السبت، 17 أكتوبر 2020

( أساطير الجبال والإغراء بالسفر )


 كم هي أوجهة الشببه في الشكل والأساطير بين جبال الداخل والخارج ؟

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

الجبال كما هي رمز الثبات والاستقرار هي كذلك رمز للسمو ولفت الأنظار ولذا هي بالمجاز وليس الحقيقة (عابره للحدود). بسبب الارتفاع الشاهق لبعض الجبال يمكن أن تشاهد من مسافة بعيدة أي من دولة أخرى وكذلك على نفس (المستوى) يمكن لمن يرتقي قمة جبل فارع أن يشاهد تخوم أراضي الدول المجاورة. الغريب في الأمر أنه كما أن الجبال قد تكون عابرة للحدود بشكل أو آخر فسوف نجد أن الأساطير المتعلقة بالجبال هي (عابرة للشعوب) والحضارات. في هذا اليوم الأربعاء تبدأ الإجازة القصيرة لليوم الوطني وهي آخر عطلة والعلم عند الله تمر بدون ألا يتمكن عشرات الألاف من السفر للخارج بسبب جائحة وباء كورونا. هذا المقال هو جولة تعريفية للمعالم السياحية والطبيعية الداخلية لمن قد يتحمس للسفر وهي في ذات الوقت خارطة طريقة لبعض الوجهات السياحية الخارجية المرتبطة بالداخل المحلي من خلال توظيف الأساطير المحكية عن السلاسل الجبلية كحبل وصل بين المنتزه القريب المنظور والمزار البعيد المحظور.

العديد منا يعلم الأسطورة الشعبية الشيقة التي تربط بين جبل طمية الشاهق شمال غرب القصيم وفوهة الوعبة الواسعة والسحيقة شمال شرق الطائف. وفق الأسطورة الخرافية سبب تشكل فوهة الوعبة أنه كان يوجد في ذلك المكان جبل أنثى تدعى مطية أحبت جبلا جميل المنظر يسمى قطن. ولهذا خالفت طمية العرف القبلي والقانون الجيولوجي عندما قفزت من موقعها وأقلعت متجهة للقاء محبوبها الصخري ولهذا تعرف تلك الفوهة الهائلة باسم (مقلع طمية). المثير في الأمر أن تفسير وجود فوهة كبيرة في الأرض من خلال نسج أسطورة لتكوّن معلم جيولوجي آخر نجده في أساطير بعض الشعوب الأخرى. بالقرب من الساحل الجنوبي لجزيرة مالطا في البحر الأبيض المتوسط توجد فوهة جيولوجية ضخمة تسمى المقلوبة. وبسبب شكلها المحير ظهرت العديد من الأساطير لمحاولة تفسير سبب تكونها ومما يقال إنها تكونت عندما قام عملاق (بقلعها) من الأرض ورميها بعيد في البحر مما تسبب في تكون جزيرة صغيرة تسمى جزيرة فلفلة تقع أمام الساحل المالطي.

الجدير بالذكر أن في بعض التفاصيل الأخرى لأسطورة العشق لجبل طمية ما يشابهها بشكل أو آخر في أساطير وخرافات الشعوب الأخرى. من ذلك مثلا حالة التنافس والصراع بين الجبال على العشق والزواج من الجبل الأنثوي المحبوب فكما نجد أن جبل عكاش (جنوب مدينة عقلة الصقور) كان ينافس جبل قطن (شمال عقلة الصقور) على أي منهما يضفر بالزواج من جبل طمية (غرب عقلة الصقور) السالفة الذكر نجد في أساطير الشعوب النيوزلندية القديمة قصة مشابهة. في أساطير شعب الماوري وهم السكان الأصليون للجزر النيوزلندية نجد ثلاثة جبال بركانية ضخمة متقاربة نسبيا كما هول الحال مع الجبال الثلاثة حول مدينة عقلة الصقور وما يهمنا هنا أن الجبل تونجاريرو كان يتنافس مع الجبل تاراناكي على الفوز بقلب الجبل الأنثى بيهانغا. وبعد أن نشب صراع ناري بين تلك الجبال البركانية انتصر الجبل تونجاريور بالزواج من الفاتنة البركانية بيهانغا وحتى ينعما بحياة مستقرة أجبر الجبل المهزوم تاراناكي أن (ينقلع) من مكانه ويتجه نحو الغرب. الجدير بالذكر أن هذا الجبل المهزوم عندما أجبر عن الفراق عن محبوبته أصبح كما تقول الأسطورة جبل (حزين) ومنكوب وهنا لا يسعنا إلا أن نذكر أسطورة محكية في منطقة الباحة أن جبل شدا وجبل حزنه كانا قديما متقاربين في أعلى السراة وعندما انفصلا وارتحل جبل شدا إلى سهول تهامة حزن على فراقه جبل حزنه ومن هنا جاءت تلك التسمية.

أمر آخر في خرافة جبل طمية يستحق وقفة إضافية ويتعلق بالجزء من الأسطورة الذي يقول إن طمية عندما أقلعت نحو جبل قطن اعترض طريقها جبل عكاش وأطلق عليها سهما مما تسبب في سقوطها وكسر ساقها. يذكر في الأساطير الإسكندنافية القديمة أن الجبل الأنثوي ليكامويا الواقع في جزيرة صغيرة شمال النرويج كان يهرب من صخر يحاول أن يصيده وعندما أطلق عليه سهم انحرف ذلك السهم وتسبب في إحداث ثقب في جبل يدعى تورغاتيان موجود على جزيرة أخرى. لا شك أن التشابه النسبي بين هذه الأساطير من بدو جزيرة العرب إلى الشعب البولينيزي النيوزلندي في المحيط الهادي أو الشعوب النوردية في الجزر الاسكندنافية أمر محير وغريب ولكن يمكن أن نفهم ذلك من خلال الظاهرة التي تسمى (أنسنه الطبيعة). الشعوب البدائية أو الشعوب غير المتحضرة عندما تواجهها حادثة طبيعية غريبة ومحيرة تحاول أن تفسرها من خلال إسباغ صفات وطبائع إنسانية على تلك الظاهرة فمثلا حدوث زلازل بمنطقة مزدحمة بالجبال يمكن تفسيره بأن هذه الجبال (تتصارع) فيما بينها كما إن وجود جلاميد صخرية طويلة يمكن أن تفسر أنها جنود لحماية موقع ما. وليس شرطا أن الخرافة أو الأسطورة التي يختلقها العقل البشري يصدقها بحذافيرها ولكن هي كنوع من (التسلية الذهنية) لتفسير العالم من حولنا.

بالرجوع لأسطورة جبل طمية وجيرانه من الجبال (قطن وعكاش) واضح جدا أن جبل طمية يختلف عنهم بأن الناظر إليه من جهة الغرب (القادم من جهة المدينة المنورة) سوف يلاحظ بأن أعلى الجبل أشبه بالسطح المستوي تماما. وبحكم أن أغلب الجبال مخروطية الشكل فإذا خلف هذا الجبل قصة وحكاية يمكن تفسيرها بأنه (جبل مقلوب) انتزع من مكان ما وأصبحت قاعدته المستوية هي قمته الجديدة. بالمناسبة منظر جبل طمية للقادم من الغرب يشبه الطاولة ولهذا هو إلى حدا ما يشبه (جبل الطاولة Table Mountain) المشرف على مدينة كيب تاون في دولة جنوب أفريقيا. وبحكم أن جبل الطاولة المطل على المحيط الأطلسي والقريب من نقطة الالتقاء بالمحيط الهندي ولهذا نجد مره أخرى أنه لتفسير منظره الغريب وموقعه المميز يلجأ الإنسان البسيط إلى اختلاق الخرافة كما هو حال أساطير شعب الكوسا في جنوب أفريقيا عن جبل الطاولة.

 

الجبال .. مسرح للرومانسية والدراما

للجبال ثقل وحضور ومركزية في حياة الشعوب ولهذا بعيدا عن الخرافات التي تجسد الجبال في شكل إنساني نجد العديد من الموروث المحكي المتناقل للشعوب والحضارات يرتبط بالجبال وقصص الناس معها. ومرة أخرى نجد أن الأشكال الغريبة لبعض الجبال تغري بنسج أساطير خيالية حولها وفي واقعنا المحلي نجد أنه بالقرب من مدينة شقصان وفي طريق الجنوب المتجه لمدينة الطائف يوجد جبل له ثلاثة قمم. لسبب غير مفهوم تماما يطلق على هذا الجبل المثلث (الغامديات الثلاثة) بالرغم من بعد هذا الجبل عن بلاد غامد بحوالي 150 كيلومتر وبحكم أن هذه المنطقة بالذات منطقة تماس لبعض القبائل المتناحرة في القديم يبدو أنه حصل حول هذه الجبل عدد من النزاع والقتال بين تلك القبائل. يقال إنه عندما استعان طرف من قبيلة عتيبة بطرف من قبيلة من غامد ضد عدو مشترك واعتلى فرسان غامد قمم ذلك الجبل ونصبوا بيارقهم فوقه نشأت تلك التسمية الغريبة. صراع قبلي آخر في أقصى الأرض أنتج تسمية مشابهة حيث نجد في أقصى الجنوب الشرقي من أستراليا سلسلة جبلية شاهقة (الجبال الزرقاء) وفي طرفها تقع ثلاث قمم متقاربة تسمى (الأخوات الثلاث). حسب أساطير الأبورجينيز السكان الأصليين لأستراليا سبب هذه التسمية أنه حصل في القديم نزاع وقتال بين قبيلة كاتومبا وقبيلة نيبين عندما أراد ثلاث شبان من القبيلة الثانية الزواج بثلاث أخوات من القبيلة الأولى.

وفي موقع آخر نجد جبل أخر ذو منظر غريب يستدعي ويستجلب الأسطورة والخرافة إلا وهو جبل حَرفة بصخرته الضخمة التي تأسر الأنظار للمسافر على طريق الجنوب. يقع هذه الجبل شمال محافظة النماص ومما يشاع حول ذلك الجبل أن قمته الصخرية مسكونة بالجن وتسمع فيه الأصوات الصاخبة وأن من يستطيع النوم فيه ولو لليلة واحدة فهو إما أن يصبح شاعراً فحلاً أو يصاب بالجنون. ونفس هذه القصة الخرافية حذو القذة بالقذة نجدها في أساطير أهل إقليم ويلز في غرب بريطانيا حيث يتناقلون أنه بالقرب من جبل سنودونيا الشاهق توجد عدد من القمم والجبال منها جبل الحكيم إدريس ووفق الأساطير الولزية أن من ينام على سفوح هذا الجبل لليلة واحدة إما أن يصبح شاعراً أو يصاب بالجنون.

من الغريب أن صعود قمم الجبال إما أن يجعلك أديباً وشاعراً أو مجنوناً أو يتسبب في إتلاف حياتك خصوصا إذا كنت عاشق متيم بالحب. في الموروث الشعبي لقبيلة جهينة يتردد خبر شخص يدعى مسلم الوليعي عشق فتاه كان يرعى معها الإبل وعندما رفض أهلها أن يزوجونه منها قام بالانتحار بالسقوط من أعلى جبل رضوى المشهور والقريب من مدينة ينبع. تقول العرب منذ القدم (أي شيءٌ أثقل من جبل رضوى) ولهذا كبار شعراء العربية استعاروا ثقل رضوى في قصائدهم ولكن يبدو أنه فاتهم جميعا أن الشيء الذي ربما يكون أثقل من رضوى هو العشق والهيام ولهذا ينتحر المحب ليتخلص من حمله الثقيل والكثيف. ما ينبغي قوله هنا أن

هذه الدراما الرومانسية نجد لها قصص مشابها في مناطق مختلفة من العالم مع تباينات طفيفة. فمثلا بدلاً من انتحار الشاب نجد في الأساطير القديمة المتداولة في شمال منطقة الأناضول في تركيا أن قصة الحب بين الشاب فرهاد والشابة شيرين (هل هي امتداد لأسطورة خسرو وشيرين الفارسية .. ربما !!) انتهت بكارثة تراجيدية عندما انتحرت الفتاة بالقفز من فوق قمة صخرية في مدينة أماصيا عندما ظنت أن محبوبها قد قتل. بالمناسبة على ذكر القتل كما هو متوقع فإن الجريمة ليست ببعيدة عن عالم العشق والغرام وذلك لأنه على العكس من حالة السعادة بين المحبين في العادة نجد المجتمع وبالذات أسرة المرأة دائما في حالة غضب قاتل. وهذا يقودنا إلى أشهر الجبال في بلادنا إلا وهما جبلي أجا وسلمى في منطقة حائل والتي تقول الأسطورة الغارقة في القدم بأن سبب تسميتها بهذين الاسمين أن قصة عشق وغرام نشبت بين رجل يدعى أجا وفتاة تدعى سلمى. وكعادة العرب في عدم السماح بالزواج بين المحبين إذا انتشر ذكر غرامهما لهذا رفض أهل الفتاة أن يتزوج أجا منها. ثم حصلت الفضيحة بأن تهور أجا بالهرب مع محبوبته سلمى وعندما طاردهم إخوة الفتاة الخمسة وتمكنوا من القبض عليهما قاموا بقتلهم وصلبوا كلا واحدا منهما على جبل منفصل. بقي أن نقول إن قصة مشابهة يمكن أن نجدها تحكى بين سكان جنوب إسبانيا حيث يوجد بالقرب من مدينة ملقا جبل يحمل اسم صخرة المحبين وسبب التسمية أن رجل وفتاة من قبيلتين مختلفتين وقعا في الحب وعندما علم أهل الفتاة بذلك قام والدها وأقاربه بمطاردة هذين العاشقين في قمة ذلك الجبل وعندما أوشكوا أن يقبضوا عليهما قفزا من أعلى الصخرة.

على كل حال ليس كل قصص الغرام المرتبطة بالجبال والصخور تنتهي بالانتحار أو القتل فهذا الشاعر المجنون قيس بن الملوح كانت مواعيد غرامه مع محبوبته ليلى العامرية تتم على سفح جبل التوباد الذي يقع شمال غرب مدينة الأفلاج في حين أن الشاعر العربي الفارس عنترة كثيرا ما كان يجتمع بمحبوبته عبلة عند صخرة عيون الجواء.

وفي الختام أعلم أيه القارئ العزيز أنني شرقت وغربت بك في جميع الأرجاء الجغرافية والأبعاد الزمانية وكان المقصود من ذلك إعطاء شحنة إضافية للإغراء بالسفر في (ربوع بلادي) مع التشويق للانطلاق الخارجي لمشاهدة حضارات وثقافات أخرى ومعرفة قصص وأساطير شعوب وأمم شتى.

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق