الأربعاء، 28 يوليو 2021

( الغبار من منظور فلسفي !! )


 في أجواء الغبار الخانق تنقدح حكمة الفلسفة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

غالب البشر لهم نفور طبيعي ومعاناة ملموسة من الغبار والأتربة ولكن عندما تكون كحالتي تقيم في مدينة الطائف - مدينة الغيوم وأناقة الطبيعة - ثم تتحدث عن الغبار والأتربة فأنت إما ( تمزح ) أو لا تراعي مشاعر الآخرين ولا تستشعر معاناتهم ولذا أنت تتفلسف. هذا الأسبوع شهدت أجزاء من الوطن وبعض دول الخليج موجة غبار وأتربة غير مسبوقة وفي بعض الحالات كانت درجة العواصف الرملية مفزعة وكارثية. يقال من رحم المعانة تولد ( الحكمة ) وتستنبط الفلسفة وثلاثية ( الفلسفة والمعانة والغبار ) خير من يمثلها الفيلسوف الهولندي المنكوب باروخ سبينوزا الذي عانى من ويلات مرض عضال قضى على حياته وهو في سن مبكرة. لقد كان سبينوزا يعمل في مهنة صناعة العدسات الطبية وبسبب تعرضه المستمر لغبار صقل زجاج العدسات أصيب بمرض رئوي قاتل.

 للعقل الفطين والذهن اللمّاح حتى الأشياء التافهة والصغيرة يمكن أن تفتح مجالات وأبعاد متعددة لأفكار عميقة ولهذا أستنبط أستاذ الفيلسوف الكندي مايكل ماردر بأن ملاحظة الغبار والتفكير فيه قد تجعل الشخص مؤرخاً وأن يطرح أسئلة عميقة عن الانتماء والوقت. وفي سياق التفكر في الغبار يقال إن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عندما كان في أوائل شبابه لفت نظره يوما ما الضوء الداخل من النافذة وأنه يكشف عن ذرات وهباب الغبار غير المرئي والذي هو دوما في حركة وتصادم مستمر. وبالرغم من الفراغ الظاهري للهواء في الغرفة إلا أنه مليء بجسيمات الغبار وكذلك الكون في نظر ديكارت مليء بالمادة والذرات أو ما سماه ذلك الفيلسوف (سائل التفكير من الغبار). ونفس ذلك المشهد لذرات وجسيمات الغبار الضئيلة المنكشفة بنور الضوء تلقفه قبل ذلك الشاعر والمتصوف جلال الدين الرومي وعبر تقريبا عن نفس الفكرة في وحدة الكون وأنه مكون من الروح والمادة:

قل من أنا

أنا ذرات غبار في ضوء الشمس

 ليت شعري كم منا يعرف أن الشمس هي في الواقع عبارة عن (نجم) عادي من نجوم السماء ومرة أخرى نجد الترابط بين الغبار وبين الكشف الفلسفي عن حقيقة الكون وهو ما تمثل في المقولة المشهورة لعالم الفلك الأمريكي والنجم التلفزيوني كارل ساغان (أيتها البشرية .. ما نحن إلا حفنة من غبار النجوم). وإن كان ساغان نظر للجانب المادي للبشرية وأنها مخلقة من ذرات وجسيمات (غبار) مصنعة في قلب النجوم فإن شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال نظر للبشرية بأنها وإن كانت من أصل وضيع إلى أنها قابلة للسمو والرفعة ولهذا قال (صحيح أننا مصنوعون من الغبار، والغبار أيضا من تراب ولكن الغبار يرتفع). وبحكم أن كل ما يرتفع حتماً في لحظة ما يجب أن يقع وينزل فمن هنا نفهم ديمومة الغبار وديناميكيته (فالغبار لا يهدأ) فهو وإن استقر لفترة من الزمن فقد يُثار وينفض ويرتفع مرة أخرى في دورة لا نهائية وهذا الثنائية من الركود والصعود للغبار تستحق التأمل وثرية بالحكم الفلسفية.

وبعد هذه السفسطة الفلسفية حول الغبار والعفار المُثار نختم بما بدأنا به من الربط بين الغبار والفلسفة ومن رزق الجو الصافي والبديع ونشير لما ينقل عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت قوله: بعض الناس مثل الغبار عندما يختفون يكون يوما جميلاً.

أسعد الله أوقاتكم وجمّل الله أيامكم ولياليكم وأبعد الله عنكم الغبار وخفف عنكم ثقل اللقاء بمن لا تحبون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق