د/ أحمد بن حامد الغامدي
لا شك في أن أجواء حفل الزواج تكون مشحونة
بمشاعر البهجة والفرح وأحيانا تكون ممزوجة بمشاعر القلق من حصول خلل في مراسم
الزواج أو تداعيات ليلة الدخلة. ولهذا أجزل الأدباء والشعراء في القديم والحديث في
توظيف حالة البهجة الممزوجة بحالة الحزن أو القلق في الأعراس وحفلات الزوجات في إبداع
الوصف الأدبي الرفيع لتناقض المشاعر أو تبدل الأحوال. فهذا المتنبي يبدع في وصف امتزاج
الفرح بالترح بقوله (فدمع الحزن في دمع الدلالِ) بينما أمير الشعراء أحمد شوقي عبّر
عن الفجيعة بإلغاء الخلافة الإسلامية بعد البهجة بنصر الأتراك ضد اليونانيين وكأن
الأمر أشبهه بحفلة عرس انقلبت مأتم عزاء:
عادت أغاني العُرس رَجع نُواحِ ونُعيتِ بين معالم الأفراحِ
كُفّنتِ في ليل الزَفافِ بثوبهِ ودُفنتِ عند تبلجِ الإصباحِ
وبالعودة لموضوعنا الأصلي وهو تلاقح وتمازج
الفرح مع الترح في حفل الزواج وتوظيف ذلك من قبل الأدباء والكتاب في تشكيل الحبكة
الدرامية والوصول لنقطة الذروة في الأحداث القصصية وهنا (نسرد) فيما يلي بعض أشهر
تلك الأعمال الأدبية العالمية التي تدور حبكتها الدرامية وعقدتها الفنية حول ليلة
الزفاف. النقطة الفاصلة في السردية الرومانسية للرواية الشهيرة (جين أير) للأديبة
الإنجليزية البارزة شارلوت برونتي والتي تسوق بأسلوب أدبي مميز تطور علاقة الإعجاب
بين الشابة والمعلمة الخاصة جين أير وبين السيد روشيستر الرجل الثري الذي يطلب
يدها للزواج. وفي أمسية حفل الزفاف تنتقل الرومانسية إلى التراجيديا عندما يعترض
شخص يدعى السيد مايسون على هذا الزواج وأنه باطل لأن السيد روشيستر هو في الأساس
رجل متزوج من أاخته السيدة بيرثا والديانة المسيحية تحرم تعدد الزوجات. وهنا نصل
إلى ذروة الدراما ونتواجه مع ثنائية الأفراح والأتراح في حفل الزفاف حيث يعترف
السيد روشيستر أنه بالفعل متزوج من تلك السيدة ولكنها امرأه مصابه بالجنون ولذا
كان يحبسها في غرفة معزولة في أعلى القصر. ويحدث بعد ذلك أن تغادر جين أير حفل
الزفاف وهي مصدومة ومكلومة ثم يحدث أن تحرق الزوجة المجنونة القصر بمن فيه في حين
تضطر لاحقا التعيسة جين أير للعيش في الشوارع والتسول من أجل الطعام.
مأساة أخرى حدثت في ثنايا حفلة العرس
واستمرت مرارة ذكرياتها لسنوات طويلة هي ما نواجهه في رواية (آمال عظيمة) لعملاق
الأدب الإنجليزي تشارلز ديكنز وهنا نقابل امرأة أخرى مجنونة وغريبة الأطوار. وهي
الآنسة الفاتنة والثرية هافيشام والتي تقدم للزواج منها شاب محتال ومخادع يدعى
كومبسون فبعد أن سلب أموالها أرسل لها رسالة في يوم زفافهما (وهي في الكنيسة تستعد
لعقد القران به) يخبرها بهجره لها. ونتيجة للإذلال والمهانة التي تعرضت لها أمام
ضيوف حفل الزواج أصيبت هافيشام المنكوبة بانهيار عصبي وعاشت وحيده في قصرها ولم
تخلع فستان زفافها أبداً حتى وفاتها كما كانت تنتعل فردة حذاء واحدة وكذلك احتفظت
بكعكة الزواج المتعفنة وأبقت ساعة القصر عند توقيت الساعة التاسعة والثلث وهو الزمن
الذي تلقت فيه خبر هجران عريسها لها. وفي نهاية تلك الرواية الدرامية الشهيرة يكون
سبب وفاته تلك العروس المكروبة أن يشتعل فستان الزفاف نتيجة احتراقه عندما مرت بالقرب
من إحدى الشموع.
من مأساة ليلة الزفاف الناتجة عن غدر وهجر
العريس للعروس إلى الصورة المعكوسة وهذه هي الحبكة المحورية للعمل الأدبي البارز
(مسرحية عرس الدم) لأشهر الأدباء والشعراء الإسبان في العصر الحديث: غارسيا لوركا.
بالرغم من تحذير والدة العريس إل نوفيو له من الزواج من الشابة لانوفيا لأنها كانت
مخطوبة سابقاً من قبل لشخص آخر إلا أن العريس المندفع يصر على إتمام الزواج. وفي ليلة
الزفاف تبدأ أحداث الكارثة الرهيبة في التوالي عندما يستطيع الخطيب القديم
ليوناردو بالتسلل إلى غرفة العروس وينجح في إقناعها بالهروب معه وعندما يعلم
العريس المخدوع بهذا العار الذي لحق به يقرر أن يطارد العروس الهاربة وعشيقها إلى
داخل الغابة. وهنا تكتمل فصول المأساة في تلك المسرحية السوداء بأن يقتل العريس
وليوناردو بعضهما البعض في معركة دامية بالسكاكين يتلطخ فيها فستان الزفاف بالدم ومن
هنا أصبحت هذه الرواية تعرف بعنوان عرس الدم أو (الزفاف الدامي).
كما لا يخفى ترابط حالة الشعور بالعار مع
الانتقام الدامي والمروع أكثر ما تحصل بعد حفلات الزفاف إذا تبين أن العروس ليست عذراء
وهذا ما يدفع إلى غسل العار بالدم وبذا ينقلب الفرح إلى ترح. تعقيدات ليلة الدخلة
من الأمور الشائعة التي ترد في ثنايا الروايات العربية لدرجة أنه توجد رواية فجة ومباشرة
في طرح الموضوع تحمل عنوانا (ليست عذراء) للكاتبة مصرية دينا عماد ومع ذلك نجد أن
هذه (العقدة الشرقية) خير من كتب عنها في إطار أدبي رفيع الروائي العالمي المشهور
غابرييل غارثيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل في الأدب لعام 1982ميلادي. لا أعلم
هل الروائي الكولومبي غابرييل ماركيز له سابق علم بالمقولة العربية الشهيرة
للمتنبي (لا يسلم العرض الشريف من الأذى حتى يراق على جوانبه الدمُ) وبهذا يربط
بين العرب وغسل العار المسلوب بالدم المصبوب وهو ما نجده في رواية غابرييل ماركيز
المعنونة (قصة موت معلن) والتي نشرها قبل عام فقط من حصوله على جائزة نوبل. تدور أحداث تلك الرواية عن مقتل مهاجر عربي يدعى
نصّار ُذبح في صبيحة اليوم الذي حضر فيه حفل زفاف في بلدته الصغيرة. العقدة
الدرامية في القصة أنه بعد حفل الزواج وفي (ليلة الدخلة) يصدم العريس السيد
باياردو أن زوجته الشابة أنخيلا فيكاريو ليست عذراء ولذا بعد ساعات فقط من انتهاء
حفل الزفاف يجر بايادرو عروسه الملوثة إلى بيت أهلها. وبعد ضرب مبرح من قبل
والدتها تضطر العروس أنخيلا للكشف عن الرجل الذي أفقدها عذريتها وشرفها وتزعم كذباً
أنه الشاب ذو الأصول العربية نصّار. وهنا يقرر الشقيقان التوأمين بابلو وبيدرو
فيكاريو أن يثأرا لشرفهما المعتدى عليه وأن يغسلا عارهما بقتل المتهم البريء الشاب
نصّار باستخدام سكاكين تستخدم لذبح الخنازير.
وفي الختام يجب أن ننوه أن ثنائية تداخل
الأفراح والأتراح في حفل الزفاف وتمازج بهجة الحياة بغصة الموت متكررة في العديد
من الأعمال الأدبية الأخرى فمثلا في رواية الأديب التشيلي أنطونيو سكارميتا (عرس
الشاعر) نجد أن العروس الفائقة الجمال مارتا ماتاراس تموت في ليلة زواجها. والكل
تقريبا يعلم أنه في خاتمة المسرحية الذائعة الصيت (روميو وجوليت) لشكسبير تعترض
جوليت من الزواج بغير حبيبها ولهذا في ليلة زفافها من الشاب الآخر المدعو باريس
توهم أهلها بأنها انتحرت وبالفعل تتناول الدواء وتبدو كالميتة ويتم وضعها في
التابوت وأخذها للمقبرة لدفنها. من هذا وذاك نعلم أن بهجة العرس وفرحة الزواج في ومضة
ما من زمن (ليلة العمر) قد تتحول إلى لحظة جنون أو وفاة أو قتل أو انتحار أو طلاق
أو (صفعة) ورحم الله إمامنا الشافعي إذا يقول:
يا راقد الليل مسروراً بأولهِ إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
لا تفرحنَّ بليلٍ طاب أولهُ فربَّ
آخر ليلٍ أجّج النّارا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق