الثلاثاء، 5 يوليو 2022

( دراما السفر .. مطارات تتهاوى )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 كثيرا ما يلفت نظري أثناء فترات الانتظار في صالات السفر بالمطارات ملاحظة عجائب علم الإدارة في مجال إدارة الحشود والتجمعات البشرية والذي ينعكس في دقة التعامل الاحترافي مع الثالوث الصعب: البشر والأجهزة والأنظمة. بالإضافة لعلوم الإدارة في صالات المطارات تتميز تلك المراكز الكبرى للتجمعات البشرية بشحنة عالية من الدراما الإنسانية فلكل مسافر قصة وللبعض منهم غصة ومن كثرة الروايات والأعمال الأدبية المتعلقة بصالات السفر ظهر فرع جديد في مجال الأدب يسمى (روايات المطارات). وأصعب حالات الدراما في المطارات هي حالة (تعثر السفر) بسبب إلغاء رحلات الطيران أو عدم الحصول على تأشيرة السفر وهذا ما أفرز روايات وأفلاما سينمائية بارزة مثل رواية وفلم (صالة السفر The terminal) والذي قام فيه الممثل الأمريكي توم هانكس بتجسيد القصة الحقيقة للمسافر والمعارض السياسي الإيراني مهران نصري الذي علق لمدة 18 سنة في صالة السفر رقم واحد بمطار باريس. وقريبا من ذلك كتاب (رجل في المطار) والذي يحكي قصة الشاب السوري حسن القنطار الذي تم ترحيله بعد الثورة السورية إلى ماليزيا ليعلق هو الآخر في مطار كولالمبور لفترة من الزمن وتشتهر قصته علميا بسبب وسائل التواصل الاجتماعي.

في عالم المال والأعمال يعتبر الملياردير البريطاني السير ريتشارد برانسون من أبرز مشاهير رجال الأعمال ومع خبرته الواسعة في إنشاء أكثر من 360 شركة تجارية يٌتبادل كذلك العديد من أفكاره وأقواله في مجال علم الإدارة. وما يهمنا هنا من أقوال صاحب شركة الطيران الدولية الكبرى (فيرجين أتلانتك) الشطر الأول من مقولته المتداولة في تحفيز الموظفين (درب الناس جيداً حتى يتمكنوا من المغادرة، ولكن أيضا عاملهم جيداً حتى لا يريدوا ذلك). في مجال الطيران تعتبر مرحلة (المغادرة) هي أهم نقطة حرجة في فن إدارة المطارات ولهذا بالفعل نحتاج بدرجة ماسة الإتقان في التدريب الجيد للأطقم الفنية في صالات المطارات حتى يتمكن المسافرون من المغادرة. في الأيام الماضية ومع تداعيات فوضى التشغيل لمطار مدينة جدة الجديد أحد أحدث المطارات الدولية الكبرى تترسخ يوما بعد آخر وكارثة بعد أخرى حقيقة أن فن إدارة المطارات الدولية يعتبر أحد أصعب العمليات التشغيلية ضمن قطاع الأعمال بسبب تعدد وتداخل العوامل والمؤثرات البشرية والتقنية والمالية.  

وسوء الإدارة أو سوء التصميم والتجهيز للمطارات تسبب عبر التاريخ في فضائح وطوام كبرى فهذا مثلا مطار مدينة دينفر الدولي بولاية كولورادو الأميركية والذي يعتبر أكبر مطار في العالم وأكثرها ازدحاماً (صاحب الرقم القياسي في عدد المسافرين ففي عام 2019م كان عددهم حوالي 70 مليون مسافر) ومع هذه الإنجازات المميزة إلا أن افتتاحه في عام 1995م بدأ بفضيحة إعلامية مدوية. وذلك عندما قامت إدارة المطار أثناء فترة التشغيل التجريبي للمطار بدعوة وسائل الإعلام لتغطية عملية التشغيل وهنا تكشفت كارثة سوء تصميم أجهزة نقل حقائب المسافرين والتي توقفت وتسببت في تساقط حقائب وبعثرت ملابس المسافرين أمام كاميرات الصحفيين ومراسلين القنوات الفضائية ولم يتم حل هذه المشكلة المحرجة بشكل جذري إلا بعد ذلك بعشر سنوات.

وهذا مطار برلين الدولي وبعد حوالي تسع سنوات من التأجيل المتكرر لافتتاحه الرسمي وبعد أن تزايدت كلفة إنشائه من اثنين مليار يورو إلى سبعة مليار يورو تم أخيرا تدشينه عام 2020ميلادي. وكنتيجة لسلسلة الأعطال والعيوب وشبهة الفساد تعثر المطار بشكل كبير ولذا أعلنت الشركة المشغلة لهذا المطار حاجتها الماسة للدعم المادي لإنقاذ المطار من الإفلاس ولو حصل ذلك فسوف يترسخ اللقب الشنيع الذي وصف به هذا المطار بعد تأخر افتتاح لسنوات طويلة بأنه (مطار الأشباح). وقد أصبح هذا المطار أضحوكة أهل برلين عندما علموا بأنه تم فيه وضع أربعة آلاف باب في غير مواضعها الصحيحة أو أن السلالم الكهربائية فيه أقصر من الارتفاع المطلوب كما حصل خلل فني في جميع شاشات عرض مواعيد الرحلات البالغ عددها 750 شاشة.

 مطارات في لحظة الانكسار

ما سبق سرده يبين هول الصدمة من الإخفاق المحرج في تشغيل مطارات دولية حديثة الإنشاء ومتطورة التصميم كما حصل مع مطارات دينفر وبرلين وجدة، ولكن هذا لا يعني أن أفضل وأدق المطارات الدولية ليست عرضة بأن تتهاوى وتتصدع في لحظات معينة نتيجة لبعض الكوارث الطبيعية أو الإضرابات البشرية أو العطل الفني أو التخريب المتعمد. فمثلا قبل عدة سنوات تم إغلاق مطار أوساكا الدولي (أول مطارفي العالم مبني على جزيرة صناعية في المحيط) بسبب هبوب إعصار مدمر الذي اجتاح جنوب اليابان. ولسنوات متعددة تحصل حالات ارباك وتزاحم وتكدس للمسافرين في مطار هيثرو الدولي الشهير في مدينة لندن بسبب أعطال فنية في أنظمة تقنية المعلومات مما تسبب في إلغاء مئات رحلات الطيران الداخلية والدولية. وفيما تتكرر فضائح الأعطال الفنية في مطار هيثرو البريطاني تكررت عبر السنوات الماضية حالات إضراب المئات من عمال الأمن في العديد من المطارات الألمانية وهذا الإضراب للعاملين في تشغيل المطارات حدث ويحدث في كبرى المطارات الدولية مثل مطارات باريس وأمستردام ونيويورك وشيكاغو. والطريف في الأمر أنه في عام 2016 نظم حوالي مئتين من عمال مطار رونالد ريجان بالعاصمة الأمريكية واشنطن، نظموا اضراباً ومسيرات احتجاج عن تدني أجورهم. وهذا ما استدعى المقارنة بحزم الرئيس الأمريكي ريجان في التعامل مع حركات اضراب العمال عندما قام في عام 1981م بفصل 11500 من عمال المراقبة الجوية في العشرات من المطارات الامريكية عندما قاموا بعمل اضراب عن العمل تسبب في تعطل حركة الملاحة الجوية في أمريكا.

كما هو معلوم عمال برج المراقبة في المطارات لهم أهمية كبرى في ضمان سلامة إقلاع وهبوط الطائرات وسلامتها في الجو وعلى أرض المطار وهذا يقودنا للحديث عن أحد أغرب الحوادث المأساوية في تاريخ الطيران. بالرغم من أن حوادث تحطم الطائرات نادرة جدا إلا أن حوادث تصادم الطائرات مع بعضها البعض في الجو أو في الأرض أكثر ندرة بكثير ومع ذلك أكثر حادثة ارتطام بين طائرات نتج عنها أكبر عدد للضحايا لم تحصل في مطار دولي مزدحم وإنما في مطار صغير في عرض المحيط. نتيجة لبعض الأضرار الكبرى في أحد المطارات الإسبانية في عام 1977م تم تحويل بعض الطائرات للهبوط المؤقت في مطار جزر الكناري وبسبب الضباب الكثيف على أرضية المطار وعدم كفاءة عمال المراقبة الجوية وأجهزة الرادار تصادمت على أرض المطار طائرتا بوينغ ضخمة إحداهما هولندية والأخرى أمريكية مما تسبب في مقتل 583 راكبا.

اصطدام آخر بين الطائرات لاقى شهرة إعلامية كبرى مع عدم وقوع ضحايا فيه كان ذلك الذي حصل عام 2018م وذلك بعد فترة زمنية قصيرة من مناقشة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع حاكم مدينة نيويورك إجراءات تحسينات بمطارات المدينة. وهنا حصلت الحادثة المحرجة عندما تعرضت الطائرة الخاصة لترامب لحادثة اصطدام مع طائرة أخرى عندما كانت رابضة في أرض المطار. بقي أن نقول إن المطار الذي حصلت فيه هذه الحادثة المحرجة هو المطار سيء السمعة في عالم الطيران والذي ومنذ عقود طويلة وهو محافظ على تقييمه المخزي كأسوأ مطار في أمريكا إلا وهو مطار لاغوارديا في مدينة نيويورك والذي حتى الآن تبلغ نسبة عدد الرحلات الملغاة أو المتأخرة أكثر من 22% من نسبة الرحلات المغادرة من هذا المطار وهي نسبة شنيعة جدا. وبالمناسبة وعبر عقود زمنية طويلة واجه عدد كبير من الطلاب السعوديين المبتعثين للدراسة في أمريكا ذكريات مريرة مع هذا المطار فبعد ساعات طويلة من السفر من جدة أو الرياض إلى مطار جون كيندي الدولي في مدينة نيويورك. ثم بعد مرمطة الانتظار الطويل والتدقيق السخيف عند رجال الجوازات يحتاج العديد من الطلاب المبتعثين الانتقال إلى مطار لاغوارديا لإكمال رحلاتهم الداخلية لمختلف الولايات الأمريكية وهنا يصدمون بالخدمة السيئة في هذا المطار وتأخر الرحلات. والطامة الكبرى إذا كان سفرهم التالي باستخدام شركة الخطوط الأمريكية Pan Am الشنيعة والتي يتذكرها جيل الطيبين قبل أن يتم حلها غير مؤسفا عليها في مطلع التسعينيات.

 بدأنا هذا المقال بالتلميح لدراما المطارات كما استعرضنا عددا من نماذج المطارات التي تتهاوى وتتصدع في جودة خدماتها التشغيلية ونختم أخيرا بالذكر المطار الدولي الذي تصدع وأنهار بالفعل والحقيقة وليس بالمجاز اللغوي. وهذا ما حصل عام 2004م مع مطار شارل ديغول الدولي في مدينة باريس حيث حصل انهار و(تهاوى) وتعطل جزءا كبيرا من مبنى الركاب رقم 2 وذلك نتيجة لحصول فجوة في سقف أحد ممرات المطار نصف قطرها 50 مترا وتسبب هذا التصدع في مصرع ستة أشخاص وإصابة العشرات. المحرج في الأمر أن هذه الصالة الجديدة التي حصل فيها الانهيار كانت حديثة الإنشاء وتهاوت وتداعت fall apart بعد سنة واحدة فقط من افتتاحها وصرف حوالي 900 مليون دولار لبنائها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق