د/ أحمد بن حامد الغامدي
الطريف في الأمر أن بعض كبار مشاهير العلماء
ارتبطت سيرهم وذكرهم بالطهي والمطبخ فهذا نيوتن (إن صح الخبر) كان دقيقا في ضبط
الوقت أثناء عملية الطهي فمثلا في وجبة الإفطار كان يصر على أن يتم سلق البيض لمدة
خمس دقائق بالضبط. وتقول القصة المشهورة عنه في سياق أخبار شرود الذهن المرتبط
بالعباقرة أن خادمة نيوتن دخلت عليه المطبخ ووجدته واقفا أمام الموقد وينظر
باهتمام إلى بيضة كان يمسك بها بيده بينما كانت ساعة جيبه تقبع في قاع إناء سلق
البيض !!. وما زلنا مع مشاهير العلماء وحرصهم على الوقت خصوصا أثناء الطبخ فمن ذلك
تلك المقولة المتداولة عن اينشتاين بأنه أعلن (إن صح الخبر) أن ثاني أكبر فكرة
توصلها لها بعد نظرية النسبية كانت تتعلق بأن أفضل وسيلة لسق البيض أن تتم في وعاء
حساء الشربة وبهذا يحافظ على عدم ضياع وقته في غسل أكثر من وعاء طبخ.
وفي واقعنا العربي القديم تقول القصة (إن صح
الخبر) أن العالم الكبير الرازي اشتهر بأن طعم وجبات الغذاء في منزلة لذيذة بشكل غريب
ولهذا عندما قام أحد الوزراء بشراء الجارية التي كانت تطبخ في منزل الرازي عرف
منها أن الرازي تمكن باستخدام صنعة الخيمياء من تحويل القدور النحاسية في مطبخه
إلى قدور الذهب والفضة وأن ذلك ربما يكون سر (فن الطبخ) اللذيذ في بيته.
ما سبق كان مدخلا خفيفا وربما غير دقيق تماما
في تأطير العلاقة بين عالم الطبخ والطهاة وبين دنيا العلوم والعلماء ومع ذلك
التداخل بين تقنيات وأساليب الطهي وبين التجارب العلمية في المختبرات البحثية
وثيقة الصلة وهي مدار المجال العلمي المرموق والبالغ الأهمية المسمى (علم وتقنية الأغذية).
وللتدليل على البعد العلمي في مجال الطبخ بمناسبة اليوم العالمي لفن الطبخ لن ندخل
في متاهة توظيف المفاهيم والمعلومات العلمية في محاولة تفسير الأمور المتعلقة
بعملية الطهي والأكلات الغذائية. فمثلا القارئ العادي قد لا يهمه كثيرا معرفة
التفسير العلمي لسبب الرائحة الزكية والشهية للخبز وأن المسؤول عنها مركب كيميائي كيتوني
يدعى 2-acetyl-1-pyrroline أو أن لون الكارميل البني الذهبي النتاج من حرق السكر
والمستخدم لتزيين الأطعمة بمنظر شهي هو في الواقع ناتج من عملية بلمرة كيميائية
لإنتاج مركبات تسمى بوليمرات caramelans (هل مهم أن نعرف أن الصيغة
الجزيئية لها هي C24H36O18).
ولكن بدلا من ذلك يمكن أن نعطي بعض النصائح العلمية والتلميحات المهنية والعملية
التي تساعد في تحسين مظهر ورائحة ومذاق الأطعمة المحضرة بواسطة الهواة من الطهاة.
ذكرنا القصة الطريفة التي تقول إن عالم الفيزياء
نيوتن كان يحرص على سلق البيض لمدة خمس دقائق بالضبط بينما عالم الكيمياء الفرنسي
لويس ميلارد ينصح هواة الطبخ أنهم إذا أرادوا الحصول على أفضل لون بني عند (تحمير)
اللحوم فيجب ألا تقل درجة حرارة الفرن أو المقلاة عن 154 درجة مئوية. في عام 1912م
توصل ذلك العالم أثناء اجراء التجارب الكيميائية (أو يمكن نقول: الطبخ العلمي) بين
الأحماض الأمينية (الموجودة في اللحوم) وبين السكريات سوف يحصل تفاعل كيميائي
(يسمى تفاعل ميلارد Maillard reaction) والذي يفسر بدقة وبالمعادلات الكيميائية
والتركيب البنائي للمركبات الجزيئية لماذا يصبح اللحم المشوي ذا لون ورائحة مميزة على
خلاف اللحم المسلوق.
ومن الارشادات العلمية أثناء عملية الطبخ
التي يمكن أن تقدمها الكيمياء أنه في حال رغب الطاهي بأن يكون لحم الدجاج هش ومقرمش
crispy
فينصح بأن يغطى جلد لحم الدجاج بخليط من البكنج بودر وملح الكوشر. والتفسير العلمي
لهذه الخلطة الكيميائية السحرية أن مسحوق الباكنج بودر (اسمه العلمي بيكربونات
الصوديوم) له صبغة قاعدية (قيم pH عالية) وهذا يساعد على عملية التحلل المائي hydrolysis
لجزئيات البروتين مما يساهم في تكسيرها وتفكيكها وهذه العملية تكون مصحوبة بتكون
فقاقيع من الغازات تساهم في تمديد وزيادة المساحة السطحية لقطع اللحم وبالتالي
تحصل عملية القرمشة المطلوبة.
ومن عملية التحلل المائي (hydrolysis)
إلى الظاهرة العلمية المسماة التحلل الحراري (pyrolysis)
والتي بشيء من التجوّز والتبسيط نقول إنها عملية تفكك وتحلل المواد العضوية بسبب
الحرارة العالية للوسط الذي توجد فيه. وما يهمنا هنا أنه أثناء عملية الطبخ للمواد
الغذائية عند درجات الحرارة العالية تتكسر العديد من المواد الكيميائية المفيدة
مثل الفيتامينات وبعض الأصباغ العضوية التي تعطي الغذاء نظارته وجماله. كما هو
معلوم فإن الخضروات تفقد شيئا من ألوانها الزاهية بعد الطبخ نتيجة تأثير الحرارة
العالية وهنا يمد العلم يده لمحترفي مهنة الطبخ في المساعدة في تقليل فقدان تلك
الألوان فمثلا حتى لا يفقد الجزر لون البرتقالي بسبب تكسر مركب الكاروتين ينصح بعدم
وضع الخضار لفترة طويلة في مياه السلق. وبدلا من ذلك تكون الوصفة العلمية المطبخية
كالتالي: ضعي سيدتي الخضار فقط في الماء المغلي لعدة دقائق محدودة ثم بادري برفع
الخضار من الحساء وضعيها في وعاء يكون داخل حمام ثلجي وهذا من شأنه إيقاف عملية
الطبخ وإبطاء عملية التفكك الحراري.
وفي نفس السياق ينصح أهل العلم أهل الطهي
أنه للمحافظة على نظارة اللون الأخضر الشهي للبازلاء والفاصوليا بعد عملية السلق
فإنه يوصى بإضافة كمية قليلة من الباكنج بودر وهي المادة ذات الصبغة القاعدية
والتي تعادل الوسط الحمضي الخفيف الذي تكون في سائل الحساء نتيجة لتسرب بعض
المركبات الحمضية من أنسجة الغذاء المهترئة. كما هو معلوم ربما للجميع من مادة العلوم في
المدارس فإن مادة اليخضور (الكلوروفيل) هي المسؤولة عن اللون الأخضر لأوراق
الأشجار وهي نفسها تلك المادة التي نتيجة لحرارة الطبخ تتكسر ويبهت لونها ولذا
فإنه عند إضافة الباكنج بودر السالف الذي يحصل تفاعلا كيميائيا بين اليخضور chlorophyll ويتحول إلى مركب كيميائي مشتق يسمى الكلوروفيلن chlorophyllin
والذي له لون أشد اخضرارا وبالتالي يساهم في إعادة النضارة الخضراء للأغذية
المطبوخة.
وبما أن سيرة طبخ الخضار انفتحت فإن علم الكيمياء
يقدم التفسير العلمي الدقيق لماذا كانت الأغذية والمأكولات في الزمن السابق أجمل
وأشهى ومن ذلك مثلا أنه كان في القديم كثيرا ما يستخدم معدن النحاس في صنع أدوات المطبخ
وقدور طهي الطعام. وهنا نذكر على الهامش معلومة غير مشتهرة كثيرا وهي أن مركب
اليخضور (الكلوروفيل) مهم للنبات كأهمية هيموجلوبين الدم للكائنات الحية وكلا
منهما في لغة الكيمياء يسمى بالمعقدات العضو معدنية فاللون الأحمر للهيموجلوبين
راجع من المعقد بين ذلك المركب الكيميائي وعنصر الحديد في حين أن اللون الأخضر
مرتبط بمعقد مركب الكلوروفيل مع عنصر الماغنيسيوم. وما يهمنا هنا أنه أثناء عملية
الطبخ للخضروات تنتج مركبات حمضية خفيفة وفي هذا الوسط يحصل تفاعل كيميائي آخر
يسمى (تفاعلات الإحلال) فيحل عنصر النحاس (الذائب بكمية قليلة من القدور النحاسية)
محل عنصر الماغنيسيوم وبهذا يتكون معقد (عضو معدني) جديدا أكثر ثباتيه والأهم من
ذلك أن له لوناً أكثر اخضرارا. وبهذا تكون المواد الغذائية والخضروات المطبوخة في
القدور النحاسية (وليس في القدور الذهبية كما في قصة الرازي المزعومة) أكثر نضارة
وأشهى للعين قبل الفم.
عندما تدخل الكيمياء على الخط في عملية الطهي
فإننا نؤكد صحة العبارة بأن (الطبخ علم، وليس مجرد وصفة) ولهذا ربما يجدر بهواة
الطبخ أن يثقوا بالعلماء عندما يقولون لهم: إذا أردتم طهي الخضار بشكل أشهى وأجمل
في المنظر لذا اطبخوها في قدور نحاسية أو على الأقل أضيفوا لقدر الطبخ العادي قطعة
معدنية مثل القرش أو ربع الريال والتي تحتوي على كمية عالية من عنصر النحاس والذي
ينحل جزءا بسيطا منه أثناء عملية الطبخ. وعلى نفس النسق عند تحضير الكريمة أو
القشدة المخفوقة whipped
cream
سوف نفهم من خلال الكيمياء والعلوم لماذا ينصح خبراء الطبخ
باستخدام وعاء مصنوع من الزجاج للحصول على أفضل نتيجة بدلا من استخدام وعاء أو
قصعة مصنوعة من البلاستيك أو الخشب. السبب في ذلك الكريمة المخفوقة تصنع في العادة
من بياض البيض egg whites والذي نتيجة لعملية الخفق السريعة تتكون منة
رخوة مشبعة بفقاقيع الهواء. وبحكم أن صفار البيض يحتوي على كمية أعلى من الدهون
والذي لا يساعد على تكون تلك الرغوة بشكل جيد ولهذا أوعية تحضير الطعام الخشبية أو
حتى البلاستيكية بها العديد من المسامات الدقيقة التي يمكن أن تحتفظ ببقايا الدهون.
في حين أن الأوعية أو القدور الزجاجية أو المعدنية تكون صماء وملساء تماما بدون
هذه المسامات ولهذا هي خالية من الدهون ولذا تعطي أفضل نتيجة في تحضير الكريمة
المخفوقة كما كانت القدور النحاسية هي الأفضل بشهادة الكيمياء في طهي الخضار.
وختاما هذه بعض الأسرار والأفكار التي
تمنحها الكيمياء (لعلم الطبخ) وغيرها كثير يقدمها العلماء لهواة الطبخ بهدف نشر
الثقافة العلمية عن مجال (كيمياء المطبخ). ومن أمثلة ذلك قيام أستاذ الكيمياء
الأمريكي روبرت وولكي (والكاتب الصحفي عن علوم الأغذية في جريدة الواشنطن بوست) بكشف
هذه الأسرار في كتابه الماتع (ماذا قال أينشتاين لطباخه) والذي ظهر في جزئيين
كبيرين بلغ مجموع صفحاتهما حولي 860 صفحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق