د/ أحمد بن حامد الغامدي
في السنوات الأولى لدراستي في بريطانيا
وبحكم ندرة وجود ثمار الرمان في تلك الديار توافق في أحد الأيام أنني كنت أنتقي
الجيد والمغري من تلك الثمار المعروضة في السوبرماركت وهنا اقتربت سيدة عجوز رأت اهتمامي
بهذه الفاكهة ولأنها غير شائعة عندهم سألتني باللغة الإنجليزية عن اسمها. بكل
الصدق منذ تلك الحادثة وحتى الآن يصعب على ضبط حفظ اسم الرمان باللغة الإنجليزية
وبعد سؤال العجوز الانجليزية المحرج رجعت للمنزل وبحثت عن الاسم فوجدت أنه pomegranate
وهو اسم على خلاف الأسماء الإنجليزية للفواكه والخضروات هو اسم معقد نسبيا وغير
مفهوم. في الواقع هذا الاسم المٌلكّع مشتق من كلمتين باللغة اللاتينية هما pomum بمعنى تفاح وكلمة granatus بمعنى حبوب أو بذور. وبهذا يكون معنى اسم
الرمان باللغة الإنجليزية (التفاح ذو الحبوب) وسبب هذه التسمية غير مفهوم ومحير
فما الرابط بين التفاح والرمان إلا إذا كان الأمر نشأ من أن بعض علماء اليهودية
يعتقد أن الثمرة المحرمة التي أخرجت آدم عليه السلام من الجنة هي الرمان وليس ثمرة
التفاح كما هو شائع. ولا أدري لماذا أصبح اسم هذه الثمرة المحببة في اللغات
الأجنبية مرتبط بالمصائب والكوارث فبعد الربط المتوهم بالحرمان من الفردوس نجد أن اسم
هذه الثمرة باللغة الفرنسية (ومظهرها) جعل بعض الحمقاء يربطها بالقنبلة اليدوية
فكلاهما (الرمان والقنبلة) ينطق (grenade).
سنعرف لاحقا أن العديد من الشعوب
ركزت اهتمامها وبنت أساطيرها على حب وبذور الرمان أكثر من مظهراها الخارجي بينما نحن
العرب استهوتنا القشور وتعلقنا بالمظاهر لدرجة أننا لم نحسن الاستفادة من الفوائد الطبية
لهذه الثمرة إلا فيما يتعلق بالوصفات الشعبية لقشر الرمان. بينما توصل فريق من
الباحثين في سويسرا لإثبات ارتباط حب الرمان في مقاومة الشيخوخة وقاموا بنشر نتائج
بحثهم الشيق في مجلة نيتشر المرموقة عندما أثبتوا أن بعض المواد الكيميائية في
الرمان تتحول في الأمعاء بواسطة بعض البكتيريا إلى مواد تساعد خلايا الجسم في
الاستمرار في النمو والتجدد وإطالة العمر. وهذا يذكرنا بما ورد في الأثر الشريف عن
العابد ممن كان قبلنا الذي ظل لمدة خمسمائة سنة وليس له طعام إلا رمانة واحدة
طازجة كل يوم (بالمناسبة هل حصل لبس آخر بين التفاح والرمان ولهذا قيل بدون مستند
طبيب ملموس: تفاحة كل يوم تغنيك عن الطبيب).
في الأدب كما في الطب لم يلفت
اهتمامنا في الرمان إلا القشور والمظهر العام فبحكم أن ثمرة الرمان من بين جميع
الفاكهة هي الوحيدة المكتملة الاستدارة وفي نفس الوقت لها تاج صغير بارز ولهذا لم
تبتعد مخيلة شعراء العربية بعيد في التشبيه الساذج لنهد وحلمة المرأة بثمرة الرمان.
وهذا التشبيه شائع في الشعر العربي منذ زمن الجاهلية كما في نجده في شعر النابغة
الذبياني ومرورا بالعصر العباسي وشعر ابن المعتز ووصولا للزمن المعاصر وشعر نزار
قباني فكلهم استعار شكل ثمرة الرمان لتوصيف صدر ونهد المعشوقة.
بينما في المقابل نجد شعراء الحكمة والعمق
الوجداني يثير اهتمامهم عجائب باطن ثمر الرمان أكثر من المظهر العالم لجمال الرمان
وجمال غصن وزهر الرمان. صنعة الخالق البديع في ترتيب ونظم حب الرمان داخل الثمرة
بصورة إعجازية لفتت اهتمام الشاعر جلال الدين الرومي الذي اشتهر بعمق الفكر
وابتكار الصور الأدبية ولهذا كان من حكمة ذائعة الصيت قوله (القوة التي تضع حبات
الرمان واحدة واحدة داخل قشرتها، تعلم في أي قلب تضعك، فلا تقلق). بالمناسبة
للشاعر (مولانا الرومي) حضور كبير وإعجاب منقطع النظير في الغرب وربما لا ينافسه
في ذلك إلا سلفه عمر الخيام وبمناسبة الرابط بين جلال الدين الرومي وحب الرمان
تجدر الإشارة إلى أنه صدر كتاب صغير عن أشهر الاقتباسات الشعرية التي أبدعها
الرومي. ذلك الكتاب ليس فقط حمل عنوان (بذور الرومي Rumi’s Seeds)
بل كذلك غلاف الكتاب يحمل صورة لثمرة وحب الرمان ويقول الكاتب غلين سالازار أنه كما
يتفجر حب الرمان الأحمر بالحياة والجمال في ضوء الشمس فكذلك تتفجر وتشع أشعار
الرومي بالحكمة عندما تقرأ في ضوء القمر.
وبالعودة لبديع صنع الله في ترتيب ونظم حب
الرمان داخل قشرتها الذي أثار حيرة مولانا الرومي فهذا يقودنا لذكر خبر لطيف في
دنيا العلوم بطله عالم الفلك والرياضي الألماني البارز يوهانس كيبلر الذي لو لم
يكتشف قوانينه الثلاثة لحركة الكواكب حول الشمس ربما لم يتمكن نيوتن من اكتشاف
الجاذبية نتيجة لسقوط ثمرة تفاح (أو هي ثمرة رمان .. لست أدري !!). تقول القصة إنه
عندما كان كيبلر يمشي عبر أحد جسور مدينة براغ تجمعت بعض ندف الثلج على معطفه
وعندما فكر في دراستها تحت العدسة المكبرة وجد كيبلر أن بلورات الثلج وبالرغم من
اختلافها عن بعضها البعض إلا أن لها شكل سداسي الأضلاع. وبعد تفكير وتمعن استنتج
كيبلر بشكل سليم أن الشكل السداسي هو أفضل شكل هندسي يضمن الاستفادة القصوى من أي
حيز فراغي مع مراعاة القوة والإحكام للشكل المتكون. وفي خطوة تاليه توجه اهتمام
كيبلر من بلورات الثلج إلى فحص أقراص الشمع ولأنها ثنائية الأبعاد (مسطحة الشكل) فلهذا
أفضل شكل لاستغلال المساحة وضمان الثابتية يجب أن تكون خلايا شمع العسل سداسية (hexagonal).
أما إذا أردنا صف وترتيب أشياء بشكل محكم في شكل ثلاثي الأبعاد فأنه لازم أن تتحول
الأضلاع إلى سطوح وبهذا يتغير الشكل من السداسي إلى الشكل الهندسي المسمى متعدد
السطوح الاثنا عشري (dodecahedron). وحتى يثبت كيبلر صحة استنتاجاته الفراغية
وحساباته الرياضية وجد ضالته العلمية ودليله من الأشياء الطبيعية في (حب الرمان)
حيث بالدراسة الدقيقة له وجد أن كل حبة رمان مفردة هي في الواقع عبارة عن شكل
هندسي متعدد الأوجه والسطوح يبلغ عددها اثنا عشر سطحا. وبهذا توصل كيبلر أنه
لتحقيق أفضل طريقة لتعبئة حب الرمان بصورة فعالة للاستغلال المساحات الفراغية مع
وضع أكبر عدد من البذور داخل قشرة الثمرة يجب أن يكون شكل حب الرمان على هيئة
متعدد السطوح الاثنا عشري.
أعلم مسبقا أيها القارئ العزيز بأنك سوف تحتار وتتعجب هل فعلا لكل حبة رمان اثنا عشر وجه وسطح والحل بسيط لأن هذا المقال يتم تسطيره بمناسبة انطلاق فعاليات مهرجان الرمان الوطني بمنطقة الباحة ولهذا كتسويق لهذه الفاكهة اللذيذة عليك في المرة القادمة وانت تتناول حب الرمان أن تحاول أن تحصي عدد الأسطح لكل حبة. على كل حال ينبغي التنبيه أن محاولة رصد السطوح الاثنا عشر لأي حبة رمان قد تصيب بعضنا بالإرباك والحيرة ولكن حيرتنا في العدّ الهندسي والتدقيق الفراغي ربما تكون أسهل من حيرة بني إسرائيل الذين يشيع بينهم مقولة أن (في كل رمانه 613 حبة وهي بعدد وصايا الرب الواردة في التوراة). ولهذا ينتشر بين أطفال اليهود في مناسباتهم الدينية أن يحاول كلا منهم عدّ وإحصاء عدد حب الرمان الموجودة في الثمار التي يتناولونها. وفيما يخص بالحساب المتعلق بحب الرمان فإننا قطعا سوف نتفوق على بني إسرائيل فكل حبة رمان لها 12 سطحا بينما بالقطع ليس كل ثمرة رمان فيها 613 حبة رمان فحسب الإحصاءات الزراعية متوسط عدد حب الرمان في الثمار يتفاوت ما بين 200 حبة و1400 حبة رمان.
وختاما لكل من عشق تناول (فرط الرمان) ننصحه
بالاستمتاع بالتقاط والتهام تلك الحبوب الحمراء المذهلة وألا يشغل نفسه بحصر وحساب
عددها ففي لحظة اللذة استمتع بها ودعك من القلق مما يلي بعد ذلك. ومع ذلك قد نجد
في دنيا الأساطير أن عدم الاهتمام بعدد حبات الرمان التي تتناولها قد يوقعك في
الكوارث كما هو حال بيرسيفوني ربة وإلهة الزراعة والحبوب عند الإغريق. وفق الأساطير
الإغريقية القديمة استطاع هاديس إله العالم السفلي من اختطاف بيرسيفوني الفائقة
الجمال واحتال عليها حتى يبقيها معه في عالم الموتى بأن تصبح زوجته وملكة معه على
العالم السفلي. تم ذلك من خلال تجويع بيرسيفوني لفترة طويلة ثم إعطائها عدد من حب
الرمان والتي لو أكلتها فإنها حسب قوانين العالم السفلي عندما يأكل أي شخص من طعام
الموتى يجب أن يقيم بينهم إلى الأبد في مملكة الموتى. وبزعمهم بعد تدخل آلهة
الأولمب وكبيرهم زيوس تم التوصل لاتفاق أنه نظرا لأن بيرسيفوني تناولت فقط أربع
حبات من فرط الرمان فلذا يتوجب عليها أن تقيم كل سنة أربعة أشهر في مملكة الموتى ومن
ثم تغادر العالم السفلي مع مطلع الربيع لتعود مرة أخرى مع بداية فصل الشتاء.
كلمة أخيرة، لعقود طويلة تفردت مدينة الطائف بلقب (مدينة الرمان) ويبدو أن هذا اللقب بدأ في الانتقال إلى منطقة الباحة بل وحتى منطقة القصيم فكلا منهما تنشط فيها نهضة زراعية واعدة. صحيح أن المقال الحالي جاء بالتزامن مع مهرجان الباحة للرمان لكن شفيعي عند مدينتي الحبيبة الطائف المأنوس أنها تشتهر الآن أكثر بلقب (مدينة الورد) ولهذا العام الماضي وفي عز موسم الطائف الصيفي كتبت لها مقالة (مدينة الطائف وكيمياء الورود).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق