د/ أحمد بن حامد الغامدي
وصف أي شخص بأنه من (صعاليك الجاهلية) يبدو في ظاهرة الأمر أنه هجاء مقذع لما لكل من كلمتي الصعلكة والجاهلية من ظلال سلبية وأبعاد لغوية منفرة ومع ذلك للثائرين القدامى الذين عرفوا بلقب الصعاليك كان لهم العديد من الصفات وملامح الشخصية التي عدت من مكارم الأخلاق والتي أتى الإسلام لإكمالها. من الصفات النبيلة للصعاليك نجد الشجاعة والفروسية والصبر والأنفة والإباء ويضاف لذلك عشقهم للطبيعة ورعايتهم لحيواتها وكائناتها لدرجة أن الصعلوك المعروف بالاسم الشنيع (تأبط شراً) لم يكن منه شر ضد الطبيعة، كيف وهو من يلقب أحياناً بأنيس الوحوش. قارن هذا بما حصل من بعض الرعاع من أبناء منطقة الباحة (الكرام أهلها) عندما قام أولئك الهمج من الشباب الطائش الأسبوع الماضي من اقتناص وقتل الوعول الجبلية بعد ساعات من لحظة إطلاقها في البرية. الغريب أن مفهوم (المحافظة على الحياة الفطرية) خير من يمثله صعاليك الجاهلية ممن ترعرعوا ودرجوا على جبال منطقة الباحة كما سوف نذكر أمثلته بعد قليل من أخبار الشنفرى وتأبط شراً.
وبحكم أن الصعلوك قديماً هو من تمرد على
القبيلة وبالتالي ُطرد وهُجّر منها ولهذا كان العديد من الصعاليك يعيشون في قمم الجبال
في مواقع كانت تسمى (المَرقبة) والتي كان يستخدمونها للترصد والتربص بالآخرين سواء
من الأعداء أو من الأشخاص الذين قد يخططون لسرقتهم. ومن ذلك جبل المرقبة من أرض
زهران وهو الذي يطل على تهامة وهو الذي ورد ذكره في شعر الشنفرى عندما كان يقيم
بديار سلامان بمحافظة المندق ديار قومه
وأهله
وفي تلك القمة الشاهقة يقول:
ومَرقَبَةٍ عَنقاءَ يَقصُرُ دونها أخو الضروَةِ الرجلُ الحَفِيٌّ
المُخَفّفُ
نَعَبتُ إلى أدنى ذَراها وقد دَنا من الليلِ مُلتَفُّ الحديقةِ أسدَفُ
والمهم هنا أن إقامة الصعلوك الجاهلي في هذه (المراقب) وقمم الجبال تجعله على تماس وتقارب كبير مع الحيوانات الجبلية ومن أهمها الوعل الجبيلي. وبحكم طول المجاورة وكما قالت العرب قديما إن (قرب الوساد وطول السواد) مغري بالمؤانسة والمجالسة وبذا لا غرابة في الواقع أن تتوثق العلاقة بين الشريد (أي الصعلوك) وبين الطريد (أي وعل الجبل).
واحدة من أجمل القصائد العربية الأصيلة هي
قصيدة (لامية العرب) للشنفرى وفي آخرها نجد هذا الصعلوك يصف تعامله الرقيق والأنيق
مع الوعول الجبلية فيقول:
ترُودُ الأرَاوي الصُّحمُ حولي كأنها عَذَارى عليهن المُلاءُ المُذيّلُ
ويركُدنَ بالآصالِ حولي كأنني من العُصم أدفى ينتحي الكِيحَ أعقلُ
وما أراد شاعرنا قوله إنه أثناء أقامته بتلك القمم الشاهقة من جبال زهران تتحرك وتجيء الوعول الجبلية حوله وهي من الشياه والأناثي التي وصفها بأنها سوداء اللون وأنها كذلك أشبه بالعذارى الخجولات المحتشمات. والمقصود أن تلك الوعول الجبلية قد ألفت وأنست بالشنفرى فلا تخاف منه ولا تنفر عنه وهي وقت المساء وفي الأصيل تجتمع حوله وتربض بالقرب منه وهي في حمايته وكنفه آمنة مطمئنة على خلاف ذلك الوعل السيء المصير الذي تم قتله وسلخه في الليل هذا الأسبوع من قبل أوباش أهل الطيش في مجتمعنا.
في الأدب العربي ما أن يذكر اسم الشنفرى حتى
يرتبط به مباشرة ذكر الشاعر والفاتك الصعلوك تأبط شرا وسبب ارتباطهما معا أن تأبط شرا
(كما يقال) هو خال الشنفرى ولذا كثر تردد تأبط شرا لمواقع كثيرة من بلاد زهران وبعضها
ورد ذكرها في شعره. كما هو معلوم سرد أبو العلاء المعري في (رسالة الغفران) عدد
كبير جدا من شعراء العربية وزارهم في المنام بزعمه إما في الجنة أو في النار وعندما
ذكر الشنفرى الأزدي عرج مباشرة بذكر تأبط شراً وقال عنهما (وإذا هو قرينُ تأبط شرا
كما كان في الدار الغرارة) وعلى نفس النسق سوف نقرن ونجمع بين خبر تأبط شرا مع
الوعول الجبلية بعد أن ذكرنا حال وحنان الشنفرى حيالها. البيئة الطبيعية قديما في
الجزيرة العربية كانت تعج بالوعول الجبلية والبقر الوحشية (ظباء المها) والتي كانت
ترتع في مراعيها البرية. وكما الحال مع الشنفرى نجد أنه ينطبق الحافر على الحافر
في أن تأبط شراً قد ألف التعايش بسلام وسماحة مع هذه الحيوانات الجموحة ولهذا نجده
يقول عن نفسه:
يَبيت بمَغنى الوحشِ حتّى ألِفنهُ ويصبح
لا يَحمي لها الدهر مرتعا
رأين فتى لا صيدُ وحش يهمه فلو
صافحت إنساً لصافحنه معا
فهو يبيت وينام في مرابض ومنازل الظباء والوعول ومن طول ملازمته لها ألفته هذه الحيوانات النافرة فهو لا يمنعها من الرعي كما أنه مسالم لها ولا يخطر في باله أن يصيدها ولو أمكن لهذا الوعول والظباء أن تصافح إنسانا لصافحته كلها من كثرة ما ألفته واعتادت على مسلامته لها.
صورة فنية وتوصيف أدبي بديع ذلك الذي سطره
صعاليك الجاهلية في رعايتهم للحياة الفطرية بمنطقة الباحة القديمة في مقابل ما
نستنكره كلنا مما قام به بعض الشباب الطائش من أبناء المنطقة. ومع ذلك توجد ظاهرة
اجتماعية أخرى تستحق الإشارة والتنبيه وهي قيام بعض الشباب وبشكل أسبوعي باستنزاف
الثورة الحيوانية للمنطقة، ولكن ليس بقنص التيس الجبلي، ولكن باستهلاك التيس
الساحلي والتهامي. ليس من فراغ انتشار الطرفة والنكتة بين أبناء المنطقة والتي تقول
إن يوم الثلاثاء (Tuesday)
يستحق بأن يدعى تيوس - دي أي (يوم التيوس) بسبب كثرة التيوس التي تذبح وتأكل كحنيذ
أو مندي. وذلك هدر هائل وتضييع للأموال والأوقات بسبب نزول أعداد غفيرة من أبناء
منطقة الباحة إلى سهول تهامة كل يوم ثلاثاء وغيره من أيام الأسبوع. قبل عدة سنوات سطرت في إحدى قروبات وسائل
التواصل الاجتماعي مداخلة خفيفة حول هذا الأمر حملت عنوان (يوم الثلاثاء (تيوس -
دي) هو يوم الملحمة !!!) لعلي أعيد أرسلها ملحقة بهذا المقال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق