د/ أحمد بن حامد الغامدي
في كل عام تعتبر الأيام العشر الأولى من شهر
أكتوبر هي الفترة الأكثر قلقا وحماسا في نفس الوقت لصفوة العلماء لمن يتطلع منهم
للحصول على جائزة نوبل المرموقة. جرت العادة بخصوص بروتكول الإعلان عن هذه الجائزة
أنه مع ساعات الصباح الأولى يتم الاتصال الهاتفي بالشخص
الفائز بجائزة الجوائز ودرة المفائز ثم بعد ذلك بحوالي الساعة يعقد مؤتمر صحفي
للإعلان عن أسماء الفائزين. قبل سنوات أعترف الطبيب والكيميائي الدنماركي
ينز سكو والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1997م أن بعض العلماء المميزين
على المستوى العالم لا يستطيعون النوم في بداية شهر أكتوبر بسبب الأمل والحماس وهم
ينتظرون الاتصال بهم من قبل لجنة جائزة نوبل بمدينة ستوكهولم عاصمة السويد.
وبالفعل عند سؤال عام الاقتصاد البريطاني أنغوسديتون الحاصل على جائزة نوبل في
الاقتصاد عام 2015م هل كان نائما عندما تم الاتصال به من ستوكهولم لتهنئته بالخبر
السعيد أعترف بكل صراحة أنه كان مستيقظا وفي انتظار الاتصال ويبدو أن هذا الأمر من
المحتمل تكرر معه في أكثر من سنه حتى حصل أخيرا على جائزة نوبل.
يوما ما كتب أديبنا البارز عبد الرحمن منيف
(أكبر العذاب انتظار من لن يأتي) وهذا وإن كان واقع ملموس في دنيا العشق والأدب
فهو أمر محسوس كذلك في شتى مناحي الحياة. في مجال العلوم المتقدمة يشعر العديد من
العلماء والباحثين ذوي السمعة الدولية الذائعة بالكثير من الضغط النفسي في حال
أنهم لم يحصلوا على جائزة علمية مرموقة. ولهذا لا عجب أن تجد الواحد منهم في وضع
تحفز وقلق عندما تحين أيام الإعلان عن جوائز نوبل. ولكي يكون بعض العلماء في حالة
استعداد للحظة استقبال الاتصال الهاتفي (the Call) يمتنع تماما عن السفر في بداية شهر أكتوبر
أو الارتباط بأمور تجعله خارج الصفاء الذهني والعاطفي لتلقي الخبر السعيد. المشكلة
تكمن في حال كون ذلك العالم يتم ترشيحه لسنوات طويلة وبشكل متوالي دون أن يحصل على
تلك الجائزة العلمية الكبرى وهنا تبدأ المشاكل النفسية والإحراج المتجدد. في الوقت
الحالي يعتبر العالم البريطاني السير بول نرس أحد أشهر علماء الوراثة والجينات
ولهذا قبل حصوله على جائزة نوبل في الطب لعام 2001م ظل لعدة سنوات يتلقى الاستفسارات
من الصحفيين إن كان سوف يحصل أخيرا على جائزة نوبل. في العادة يتم تكريم أبرز العلماء
البريطانيين بمنحهم رتبة فارس Knighthood بعد أن يحصل الواحد منهم على جائزة نوبل
ولكن نظرا للتميز العلمي الكبير للدكتور بول نرس تم تكريمه من قبل ملكة بريطاني
بمنحله لقب السير في عام 1999م وهذا ما تسبب في زيادة حماسة الصحافة البريطانية
أنه على وشك الحصول على جائزة نوبل وبالتالي زاد ازعاجهم له ولهذا أعترف نرس لاحقا
انه كان يكره هؤلاء الصحفيين الملاعين الذين نكدوا عليه حياته.
من الغريب أن التفوق والإبداع العلمي قد
يسبب الإحراج وتنغيص الحياة من جانب غير متوقع فمثلا عالم الكيمياء الأمريكي مارتن
تشالفي توصل لاكتشاف علمي مميز فيما يتعلق بتحضير نوع معين من البروتينات التي تشع
ضوء فسفوري. ولهذا ظل لعدة سنوات وهو يشعر بالضيق من كثرة سؤال العلماء والأصدقاء
والأهل له عن متى سوف يحصل على جائزة نوبل. وقد اعترف أنه في الأسبوع الأول من شهر
أكتوبر لعام 2008م شعر بالقلق ولم ينم بشكل جيد في ليلة إعلان جائزة نوبل في
الكيمياء وإن كان من حسن حظه أنه نال الجائزة أخيرا وكذلك تخلص من إزعاج الناس له
بالسؤال (هل ستحصل على جائزة نوبل هذه السنة ؟!).
لا شك أن الصبر فضيلة وكما يقول المثل
الفرنسي كل الأشياء الحسنة تأتي لأولئك الذين ينتظرون وهذا الأمر متكرر بعض الشيء
في الحصول على جوائز نوبل فمن المحتمل أن يكون للشخص شهرة علمية أو أدبية مدوية
ومع ذلك يتأخر حصوله على لجائزة لعقود طويلة. في السنوات الأخيرة كثيرا ما يتم منح
جائزة نوبل في الفيزياء في مجال الجسيمات الأولية للذرة ولهذا منذ سنوات طويلة
يظهر اسم العالم الأسكتلندي بيتر هيغز كأحد أبرز المرشحين للجائزة. وبالرغم من أن
هيغز توصل لاقتراح وجود جسيم أولي اشتهر باسم بوزون هيغز (أو جسيم الإله God particle)
في منتصف الستينيات إلا أنه لم يمنح جائزة نوبل إلا عام 2013م أي بعد مرور نصف قرن
كامل على اكتشافه المهم. وبعد أن بلغ بيتر هيغز من العمر عتيا وأصبح في سن 84 ربما
فقد الأمل تماما في الحصول على جائزة نوبل ولذا لم يكن يكترث بأن يحمل هاتفه الجوال
أو أن يستخدم الإنترنت للتواصل مع الآخرين عبر الإيميل. ولهذا وقع أعضاء لجنة
جائزة نوبل في حرج كبير عندما تعثر الاتصال بهيغز وإخطاره بفوزه بالجائزة قبل الإعلان
الرسمي عنها. في واقع الأمر أحدثت هذه القصة الطريفة جو من المرح في المجتمع
العلمي حيث علّق بعضهم ساخرا: إذا كان الجسيم الأولي الذي اقترح وجوده هيغز كان من
الصعب جدا إثبات اكتشافه ولم يتم ذلك إلا بعد سنوات طويلة من البحث العلمي الشاق
فلماذا نستغرب من أن هيغز نفسه يمتلك شيء من خصائص جسيمة (بوزون هيغز) وأنه هو
بدوره يصعب أحيانا تحديد أين يوجد أو كيف يتم الاتصال به.
الجدير بالذكر أن لجنة جائزة نوبل قد وقعت
قبل ذلك التاريخ في مشكلة حقيقة عندما تعذر الاتصال بفائز آخر بجائزة نوبل ولكن
السبب هذه المرة ليس لأن جواله مغلق ولكن لأنه كان قد توفي. هذا ما حصل في اليوم
الثالث لشهر أكتوبر من عام 2011م عندما تم الإعلان الرسمي بأن العالم الكندي رالف
ستاينمان قد حصل على جائزة نوبل في الطب ولكن عندما حاولت لجنة الجائزة الاتصال به
لتهنئته بالخبر السعيد تبين أنه قد توفي قبل ذلك التاريخ بثلاثة أيام فقط بسبب
إصابته بمرض سرطان البنكرياس وهو الأمر الذي لم تعلم به لجنة الجائزة مما أصابها بالحرج
الشديد. المحزن في الأمر أن العام الكندي ستاينمان كان يمتلك شهرة علمية كبيرة
وحصل على جوائز دولية مرموقة وكان يعلم أنه مشرح بجدارة لجائزة نوبل ولهذا تقول ابنته
إن والدها وهو في مرض الموت كان يلاطف أسرته بقوله قبل أسبوع فقط من وفاته بأنه
سوف يعيش حتى يتم الإعلان عن الجائزة: (يجب علي أن أقاوم الموت حتى يتم الإعلان عن
الجائزة لأنها لا تمنح لشخص ميت إنهم لن يمنحونها لك إذا توفيت قبل هذا). ومن حسن
حظ ستاينمان أن لجنة الجائزة بعد الربكة التي وقعت فيها قررت أخيرا أن تستمر في
منح الجائزة له حتى وإن كان قد توفي وهي بذلك كسرت القاعدة العاملة التي تم
المحافظة عليها لسنوات طويلة أن جائزة نوبل لا تمنح إلا لمن هو على قيد الحياة.
منح جائزة نوبل بين الجد والهزل .. والجنون
جائزة نوبل كما هو معلوم تعرضت لسلسلة من
الفضائح والمشاكل الكبرى ليس فقط في سوء اختيارها لبعض الفائزين (مثل مجرم الحرب
الصهيوني مناحيم بيجن) ولكن أيضا الإحراج البالغ لهيئة الجائزة عندما يرفض بعض
الفائزين تقبل جائزة نوبل مثل الأديب الإيرلندي جورج برنارد شو والكاتب الفرنسي
جون بول سارتر. المشكلة تكمن أنه من القواعد الأساسية لبروتكول جائزة نوبل أنع لا
يتم في البداية التنسيق مع الفائزين بها لمعرفة هل يقبلونها أم لا. ولهذا تقع بعض المشاكل
المحرجة ومن هنا عندما قررت اللجنة الخاصة بجائزة نوبل في الاقتصاد منح الجائزة
لعالم الرياضيات الأمريكي جون ناش حصل استثناء وحيد في التواصل مع الفائز قبل
اعتماد منحه الجائزة. المشكلة أن جون ناش كان مصاباً باضطرابات نفسية تمثلت في معاناته
مع مرض الفصام (الشيزوفرينيا) وخوفا من أن يتصرف جون ناش بشكل جنوني غير منضبط
أثناء تسليم الجائزة. لذا تم تقيم حالته الذهنية من خلال التواصل مع زملائه في
جامعة برنستون العريقة كما حصل تمرير خبر فوزه بالجائزة قبلها بيوم حتى عندما يتم
الاتصال به يكون على إطلاع مسبق ولا يتفاجأ.
في الواقع فإن موضوع منح جائزة مرموقة جدا
مثل جائزة نوبل أمر على درجة عالية من الجدّية والصرامة ومع ذلك أصبح (الاتصال)
بالعلماء البارزين وإبلاغهم بفوزهم بالجائزة مجال واسع للسخرية وعمل المقالب. ولهذا
ليس من المستغرب أن يتم تناقل الأخبار في المجتمع العلمي أن بعض مشاهير العلماء
اتصل به شخص ما وجعله أضحكوه عندما زعم له أنه من لجنة جائزة نوبل وأنه يتصل به
ليزف له الخبر السعيد بفوزه بالجائزة فيسارع ذلك المسكين بنشر الخبر المزيف وينطلي
عليه الملعوب. وهذا النوع من المزاح المتعلق بجائزة نوبل أصبح له مصطلح شائع بين
العلماء وهو (مقلب الاتصال الهاتفي prank call) ولهذا يعترف ستافان نورمارك الأمين العالم
لأكاديمية العلوم السويدية الذي ظل لفترة طويلة هو من يتصل بالفائزين الجدد
بالجائزة، فقد قال إن من مهامه أن يؤكد للفائزين عند الاتصال بهم أن هذا اتصال حقيقي
وأن الأمر جاد وليس مزحة أو مقلب. في عام 2012م حصل علم الأحياء البريطاني جون
غوردن على جائزة نوبل في الطب وذلك لأبحاثه عن الاستنساخ التي قام بها قبل ذلك بحوالي
نصف قرن. ولهذا عندما تم الاتصال به من قبل لجنة الجائزة لأخباره بهذا الفوز توقع
في بداية الأمر أن هذا الاتصال مزحة فقط فكيف تذكره القائمون على الجائزة بعد تلك
العقود الزمنية. أما عالم الفلك الأسترالي بريان شميدت فيبدو أنه تعرض لأكثر من مرة
لخدعة الاتصالات ولهذا عندما حصل أخيرا على الاتصال الحقيقي عام 2011م لأخباره
بالفوز بجائزة نوبل في الفيزياء تعجب كثيرا كيف تمكن طلابه من حبك مقلب الاتصال
هذه المرة بحيث أن المتحدث كان يتكلم بلكنة سويدية. ونختم ذكر مقالب جائزة نوبل بالقصة
الطريفة التي حصلت لخليفة اينشتاين في مجال العبقرية في علم الفيزياء إلا وهو
العالم الأمريكي ريتشارد فاينمان والذي عندما تلقى اتصالا هاتفيا بخصوص إخباره
بفوزه بالجائزة أعتقد في البداية بأن الأمر مقلب من بعض طلابه ولهذا تكلم بشكل حاد
مع المتصل. ولكن بعد الاتصال الثالث على التوالي بدأ فاينمان يقتنع أن الاتصال
حقيقي وليس مزحة ولهذا اعتذر بشدة من الأشخاص الذين لم يكن مهذب في الرد عليهم.
كلمة أخيرة قبل أن نغادر (الاتصال) بكم عبر هذا المقال وبمناسبة الحديث عن جوائز نوبل لعل من المناسب ذكر الأديب الإيرلندي صموئيل بيكيت الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1969 حيث أنه ما زال حتى الآن هو مؤلف آخر أهم عمل مسرحي بارز إلا وهو مسرحية (في انتظار غودو). ما يهم في هذه المسرحية أنها من نوع الكوميديا السوداء وهي تدور عن رجلين ينتظران تحت شجرة جرداء شخص يدعى (غودو) والذي لا يصل أبداً. للأسف الشديد كما لن (يصل) غودو أبدا فكذلك في الغالب لن (يتصل) أحد من لجنة جائزة نوبل بأي من العلماء العرب المقيمين في البلدان العربية ولهذا ربما يُكتب يوما ما مسرحية هزلية بعنوان (في انتظار نوبل). صعوبة تحقيق الحلم العربي بالحصول على جائزة نوبل والعالم مقيم على أرض العرب لخصه الدكتور أحمد زويل عندما صرح لوسائل الإعلام لحظة الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م عندما قال (في صغري أبداً لم أتوقع على الإطلاق never ever أنني يوما ما سوف أتلقى اتصالاً هاتفياً من السويد). ومع ذلك ما زال الأمل موجود أنه سوف يحصل أن يتلقى أحد العلماء أو الأطباء ممن يقيم في الدول الغربية اتصالا هاتفيا يبدأ برقم (0046) وهو رمز الاتصال الهاتف الدولي للسويد. ولعنا قريبا بمشيئة الله نسمع هذا الخبر السعيد عن أستاذ الكيمياء بجامعة كاليفورنيا، بيركلي الدكتور عمر ياغي العالم الأمريكي البارز ذو الأصول الأردنية خصوصا بعد حصوله على أبرز وأرقى الجوائز العلمية ولم يتبقى له إلا جائزة نوبل ولعلها تكون قريبة المنال.
تنبيه: سوف يتم الإعلان
عن جائزة نوبل في الطب يوم الإثنين القادم (الخامس من شهر أكتوبر) في حين يعلن يوم
الثلاثاء عن جائزة نوبل الفيزيائية أما الإعلان عن الفائز بالجائزة في مجال
الكيمياء فسوف يكون صباح يوم الأربعاء.. فكونوا على الموعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق