الثلاثاء، 5 يوليو 2022

( الشاي في السياسة والحرب )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في الغالب الأعم من التاريخ الإنساني كان ثاني أكثر مشروب يتناوله البشر بعد الماء هو سائل الحليب، ولكن تحت تأثير السياسة الطاغي تغيرت عبر الزمن عادات الشعوب في طبيعة المشروبات التي يستهلكونها بكثرة بعد الماء. وحسب توصيف ابن خلدون للسلوك البشري ونظريته الهزيمة الحضارية وأن (المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب) وكنتيجة لهذه التبعية الشعورية فكثيرا ما تنتقل عادات وتقاليد بعض الأمم إلى الأمم الأخرى. تحت تأثير الإمبراطورية الإنجليزية التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس انتقلت عادة تناول الشاي إلى جميع أنحاء العالم ويضاف إلى ذلك تأثير الإمبراطورية الصينية التي تسمى كذلك (إمبراطورية الشاي). وفي الزمن الذي كانت الإمبراطورية العثمانية هي الكيان السياسي المهيمن على العالم الإسلامي وشرق أوروبا لذا لا غرابة أن تتعلم الشعوب الغربية عادة تناول القهوة (التركية) نتيجة لانتقال عادة التردد على مقاهي وصالونات القهوة من حارات إسطنبول إلى جميع العواصم الأوروبية والعربية. وبحكم أن لكل قاعدة استثناء فلم يستسغ الأمريكان كثيرا القهوة التركية ولهذا تعرضت لهجوم وهجاء شديد من قبل الكتاب الأمريكي المعروف مارك توين وذلك بعد أن زار تركيا والشرق الأوسط وسطّر حكمه الشنيع وغير البريء ضد الأتراك والعرب في مذكراته التي حملت اسم (الأبرياء في الخارج). ولحساسية الأمريكان السياسية وأنفتهم وبغضهم للضرائب المفروضة على بضائع الشاي لا أعلم هل هذا ما حثهم ودفعهم لتطوير مشروب منعش جديد. في الزمن الحالي وبحكم سيادة وطغيان الثقافة الأمريكية على أغلب شعوب العالم أصبح الجميع يتناول مشروب الكوكاكولا أكثر من تناوله لسائل الحليب.

الطريف في الأمر أنه عندما تم تعريف الأوروبيين على مشروب الشاي لأول مرة على يد أحد التجار الهولنديين في عام 1610م تم تقديمه على أنه مشروب طبي ولاحقا عندما تم تقديم مشروب الكوكاكولا لأول مرة في أمريكا وذلك عام 1886م تم ذلك على يد الصيدلاني الأمريكي جون بمبرتون والذي كان يبيع اختراعه الفوّار تحت دعاية أنه نوع من الأدوية الطبية المفيدة في تقوية الأعصاب وتخفيف الآلام. الشعب الإنجليزي وبالرغم من الشهرة الطاغية لعشقه لتناول الشاي إلا أن الجزر البريطانية كانت تقريبا من أواخر الدول الأوروبية التي وصل لها مشروب الشاي وذلك في منتصف القرن السابع عشر ومرة أخرى نجد أن الحملة الدعائية للترغيب في شرب الشاي تم تسويقها على أن الشاي دواء طبي يساعد في إزالة انسداد الطحال وينظف الكُلى والحالب من الحصوات.

وكما هو معلوم دائما ما يكون سعر الأدوية غاليا وباهضا وهذا كان حال (دواء) الشاي في بداية انتشاره فقد كان سعر الرطل الواحد منه حوالي مئة دولار وهو مبلغ ضخم بمقاييس ذلك العصر ولهذا لم يكن يتناول مشروب الشاي إلا الأثرياء. خصوصا وأن تناوله كان لا يتم إلا في فناجين وأباريق البورسلان والخزف الصيني الباهظة الثمن فضلا عن أن السكر النادر الوجود كان يستحق توصيفه بالذهب الأبيض. وهذه التكلفة الباهظة جدا للفنجان الواحد من الشاي في القرن السابع عشر تقودنا لتسليط الضوء على الآثار السياسية والاقتصادية الشنيعة التي تكبدتها بعض الدول والشعوب بسبب مشروب الشاي.

منذ فجر التاريخ وأرض الصين هي المصدر الرئيس لسلعة الشاي، ولكن المشكلة أنه عندما تعرفت الشعوب الأوروبية على هذا المشروب المنعش كانت الإمبراطورية الصينية قد تخلت عن عادتها القديمة في تبادل السلع التجارية عبر طريق الحرير من خلال نظام المقايضة (تبادل السلع التجارية) وإنا أصبحت تطلب الحصول على النقود الذهبية والفضية مقابل أي سلع ومنتجات صينية يتم تصديرها للخارج. بالمناسبة أحد أسباب انهيار الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية وضعفها في القرن الثامن عشر أن أغلب مواردها من الفضة التي كانت تستخرجها من مستعمراتها في أمريكا الجنوبية (معنى الأرجنتين باللغة اللاتينية: أرض الفضة) كانت تشحن مباشرة إلى إمبراطورية الشاي: أرض الصين. وهنا تدخل الإمبراطورية الإنجليزية في سياق القصة فمنذ مطلع القرن التاسع عشر أصبحت الجزر البريطانية الصغيرة هي أقوى دولة في مسرح السياسة العالمي. وبسبب أن تكلفة استيراد الشاي (المشروب المفضل للإنجليز) كانت باهظة الثمن لهذا حاولت الإمبراطورية الإنجليزية استبدال تسديد الثمن بالذهب والفضة وإجبار الصين على قبول مقايضة سلعة الشاي بشيء غريب جدا ألا وهو مخدر الأفيون الذي كانت تزرع شجيرات الخشاش في الأراضي الهندية التي يسيطر عليها جنود التاج الإنجليزي. في عام 1840م اندلعت أحداث ما تسمى (حرب الأفيون) بين بريطانيا والصين وبعض المؤرخين يقترح أن يتم تسميتها (بحرب الشاي) وهي الحادثة المشينة واللعينة في تاريخ الأمة الإنجليزية عندما قامت القوات البريطانية بقوة السلاح بإجبار الحكومة الصينية بقبول بيع الشاي والخزف الصيني (البورسلان) والحرير بما يقابلها من صناديق بودرة الأفيون بدلا من سبائك الفضة.

في حرب الشاي تلك انتصرت بريطانيا واحتلت الصين (استمر النفوذ الإنجليزي في الصين لمدة 80 سنة) ولكن قبل ذلك بسنوات طويلة تسببت (معركة شاي) أخرى في مكان آخر في حصول أكبر هزيمة للإمبراطورية الإنجليزية. هذا ما تذكره كتب التاريخ عن (حفلة شاي بوسطن Boston Tea Party) والتي حصلت في 16 ديسمبر من عام 1773م وذلك عندما حدثت حركة احتجاج سياسية من قبل المستوطنين المقيمين في المستعمرات البريطانية في قارة أمريكا الشمالية على استثنائهم من الحصول على عضوية البرلمان البريطاني. وبحكم أن عادة تناول الشاي كانت مستشرية بين سكان أمريكا الشمالية ولهذا قاوموا بشدة توجه الحكومة البريطانية فرض المزيد من الضرائب المفرطة على تجارة الشاي المصدر من بريطانيا إلى أمريكا. ولهذا حصل في ذلك التاريخ قيام عدد من المستوطنين الأمريكان بحملة تخريب لبضائع الشاي المشحونة في السفن البريطانية الراسية في ميناء مدينة بوسطن الأمريكية حيث تم رمي جميع صناديق الشاي في مياه الميناء. وبحفلة الشاي تلك في ميناء بوسطن انطلقت شرارة حرب الاستقلال الأمريكية من براثن الهيمنة الإنجليزية وتغير التاريخ بشكل كبير بعد ولادة أكبر دولة في التاريخ الحديث ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية.

 من شاي رئيس الوزراء إلى شاي الملكة

وما زلنا في سرد قصة العلاقة الوثيقة بين الشعب والأمة الإنجليزية وعشقها المفرط للشاي والذي أدى إلى غزوها للصين وخسارتها لأمريكا ويقال إنه أثناء الحرب العالمية الثانية وكمحاولة لكسر الروح المعنوية للشعب البريطاني تعمدت الطائرات الحربية الألمانية أثناء قصفها المتكرر لمدينة لندن أن تركز على قصف موقع طريق منسينق Mincing Lane والذي يعرف باسم (شارع الشاي) حيث كان يعتبر سابقاً أكبر مركزا في العالم لإدارة تجارة الشاي. ونظرا لأهمية الشاي في الثقافة الإنجليزية حرصت الحكومة في عام 1942م على شراء كل رطل يمكن تأمينه من أي دولة في العالم لدرجة أنه يقال بأن مصاريف شراء الشاي للشعب البريطاني في سنوات الحرب كانت تفوق تكاليف توفير قذائف المدافع والقنابل والمتفجرات. ويشتهر عن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل قوله أثناء الحرب إن توفير الشاي أكثر أهمية من توفير الذخيرة الحربية ولهذا أصدر أوامره بأن يحصل الجنود والبحارة على السفن الحربية الإنجليزية على كميات غير محدودة من الشاي بينما كانت الطائرات الحربية البريطانية تنزل عشرات الأطنان من صناديق الشاي على قوات الحلفاء في جبهات القتال.

وبمناسبة الحديث عن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل فله علاقة متشعبة بمشروب الشاي الإنجليزي الفاخر فبعد أن ارتبط في منتصف القرن التاسع عشر اسم رئيس الوزراء الإنجليزي القديم تشارلز غري بأحد أشهر الأنواع التجارية الفاخرة للشاي الإنجليزي حتى الآن (شاي إرل غري Earl Grey Tea)  تكرر الأمر بعد ذلك بقرن من الزمن مع ونستون تشرشل. تقول القصة إن أحد التجار عرض على تشرشل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أن يشتري منه اسمه لكي يظهر كعلامة تجارية على نوع جديد من الشاي (شاي تشرشل الفاخر Churchill`s Fine Teas) ولهذا خرجت الصحف العالمية بعناوين ساخرة بأن تشرشل باع اسمه بثمنٍ بخس يبلغ فقط خمسة آلاف جنيه إسترليني. صحيح أن تشرشل أكثر ما أشتهر عن الصورة النمطية عنه هو سيجاره الضخم وسكره المتواصل بالخمر إلا أن له كذلك قصصا مع الشاي أشبه بنسج الخيال كالقصة السابقة في بيع اسمه على علب الشاي. لحظات حاسمة في تاريخ الحرب العالمية الثانية كان بطلها ونستون تشرشل في وجود أكواب الشاي من ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت في البداية ترفض الدخول المباشر في حرب مع الألمان حتى حصلت حادثة قصف اليابانيين لميناء بيرل هاربر الأمريكي. وبعده بفترة قصيرة من ذلك الاعتداء الهائل على الكرامة الأمريكية سافر تشرشل إلى أمريكا ومكث عدة أيام في البيت الأبيض حتى يقنع الرئيس الأمريكي أيزنهاور بدخول الحرب. وكان أول لقاء لهما على مائدة ضيافة عبارة عن حفلة شاي من ترتيب زوجة الرئيس الأمريكي روزفلت ويبدو أن النقاش في هذا الجو (الصافي) للذهن هو ما أفرز موافقة الأمريكان بدل حفلات قرع كؤوس الخمور. وفي نهاية الحرب يقال إن تشرشل اجتمع مع رئيس أمريكي آخر هو دوايت أيزنهاور (عندما كان قائد قوات الحلفاء) وذلك في لقاء سري حصل في فندق صغير يقع في ضواحي جنوب اسكتلندا. في ذلك الاجتماع تناقش القائدان السياسي تشرشل والعسكري أيزنهاور وهما يحتسيان أكواب الشاي المتتالية تفاصيل الخطة السرية لعملية إنزال قوات الحلفاء على سواحل نورماندي الفرنسية وهي المعركة التي حسمت نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن القصص الخيالية المتداولة عن تشرشل والتي لها علاقة بتناول الشاي أنه بعد فترة قصيرة من تتويج الملكة إليزابيث الثانية بالعرش البريطاني عام 1953م زارها رئيس وزرائها تشرشل للتهنئة وحينها عرضت عليه أن يتناول معها (شاي الملكة) وهو أشهر تكريم وبرتوكول سوف تستمر الملكة لمدة سبعين سنة تقدمه لكبار الزوار لها من الملوك والرؤساء وقادة الدول. الغريب في الأمر أنه يقال إن تشرشل رفض تناول الشاي مع الملكة التي كانت ما زالت في بواكير الشباب في ذلك الوقت ونبهها إلى أن جدتها الملكة فيكتوريا لم تكن تقدم الشاي لأي من رؤساء وزرائها ولا حتى تسمح لهم بالجلوس في حضرتها لأن ذلك من إضاعة الوقت الثمين الذي يجب أن يبذل في تصريف شؤون الدولة والحكم.

وعلى ذكر جلسات وسواليف (شاي الملكة) والوقت الثمين الذي ينبغي ألا يضيع في الثرثرة مع ملكة بريطانيا في كتاب (الوزير المرافق) للدكتور غازي القصيبي نجده يذكر تحسره أنه لعدة مرات لم تتح له الفرصة أن يتم اختياره ضمن أفراد الوفد السعودي الرسمي لحضور مأدبة غداء في ضيافة الملكة إليزابيث في قصر باكنغهام الملكي بلندن. وعندما أتيحت الفرصة له أخيرا أثناء زيارة رسمية لولي العهد وقتها الأمير عبد الله بن عبد العزيز نقل وزير الصحة الدكتور غازي وصف تفاصيل هذا اللقاء في عدة صفحات والغريب أنها كانت كلها لحديث وسواليف الوزير مع الملكة كان منها التطرق لجدتها الصارمة الملكة فيتوريا. كما سألها عن عدد أفراد عائلة الملكة وملاحظة أنهم يتتابعون غالبا في الأسر الملكية بترتيب ثابت مولود ذكر ثم أنثى ثم ذكر وهكذا دواليك وختم الشاعر غازي القصيبي حديثه الطويل مع الملكة البريطانية عن قيامه بترجمة مجموعة من قصائد الشعر العربي إلى الإنجليزية.

مثل هذه الأخبار الطريفة التي تحصل أثناء لقاءات الملكة إليزابيث مع ضيوفها كثيرة بسبب التاريخ الطويل لسبعة عقود من الزمن لحفلة (شاي الملكة) ومن آخرها العالم الماضي عندما زار الرئيس الأمريكي بايدن الملكة الإنجليزية واحتسى هو وزوجته جيل الشاي مع الملكة في قلعة وندسور ثم خرج ذلك الرئيس الكهل يقول للناس إن الملكة لطيفة جدا وذكرتني بوالدتي !!. الغريب أنني عندما قمت شخصيا بالجلوس على مائدة الشاي الملكية في وجود الملكة إليزابيث كانت صامتة تماما ولم تناقش معي التاريخ والأدب كما حصل مع الوزير القصيبي هل لأنها كانت تمثالا من الشمع وليست صاحبة الجلالة بشحمها ولحمها وشعرها الأشيب.

وختاماً لمن أبهجته القصص والأخبار السابقة عن الشاي وأثره في تشكيل التاريخ ودنيا السياسة لعل من المناسب لمن تتاح له الفرصة أن يزور معرض (ألوان الشاي الدولي 2022) والذي تنطلق فعالياته بمدينة الرياض يوم غد الأحد 21 مايو والموافق لليوم العالمي للشاي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق