الأربعاء، 28 يوليو 2021

( صفعات غيرت مجرى التاريخ )

 هل اللطم أمر متوارث في تاريخ حكام فرنسا

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 دوي الصفعة الاحتجاجية على وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تردد صداها العالم كله وقطعاً سوف تخلد في صفحات التاريخ بأحرف من عار وشنار. صحيح أن الرئيس المصفوع حاول التقليل من أثر تلك اللطمة الاحترافية التي أدمت كبريائه إلا أنه في بعض الأحيان ربما يكون: معظم النار السياسية من مستصغر (اللطم). لفترة من الزمن سيطر الحاكم الفرنسي الأعظم والإمبراطور الأعجم نابليون بونابرت على أرض مصر واستتب له الأمر حتى لطمه رجل مصري أعمى. كان العالم الأزهري سليمان الجوسقي وبالرغم من فقره وإصابته بالعمى من الشخصيات ذات القدر والمكانة في أرض مصر ولهذا حاول نابليون أن يستميله إلى صفه فعرض عليه أن يجعله سلطانا على ديار المحروسة. فأظهر الشيخ قبول العرض وطلب أن يصافح نابليون بيده اليمين وفي لحظة خاطفة صفع الجوسقي نابليون على وجهه دلالة على مقاومة الشعب للاحتلال الفرنسي. خلد هذه الحادثة العجيبة المؤرخ الجبرتي في كتاب عجائب الآثار بينما عرضها الأديب الكبير على أحمد باكثير بأسلوب بديع عندما صاغ الحدث على لسان سليمان الجوسقي وهو يخاطب نابليون بقوله (معذرة يا بونابرته هذه ليست يدي .. هذه يد الشعب).

لقد كانت تلك الصفعة هي النار التي زادت في اشتعال ثورة المصريين ضد الفرنسيس الأنجاس كما كانت صفعة أخرى هي (شرارة) ثورة سياسية كبرى امتد مداها وسمع صداها مره أخرى في أرض مصر. مجرى التاريخ العربي الحديث تغير بشكل مزلزل وذلك عندما قامت في نهاية عام 2010م سيدة تونسية تعمل في مهنة الشرطة بصفع الشاب محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد بعد أن صادرت عربة الخضار التي كان يكسب رزقه منها. كما هو معلوم للتنديد بالظلم والإهانة التي تعرض لها الشاب البوعزيزي قام بإضرام النار في نفسه أمام مقر الولاية وبهذا اندلع حريق ثورة الربيع العربي من مجرد حرارة اللطمة الأثيمة من تلك السيدة/ السلطة على وجهة ذلك الشاب المكافح.

العدل أساس الملك ولولا الظلم والقهر في البلدان العربية ربما لما حصل الاحتجاج الثائر وبما إننا في سياق الصفع واللطم فيقول بعضهم (لا شيء أكثر مهانة من الصفعة التي لا ترد). لو وجد الشاب المكلوم والمهان من ينصفه و (يقتص) له حقه لما ثار ومن هنا نعلم حكمة وعدل الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب والذي مكن القبطي غير المسلم من أن يضرب ابن الأكرمين وإن كان والده عمرو بن العاص حاكم مصر المسيطر. في قصة أخرى ذات مغزى مشابهه نجد أن الملك الغساني جبلة ابن الأيهم قام بلطم إعرابي على وجهه لمجرد أنه وطيء على إزاره أثناء طوافه حول الكعبة. وقد علم الإعرابي الفزاري أنه في ظل دولة العدل يستطيع رد تلك الصفعة وعندما شكا أمره إلى الفاروق عمر كان حكمه على الملك الغساني (إما أن ترضيه وإلا اقتص منك بلطمك على وجهك). وعندما حاول جبلة إثارة الجلبة بقوله (يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة) كان الرد الحاسم من عمر رضي الله عنه وأرضاه: يا جبلة إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه فما تفضله بشيء إلا التقوى.

كما هو معلوم كانت ردة فعل جبلة ابن الأيهم أنه هرب من مكة في جنح الظلام ثم ارتد إلى النصرانية وعاش كنف إمبراطور الروم في القسطنطينية وهذا يقودنا إلى حادثة لطم وصفع مرتبطة بالنصرانية والامبراطور. عند ظهور المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية البيزنطية كان المجتمع ما زال تتجاذبه انقسامات حادة بسبب تعدد الطوائف المسيحية والتي كان من أكثرها تأثيرا مذهب الآريوسية المنسوب إلى الأسقف آريوس (البعض يقول أنه هو من ورد ذكره في رسالة الرسول الكريم إلى هرقل إمبراطور الروم: أسلم تسلم .. فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين). وما يهمنا هنا أن مذهب الآريوسية ربما كتب له اكتساح الديانة المسيحية لولا تلك اللطمة التي نزلت على فم الأسقف آريوس عندما أمر الإمبراطور قسطنطين بعقد مجمع دينيي كبير للنظر في معتقداته الدينية المخالفة. في بداية الأمر واثناء مناظرات مجمع نيقية المنعقد عام 325م استطاع الأسقف آريوس إفحام خصومه وتفنيد ودمغ شبهاتهم، ولكن الأمر أختلف بشكل حاد كما تزعم الأسطورة الشائعة عندما أخذت القديس نيقولاس الحمية الدينية لأن يندفع ويلطم أريوس على فمه واسكاته. هذه الإهانة قللت من هيبة الأسقف المصفوع مما عزز إصدار حكم الهرطقة ضده وتسبب في نهاية الأمر لانقراض المذهب الآريوسي والذي يعتبر قرب المذاهب المسيحية تقريبا إلى مفهوم الإسلام من أن عيسى عليه السلام لم يكن إله وإنما بشر مخلوق.

ما سبق ذكره الصفعة المقدسة قد لا يكون ثابت بشكل دقيق من الناحية التاريخية، ولكنه صحيح من ناحية بيان أثر (التحطيم المعنوي) للشخصيات الاعتبارية عندما يتم إهانتهم بشكل علني من خلال صفعهم ولطمهم على وجوههم فتزول مكانتهم الاجتماعية ويلحقهم الخزي. ومن اسطورة لطم القديس آريوس إلى الأسطورة اليمنية القديمة في العصر الجاهلي التي تزعم أن التُبّع عمرو بن عامر الأزدي ملك مأرب لما أحس بضعف سيطرته على شؤون الملك واحتمالية وقوع كارثة انهدام السد أراد أن يهجر قومه وينجو بنفسه. ولهذا اختلق حيلة مسرحية أن يقوم أصغر أولاده بلطمه أمام الناس بعد مشاحنة بينهما فقال (لا أقيم في بلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي). والمقصود أن سلاح الإهانة وجرح الكرامة من خلال الصفع واللطم أمام الملأ استخدم بشكل متكرر عبر التاريخ كمحاولة من قبل صحاب السلطة لإزاحة الأشخاص الذين يخشى منهم مزاحمته على مقاليد الحكم. عندما تولى معاوية بن أبي سفيان أمر الخلافة واستتب له الأمر ربما حاول أن يُحيّد أي شخص من ذوي الشرف يطمح في الحكم وكما ورد في كتاب البداية والنهاية لابن كثير أنه عندما (دخل ابن الزبير على معاوية فأمر أبناً له صغير فلطمه لطمة دوخ منها رأسه). وربما من هنا كان مبتدأ السعي الدؤوب لعبد الله بن الزبير لأن يقصي بني أمية من الحكم وعندما توفي يزيد بن معاوية دعا ابن الزبير الناس لمبايعته بالخلافة فاستجاب له أهل الحجاز وأهل العراق. وإذا كانت تلك اللطمة لم تغير التاريخ بشكل كامل لأن ابن الزبير لم يصل لمنصب الخليفة وقتل دون ذلك كما هو معلوم إلا أن صفعة أخرى تسببت في وصول الملطوم إلى سدة الحكم في بلده. في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي قادت عجرفة الإمبراطور البيزنطي إسحاق الثاني إلى احتقار نبلاء الطبقة الارستقراطية في مملكته لدرجة أنه لطم رجل يدعى إيفان آسين لمجرد أنه طلب أن يصبح هو وأخية من فرسان جيش الإمبراطور وأن يمنحا قطعة أرض. لاحقا تمرد إيفان وأخوه على حكم الإمبراطور وخلال سنتين فقط استطاعا أن يسقطا الإمبراطور البيزنطي عن عرش حكمه ويتولى الملطوم إيفان منصب الإمبراطور بدلا عنه.

وكم وكم صفعة ولطمة تجاهلها الزمن وتناستها الذاكرة الجمعية للبشرية مع أنها بالفعل غيرت مسار التاريخ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق