الثلاثاء، 5 يوليو 2022

( داعش البيضاء .. النسخة الأمريكاني للتطرف )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 التطرف والغلو يبدأ بانحراف في التفكير وخلل في الحكم على الأشياء قبل أن يتحول إلى تطرف وتشدد في الأفعال والمواقف ولذلك عندما وصف الرسول الكريم الخوارج ذكر في سياق الاستنكار لانحرافهم ومخالفتهم للمعقول بأنهم (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان). للعقول البشرية السوية الموقف السليم أن يحارب ويعادي الشخص من يخالفه في الدين ويناصر من يوافقه في العقيدة ولهذا من أشد أنواع الغلو والتطرف الفكري تعمدا قتل من يشاركك في الدين ويوافقك في العقائد. وهذا الداء (تكفير وقتل المخالف) موجود في سلوك أتباع جميع الأديان ومعتنقي كل المذاهب الفكرية الوضعية. ففي المسيحية على سبيل المثال الصراع المتجذر بين الكاثوليك والبروتستانت أفرز ظاهرة محاكم التفتيش وحرب المئة عام بل ومنذ فجر التمكن السياسي للمسيحية بعد بداية القرن الرابع الميلادي ظهرت فتنة محاربة الهرطقة التي أثمرت اضطهاد الاريسيين والأقباط في مصر.

أما اليهودية قبل ذلك فنجدها في القرن الأول الميلادي تفرز حركة سياسية ودينية ذات طابع عسكري تحمل اسم (الغيورون أو المتحمسون Zealots) انحرفت من مقاومة الاحتلال الروماني للقدس إلى تكفير وقتل كل من يتعامل مع العدو وقد ورد لهم ذكر في التلمود بأنهم يداهمون مساكن إخوتهم في الدين من اليهود ويعتبرونهم مرتدين ويقتلونهم. ومن الصفات المهمة التي ارتبطت بهذه الطائفة المتشددة والمتطرفة ليهودية القديمة أنها حملت كذلك اسم (السيكاري) وهي كلمة تعني الخناجر الصغيرة التي كانوا يخفونها في ملابسهم لكي يستخدموها في قتل الرومان أو اليهود المخالفين لهم ولاحقا كحال أغلب الحركات المتطرفة انغلقت هذه الطائفة على نفسها وتحصنت وانعزلت على قمة جبل شاهق في أرض فلسطين في مكان يسمى جبل مسعدة.

هذا الغلو والتطرف والانعزال والقتل الخفي لهذه الطائفة اليهودية المتعصبة يذكرنا ولا بد بما حصل في التاريخ الإسلامي من طائفة (الحشاشين) الشيعية التي احترفت الاغتيال والقتل والتخريب لأعدائها من قادة العام الإسلامي وقد نجحت فرقة الاغتيالات الأثيمة هذه في قتل الوزير السلجوقي نظام الملك وحاولت مرارا اغتيال صلاح الدين وكما هو معروف كان معقل طائفة الحشاشين قلعة ألموت المحصنة على رأس قمة معزولة في جبال الديلم بضواحي طهران.

من هذه المقدمة التاريخية المطولة نسبيا ندرك أن وجود طوائف أو أفراد مسلحين بأدوات القتل ما خف وخفي منها أو ما ثقل ولهم حماس وتصميم متطرف على قتل وإهلاك الحرث والنسل لأفراد دينهم وجماعتهم قبل أعدائهم، أن هذه الظاهرة متجذرة ومتجددة في جميع الأديان وفي تاريخ أغلب الشعوب والممالك عبر التاريخ. وما استجد في العصر الحديث أن أهل الغلو والتطرف استخدموا التقنية الحديثة ليس فقط في قتل أكبر عدد من الضحايا بواسطة قاتل واحد، ولكن أيضا في بث ونشر الرعب والترهيب إلى عموم البشر من خلال وسائل التواصل الحديثة. كلنا يعلم الخزي الذي لاحق بنا من جراء نشر جماعة داعش الإرهابية لعمليات الإعدام والقتل (المسجلة) عبر شبكة الإنترنت، ولكن أهل التطرف والغلو في العالم الغربي كانوا أكثر إجراما وشناعة عندما قام بعضهم بنشر عمليات القتل والإعدام في بث حي و(مباشر) عبر الإنترنت. وهذا ما حصل قبل عدة أسابيع عندما قام متعصب ومتطرف أمريكي بتنفيذ مذبحة مدينة بافلو في ولاية نيويورك وذلك عندما استخدم سلاحا آليا مزودا بكاميرا قامت ببث عملية قتله لعشرة أشخاص بشكل مباشر على منصة تويتر. وسبق ذلك بعدة سنوات قيام رجل مسلح أمريكي بنشر مقطع على موقع الفيسبوك يظهر إطلاقه للنار بشكل عشوائي على بعض المارة في الشارع مما تسبب في مقتل رجل مسن.

بقي أن نقول إنه إذا كانت جرائم وحوادث القتل التي قامت بها داعش دوافعها التعصب والتطرف الديني فإنه في الغالب دافع مذابح القتل في الغرب دوافعها التعصب والتطرف العرقي من قبل البيض الأمريكان نحو السود والمهاجرين الأجانب. ضحايا مجزرة قتل الأبرياء في سوبر ماركت مدينة بافلو سالفة الذكر كانوا من السود وكذلك ذلك الرجل المسن بالإضافة لمقتل عشرات الأشخاص من المكسيكيين وذوي الأصول الأسبانية في ولاية تكساس عام 2019م على يد رجل أبيض متطرف من أصحاب الفكر اليميني العنصري. حتى الآن ولله الحمد لم تحصل مجازر ومذابح مروعة للجالية المسلمة في أمريكا بينما قام المتطرفون من اتباع تيار (تفوق العرق الأبيض الأمريكي) بالعديد من المجازر المتكررة ضد السود الذين يحصل أن يتم قتلهم وإحراق أطفالهم وهم داخل كنائسهم. وآخر هذه الحوادث المريعة ما حصل عام 2015 عندما قام شاب أبيض صغير السن بإطلاق النار داخل كنيسة مخصصة للسود في مدينة تشارلستون في جنوب أمريكا مما تسبب في مقتل تسعة مسيحيين وبهذا ينطبق الوصف المتكرر في الخوارج وأهل الغلو (يقتلون اتباع دين المسيح ويدعون أهل الأديان الأخرى).

 في أمريكا .. البقاء للأبيض !!

في الواقع الغالبية العظمى من أهل التطرف والقتل في أمريكا هم من اتباع تيار (تفوق العرق الأبيض white supremacy) وهي حركة عنصرية بغيضة تؤمن بتفوق واستعلاء الجنس الأبيض المسيحي على غيره من الجنسيات والأعراق البشرية وأن له حق السيطرة التامة والمنفردة في حكم الدول والشعوب الغربية. الطامة الكبرى لهذا الفكر المتطرف أنه لا يكتفي بضمان تفوق واستعلاء البيض على غيرهم وإنما ينادي بمبدأ وفلسفة (النقاء العرقي والصفاء الجيني) بمعنى أنه لا يقبل أن تمتزج المورثات والجينات الوراثية بين الأجناس ولهذا لا بد من تطبيق سياسة (العزل العنصري) وما يتبعها من وسائل (التطهير العرقي). فلا مانع عندئذ من قتل وإبادة وتصفية الأشخاص الآخرين من الأغيار المخالفين في لون البشرة ولو كانوا من اتباع نفس الدين والمذهب العقائدي. هذه الطائفة الضالة وأصحاب الفكر المنحرف موجودون منذ زمن طويل في الولايات المتحدة ولكنهم آخذون في التمدد والتزايد فحركتهم وقوتهم حالها كحال شعار داعش المشهور (الحركة .. باقية وتتمدد). وإذا كان أهل الغلو في بلاد العربستان هم داعش وأحلافهم فإن أهل الغلو في بلاد اليانكي ستان (أمريكا) هم أتباع داعش البيضاء من أعضاء المنظمات اليمينية المتطرفة والإرهابية من مثل منظمة كو كلوس كلان (جماعة KKK) وحركة النازيين الجدد وتيار الانفصالية البيضاء وغلاة مذهب فخر الأبيض (white pride). وما يثير العجب من واقع الحال في أمريكا ليس فقط (التسامح) بوجود ونمو تلك الجماعات والحركات الإرهابية المتطرفة وخصوصا جماعة KKK (في عام 2015م قفز عدد فروع KKK من 70 إلى 190) ولكن أيضا السماح بوجود وانتشار العشرات إن لم يكن المئات من الميليشيات المسلحة والمنظمات شبه العسكرية. والغريب في الأمر أن بعض هذه المليشيات المتطرفة تصرح بمعاداتها للحكومة وتعتبرها سلطة استبدادية ولهذا تعتقد هذه المليشيات أن من حقها مقاومة الحكومة من خلال تدريب أفرادها على استخدام السلاح والأغرب من ذلك أن بعض من أنشأ هذه الميلشيات المسلحة أو يدرب فيها هم من المتقاعدين من الجيش الأمريكي. وللدلالة على تنامي خطر هؤلاء الدواعش المسلحين ذوي العيون الزرق يكفي أن نذكر أن المليشيا شبه العسكرية المسماة حراس القسم Oath Keepers تضلل وتغرر أتباعها البالغ عددهم أكثر من ثلاثين ألف من المسيحيين البيض وتحثهم على مناهضة الحكومة لدرجة أنهم أحيانا يقومون بمسيرات مسلحة في الشوارع في مشهد مشابه لمسيرات داعش ذات الأعلام السوداء في مدينة الموصل. ولقد وصل الحال بهذه المنظمة اليمينية المتعصبة أن قامت في عام 2019م بتهديد حاكم ولاية أوريغون الأمريكية بإشعال حرب أهلية في حال الموافقة على قانون جديد للولاية يقيد بعض الصناعات الملوثة للبيئة.

والأخطر من ذلك أنه في منتصف التسعينيات الميلادية من القرن العشرين حصل كما هو معلوم أكبر هجوما إرهابيا على الأراضي الأميركية من فعل أشخاص من الشعب الأمريكي نفسه وكان ذلك تفجير مدينة أوكلاهوما الشهير الذي أودى بحياة 168 شخصا كان العشرات منهم من أطفال الروضة الصغار. المهم هنا أن جزءا من التمويل المالي لهذه العملية الإجرامية تم من خلال منظمة متطرفة تحمل اسم (الجيش الجمهوري الآري) لها صلات وثيقة بحركة تفوق العرق الأبيض والنازية الجديدة ولهذا يقال إنها وفرت الدعم المالي (المسروق من عدد كبير من البنوك الأمريكية) لتأمين المفخخات لتنفيذ التفجير والتكفير العنصري الشنيع في مدينة أوكلاهوما. ومع ولاية أوكلاهوما مرة أخرى فما زال اسمها يرتبط بشكل متكرر بحوادث الكراهية الإرهابية وهذا ما كان قبل عدة أيام فقط عندما قام رجل مسلح بقتل أربعة أشخاص في مجمع طبي وقبل ذلك بأسبوع فقط أهتز العالم كله من هول الصدمة عندما قام شاب صغير مغرر به من حملة الفكر الضال كما يقال بتصفية وقتل 19 طفلا بريئا داخل مدرستهم الابتدائية.

وبمناسبة ذكر المدرسة في هذا السياق فلا في شك أن المجتمع الأمريكي ذا الخلفية التاريخية لثقافة رجل الكاوبوي والغرب الأمريكي والمتوحش wild west قد تجذرت فيه عادة حمل السلاح، ولكن مع هذا لا يمكن تفسير ظواهر القتل الجماعي المتواصلة في أمريكا في كل شهر أنها بسبب التساهل في قوانين حمل وبيع الأسلحة. كما لاحظنا من خلال ما تمت الإشارة الخاطفة له في هذا المقال توجد حالة احتقان دينية وعرقية وعنصرية واقتصادية واجتماعية عالية في المجتمع الأمريكي كانت دائما الوقود المغذي لمحرقة القتل والإرهاب والتطرف المتواصل. من السهل للكسالا أو لمن يستثمر الأحداث لتصفية الحسابات مع المخالف له أن يتم اتهام مناهج التعليم في أمريكا أنها خلف موجات الإرهاب المتتالية وأن التعليم المختطف من قبل الأصوليين المسيحيين يتم من خلاله بث سموم المنهج الخفي لفكر ابن تيمية البروتستانتي المتعصب وأقصد بذلك الراهب الألماني وعالم اللاهوت المعروف مارتن لوثر. بينما بكل بساطة يمكن أن يفهم التطرف في العالم الغربي والعالم العربي من خلال منظور نظرية (التحدي والاستجابة) للمؤرخ البريطاني البارز أرنولد توينبي فالحرب الأهلية الأمريكية أفرزت (تحدي) لسكان الولايات الجنوبية المهزومة بعد مقتل نصف مليون شخص بسبب فرض إلغاء الرق عن العبيد السود. وهذا في نهاية المطاف أفرز (الاستجابة) بأن ظهرت بواكير حركة KKK البيضاء المتعصبة التي استهدفت قتل السود. ولاحقا التحدي بسبب ضعف الأوضاع الاقتصادية أفرز استجابة تفشي جرائم الكراهية ضد الأجانب والمهاجرين من أمريكا اللاتينية إلى أرض الأحلام الأمريكية. ونفس الأمر بشكل أو بآخر يمكن أن يقال بأن تحدي تغير الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلدان العربية أفرز استجابة بزوغ بعض أشكال التطرف والإرهاب.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق