ليس بغزارة العلم وحدة أصبح الألباني أمام في
الدين
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في كتاب (الأبطال) لخص المفكر والكاتب الإنجليزي توماس كارليل التاريخ البشري بقوله (تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء) وعلى نفس النسق يمكن بشيء من التجاوز أن نختزل تاريخ التيار والمنهج السلفي بأنه سلسلة متواصلة لمسيرة عدد من (أعلام السلف). الرموز والشخصيات السلفية في القديم والحديث كثيرة وذات مشارب متعددة لكن (القامات التاريخية) محدودة نسبيا ويمكن تلخيصها في الأسماء اللامعة مثل الأمام أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب. في التاريخ الإسلامي وجد العديد من (الأئمة الأعلام) الذين وضعوا بصمتهم الفريدة في شتى المجالات كما في المذاهب الفقهية مثل الأئمة الأربعة أو تدوين السنة مثل علماء الحديث الكبار كالبخاري ومسلم أو حتى في مجال التصوف مثل الإمام الغزالي.
توجد أسباب وعوامل متعددة ومتداخلة في
البروز الكبير والانتشار الواسع لتأثير بعض السلف الصالح دون البعض الآخر. عندما
قارن الإمام الشافعي بين عمالقة الفقه الإسلامي مالك بن أنس والليث بن سعد قال
(الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به) بمعنى أنه الليث بن سعد لم ينشأ
مدرسة فكرية تقوم بتدوين علمه وتنشره في الآفاق. قوة المنهج العلمي وكاريزما
الشخصية من العوامل المهمة في استقطاب الاتباع والمريدين والتلاميذ ومع ذلك يبقى
من العوامل المهمة في شخصية (الأئمة الأعلام) أن تكون مسيرتهم مشحونة بالنضال
والمعاناة والابتلاء. البشر يعشقون وينجذبون لم يناضل ولذا يرفعون مكانته ويقدرون
تضحيته وبالعودة للإمام الشافعي يقال إن أحدهم سأله فقال: يا أبا عبد الله أيُّما
أفضل للرجل أن يُمكّن أو أن يبتلى فقال الشافعي الحكيم: لا يُمكّن حتى يبتلى. وكل درج
وسلك في سبيل الدعوة يعلم أنه لا بد أن يمر على طريق الابتلاء والتمحيص ومن هنا ذكر
ابن قيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين أنه سمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول:
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
بالمناسبة يوجد نوع من التطابق بين ابن
تيمية والألباني في تنوع الأذى والمعاداة والمضايقة لهما أثناء حياتهما والتجريح
والتجريف لمنهجيهما بعد وفاتهما. في القديم تقدم علماء السوء بشكوى ضد ابن تيميه في
المسألة الفقهية المتعلقة بالحلف بالطلاق ونتج عن هذه الشكوى قيام قاضي القضاة
بمدينة دمشق بمنع ابن تيميه من الإفتاء والتدريس ورفع أمره إلى السلطان. وفي
الحديث قام مجموعة من مشايخ دمشق برفع عريضة إلى مفتي الشام يطالبون فيها بإيقاف
العلامة ناصر الدين الألباني من نشر العلم والدعوة وقام المفتي بدوره بإحالة الشيخ
إلى مدير الشرطة. العلماء هم ورثة الأنبياء كما ورد في الأثر الصحيح وهم ليس فقط
ورثوا من الأنبياء والرسل الكرام العلم والدعوة إلى الله، ولكنهم ورثوا منهم كذلك سنة
الابتلاء في سبيل الدين والحق. وإذا كان من مكر الأعداء ضد الأنبياء عليهم السلام
كما نص القرآن الكريم (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) فهذا
ما حصل في الواقع مع جماعة من أئمة السلف في القديم والحديث فقد تعرضوا للحبس
والقتل والتشريد والنفي من الأرض. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية سجن وحبس مرات عديدة
كان منها أن سجن مرتين في قلعة دمشق في مناسبتين مختلفتين وكلا منها بسبب آراءه
الفقهية ومنهجه الفكري والعلمي. وفي نفس قلعة دمشق تلك حصل أن أعتقل الإمام
الألباني في عام 1969م لفترة من الزمن وبهذا انطبقت مسيرته مع مسيرة (سلفه) ابن
تيمية كما سجن الشيخ الألباني مرة ثانية في سوريا، ولكن في مدينة الحسكة عندما
أبعد إليها ومنع من دخول دمشق. وبما إن سيرة المنع من الإقامة والإبعاد والطرد
فتحت فيوجد تطابق آخر بين الإمام الألباني وبين سلفه الكبير ابن تيمية فهذا الأخير
بسبب من علماء السوء أخرج من دمشق إلى القاهرة ثم بعد فترة من الزمن تم نفيه وتهجيره
إلى مدينة الإسكندرية وكذلك الإمام الألباني بعد نفيه إلى مدينة الحسكة تعرض
للتضييق والتهجير لدرجة إخراجه من بلده الأصلي سوريا إلى الأردن ليقضي بها سنوات طويلة
ويتوفى بها. بل حتى إقامة الإمام الألباني في الأردن لم تخل من المنغصات ففي بداية
الأمر رفض طلبه لدخول الأردن وظل الشيخ ثلاثة أشهر على الحدود الأردنية حتى تدخل
الشيخ محمد بن إبراهيم الشقرة مدير المسجد الأقصى في الأردن وتوسط له عند الملك
حسين. وحتى قبل وفاة الشيخ بعدة سنوات كاد يصل الأمر بطرده من الأردن بسبب فتوى
فهمت خطاءً بأنه يدعو الفلسطينيين بوجوب الهجرة من فلسطين.
هذا ما كان مما ذكر في الآية الكريمة عن
السجن (ليثبتوك) والتشريد والنفي (أو يخرجوك) أما فيما يتعلق بالقتل فقد صدرت في
حق شيخ الإسلام عدة فتاوى بهدر دمه واستحلال قتله. ومن ذلك إصدار ابن مخلوف قاضي
المالكية في مصر فتوى في تكفير ابن تيمية ووجب قتله بينما نودي في الجامع الأموي
في دمشق (من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله) بل البعض كفر كل من يسمي ابن
تيمية بشيخ الإسلام. أما في حالة الشيخ الجليل الألباني وبالرغم ما عرف عنه من
تحذيره من التكفير والتفجير (له رحمة الله فتاوى أثارت ضجة تتعلق بعدم موافقته
للعمليات الانتحارية ضد اليهود في فلسطين) ومع ذلك لم يسلم الإمام الألباني في
نفسه من أن تصدر ضده فتاوى تجيز قتله كما حدث ذلك في شبابه عندما أصدر رئيس رابطة
علماء سوريا فتوى أهدرت دمه.
ومن الابتلاء الذي يصيب (الأئمة الأعلام) هو
أن يحصل التعريض لهم بالتجريح والتشويه والتسفيه والقدح في علمهم ومنهجهم وغالبا
يقع هذا من معاصريهم وسبب ذلك الحسد والحقد. فهذا تقي الدين السبكي لا يكتفي بالرد
العلمي على ابن تيمية بل يعمد إلى تجريحه واستنقاصه بقوله (إنه ليس ممن يعتمد عليه
في نقل ينفرد به .. ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره .. وهو لم يتهذب بشيخ
ولم يرتض في العلوم). وبالرغم من الشهرة المدوية للإمام الألباني بوصفه (محدث
العصر) إلا أن عالم الحديث الهندي المعاصر له حبيب الأعظمي بالغ لدرجة السفه في نقد
الإمام الألباني في كتابه (الألباني أخطاؤه وشذوذه) عندما قال عنه: ولازم ذلك أنه
والله لا يعرف ما يعرفه أحاد الطلبة الذين يشتغلون بدراسة الحديث في عامة مدارسنا.
وبالمناسبة مثل هذا التجني والشطط في الخصومة يوضح لنا الفرق بين النقد العلمي
المطلوب (بل الواجب) حيال التراث وأهله وبين الإسقاط والهدم والإقصاء للسلف الصالح
وإنتاجهم الفكري.
والمقصود بعد هذا التجوال والمزاوجة بين رمز
السلفية القديم (ابن تيمية) ورمز السلفية المعاصر (الألباني) أن طريق الابتلاء
والتشويه والعداء هو حال السلف الصالح ومآل الخلف الفالح. ومن هذا المنظور نعلم أن
الحملات المتلاحقة والغارات المتصاعدة في تشويه وتسفيه الرموز السلفية الكبرى مثل
البخاري وابن تيمية والألباني هي حلقة في سلسلة متواصلة من القديم في مشهد الصراع
بين الحق والباطل. التيار والمنهج السلفي له حضور وأثر ونصر بالغ في التاريخ
والتراث الإسلامي وكما بدأنا بمقولة للمفكر الإنجليزي توماس كارليل نختم بمقولة
أخرى تلخص سبب الهجوم على السلفية ورموزها (ليس من تاج بلا نصر، وليس من نصر بلا معركة،
وليس من معركة بلا عدو).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق