إلى مستعمرة موريشيوس في المحيط الهندي.
وفي محيطنا العربي أجمل رواية عن (الجاليات
المهاجرة) هي تلك التي أبدعها الروائي اللبناني ربيع جابر عن عذابات المهاجرين من
لبنان والمقيمين في نيويورك في بدايات القرن العشرين وحملت تلك الرواية عنوان
(أمريكا). بينما في نهاية القرن العشرين نتعرف على ألام وأحلام الجالية المصرية في
نيويورك في الرواية الحابسة للأنفاس (عناق عند جسر بروكلين) للدبلوماسي والكاتب
المصري عز الدين فشير وكذلك لا يصح أن ننسى ذكر الرواية (شيكاغو) للأديب المصري علاء
الأسواني الذي تعمق في ذكر أغوار الجالية المصرية في تلك المدينة المتناقضة.
المغترب العربي حائر ومقهور تحت سماء الغربة ونظرا لكثرة المهاجرين العرب نشير إلى
أن رواية (تحت سماء كوبنهاغن) للروائية العراقية حوراء الندوي تتعلق بحال الجالية
العراقية المهجرة إلى الدنمارك في حين نجد الرواية المقاربة في العنوان (السماء
تحت أقدامنا) تتعلق بقضايا الجالية المغربية المقيمة في فرنسا وتلك الرواية من تأليف
الكاتبة المغربية ليلى باحساين.
قبل حوالي أربعة قرون هاجرت بعض قبائل نجد
إلى منطقة الزبير في جنوب العراق وبعد تجربة ثرية من تبادل الثقافات والخبرات عاد
فئام من هؤلاء الكرام إلى أرض الوطن. وكان من ضمنهم الأستاذ عبد الرزاق المانع
الذي كتب رواية أدبية حملت عنوان (صخب الحياة) تستعرض حياة الشتات للمغتربين من
أهل نجد في تلك الديار مع التركيز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية التي شكلت
معالم حياتهم. ومن العراق إلى الكويت والبحرين يمكن استعراض شخصيات نجدية مهاجرة عاشت
في أقاليم متنوعة وكان لكل منها ثرائه الإنساني المختلف الذي أستحق أن يخلد في
أعمال أدبية وكتابات وثائقية. فهذا السيد علي ناصر النجدي وهو شخصية حقيقة كانت
تعمل في مجال الغوص بالكويت تصبح محور رواية (النجدي) للأديب الكويتي طالب الرفاعي
بينما الروائي البحريني خالد البسام يقدم في عمله الأدبي (النجدي الطيب) سيرة
سليمان الحمد البسام أحد أشهر تجار البحرين والقادم من مدينة عنيزة.
صبيان غامد وراء الحدود
الانقطاع الطوعي أو القسري عن الأوطان له
طعم مُر وغصة تنشب ولا تمر ولهذا مع تعليق السفر الخارجي بسبب تداعيات وباء
الكورونا تتجدد الذكريات وتتصاعد الزفرات عمن سافر ولم يعد وغادر ولم يأب من
الأجيال القديمة من الأجداد والأسلاف فبعضهم بهجرته الدائمة يكذب ويناقض مقولة
الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص (وكل ذي غَيبة يؤوبُ). من البرامج التلفزيونية
المميزة التي قدمها المذيع المحبوب والموهوب ماجد الشبل رحمه الله برنامج (أبناؤنا
في الخارج) والذي تدور فكرته عن إجراء لقاءات تلفزيونه مع الطلبة المبتعثين
للدراسة في خارج المملكة. فكرة تلمس أحوال سفراء البلد و (أمل المستقبل) فكرة
جميلة ومنطقية ولكن ماذا عن تلمس أحوال وتقصي أخبار أجراء
المهجر (ذخيرة الماضي) من الأجداد الذين عاشوا تجربة الهجرة وكربة الشتات
وراء طلب لقمة العيش.
لقرون طويلة ساد الشعر في عالم العرب أما
الآن فكما يقول وزير الثقافة المصري جابر عصفور فهو (زمن الرواية) وهو في الأصل يردد
المقالة التي تجرأ ونطق بها القصاص الشاب (في ذلك الحين) نجيب محفوظ أمام العملاق عباس
العقاد. يقال إن القراءة تقود للغواية بارتكاب فعل الكتابة وبعد عقود طويلة من مطالعة
مئات الروايات الأدبية لا عجب أن فتنة الإغراء بتأليف رواية أدبية قد خطرت ببالي
ولو حصل وغامرت بكشف المستور عن الركاكة الأدبية التي أمتلكها فماذا سوف يكون محور
ومدار تلك الرواية الموعودة. لشخص جرب الغربة لعدة سنوات وعرف عذوبة وعذاب السفر
والارتحال أشعر أن تأليف رواية عن حياة وتجربة ومعاناة الأجداد في أرض الشتات
وديار الاغتراب ربما توفر أحداث روائية واعدة لإنتاج عقدة فنية وحبكة أدبية جديرة
بالتأليف والقراءة. من دون جهد كبير عشرات القصص يمكن تخيلها ونسجها عن يوميات
رجال العقيلات وهم ينطلقون للتجارة من بريدة حتى يحطوا رحالهم للإقامة في بلاد
الشام وأرض فلسطين أو مجريات أحداث حياة بعض رعاة الإبل من أفراد قبيلة الرشايدة
الذين نزحوا من الحجاز واستوطنوا مدينة كسلا في غرب السودان.
قبل حوالي ثمانين سنه أصابت جنوب المملكة
مجاعة مهلكة وقحط مجدب ولهذا هاجر في طلب الرزق الآلاف من شباب القرى من مختلف
القبائل وكان من ضمنهم المئات من (صبيان غامد وزهران). من قريتي الصغيرة سافر إلى
أرض الحبشة نفر يسير دون العشرة كان من ضمنهم جدي (صالح آل عبية) رحمه الله وجميع
موتى المسلمين ارتحلوا عبر ميناء القحمة بساحل عسير. وبعد عبور البحر الأحمر وصلوا
لميناء مدينة مصوع ثم كان مقر إقامتهم النهائية في مدينة أسمرة عاصمة أرتيريا
حاليا والتي كانت في ذلك الوقت مستعمرة إيطالية على درجة عالية من التقدم
والازدهار لدرجة أنها وقت وصول الأجداد لها في ثلاثينيات القرن العشرين كانت تلقب
بمدينة (روما الصغيرة). ماذا كان شعور جدي و (رفاقته) من ركوب البحر وهل حصل لهم
صدمة حضارية بمشاهدة أناقة العمران الإيطالي وهل أصابتهم الحيرة من سحر التقنية
الحديثة كالهاتف والراديو والكهرباء والقطار فضلا عن الطائرة وما هي طبيعة الأعمال
التجارية التي انخرطوا فيها وكيف كانت مجريات معيشتهم في أرض الغربة؟. لو كنت أمتلك
المهارة الأدبية الكافية والجرأة الإعلامية الدافعة لربما حاولت أن أسطر ذكراهم في
أقصوصة فنية خجولة.
بكل الصدق أقول إن حياة البعض من أبناء
المنطقة الذين هاجروا للخارج قديما كانت ثرية وحاشدة بالأحداث الشيقة التي تستحق
التسطير في أعمال فنية فمثلا يذكر أن العم عطية الخرش من قرى بلجرشي كان يلقب في
الحبشة بأبو المساكين ولشهرته ومحبة الناس له عندما توفي في مدينة أسمره أعلن عن
وفاته في التلفزيون. وهذا العم محمد بن علي حناس من قرية الدارين بمحافظة بني حسن عندما
بدأ الأثيوبيون يضيقون على التجار العرب الموجودين في مدينة أديس بابا قام ذلك
الفتى الزهراني بقيادة مظاهرة سلمية أمام قصر الإمبراطور هيلا سيلاسي ولاحقا سمح
له بمقابلة الإمبراطور والتحدث معه باللغة الإثيوبية للالتماس لرفع الظلم والحيف
الذي وقع بهم. بينما العم عبد الرحمن بن سفر الغامدي من قرية القريع ببلجرشي الذي هاجر
هو وأخيه إبراهيم قديما إلى إندونيسيا أصبح من أهل البلد ومن الأثرياء منهم وحصل
على عضوية البرلمان الإندونيسي بل يقال إنه يوجد شارع باسمه في مدينة جاكرتا. ومرة
أخرى مع رجال قرى مدينة بلجرشي حيث نجد أن الشاعر أحمد بن عطية الغامدي من قرية الركبة
كان يوصف بأنه شاعر البلاط الهاشمي. وكان مقرب من الشريف حسين بن علي لدرجة أنه
عندما غادر الأشراف الحجاز إلى الأردن ارتحل معهم أحمد بن عطية وقد أمر الشريف
بطباعة ديوان شعره وتوفي في مدينة عمان بعد أن شارك في حرب فلسطين عام 1948ميلادي.
وبالمناسبة العديد من أبناء منطقة الباحة شارك في الأحداث الكبرى مثل حرب فلسطين
بل وحتى في إنشاء قناة السويس في مصر قبل حوالي قرن ونصف من الزمن.
ونختم هذا التطواف والتجوال في ذكرى الأسلاف
المرتحلين بأن نشير إلى أن هجرة البعض منهم تخطت حتى البلاد العربية والدول
الإسلامية والغريب أن هذا قد حصل في وقت مبكر نسبياً. فمثلا نجد أن التاجر القصيمي
و (الممثل) خليل الرواف ينتقل من مدينة بريدة قبل حوالي تسعين سنة ليصل إلى مدينة
نيويورك ومنها يعبر عن طريق البر الولايات الأمريكية المتتالية حتى يصل إلى مدينة لوس
أنجلس ليصبح بعدها أول شخص عربي يمثل في أفلام هوليوود. ولتصبح قصة حياته جديرة
بأن ينتج منها فلم سينمائي شيّق خصوصا الجانب الدرامي في قصة انفصاله عن ابنه الأمريكي
نواف وبحثه عنه في آواخر عمره. أما من أبناء منطقة الباحة الذين هاجروا قديما
لديار الغرب فهذا العم محمد بن علي حناس السالف الذكر سافر في فترة الخمسينيات من
القرن العشرين إلى إيطاليا وزار العديد من الدول الأوروبية. وذكر أنه التقى أثناء
زيارته لمدينة مرسيليا بالعم غرم الله بن زنان الزهراني الذي كان يقيم في فرنسا لفترة
طويلة فقد أستوطن بها من قبل الحرب العالمية الثانية وكان يمارس التجارة وتزوج من
سيدة عربية ذات أصول سورية.
كلمة أخيرة هذا المقال لاستعادة الزمن
المنسي واستكشاف المجهول ونبش المسكوت عنه من رحلات الرواد وهجرات الأجداد رحمهم
الله جميعا وجعل قبورهم روضة من رياض الجنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق