د/ أحمد بن حامد الغامدي
يبدو أن العرب قديما كانوا على موعد متجدد
وضنك متكرر من الأوبئة وجائحة الأمراض المهلكة ومن هنا كانت المسبة الكبرى في حق الحجاج
بن يوسف الثقفي والي الخليفة عبد الملك بن مروان على العراق عندما أراد أن يفتخر فأنقلب
الأمر سُبه وسخرية عليه. يقال إن الحجاج خاطب قومه مفتخراً فقال: لم يصبكم الطاعون
منذ أو وُلّيت عليكم، فقال إعرابي إن الله أرحم بنا من أن يجمع علينا مصيبتين: أنت
والطاعون. من الناحية التاريخية يوجد ترابط وثيق بين وباء الطاعون وزمن الخلافة
الأموية لدرجة أن المؤرخ المصري المعاصر الدكتور أحمد العدوى حصر في كتابه (الطاعون
في العصر الأموي) تفشي حوالي 20 جائحة كبرى للطاعون في زمن الخلافة الأموية أغلبها
في العراق وبعضها في الشام ومصر وهو الأمر الذي ساهم بصورة ما مع عوامل أخرى في
سقوط الخلافة الأموية التي لم تعمر طويلاً.
ومن فضل الله ورحمته لم يشهد تاريخ الحرمين الشريفين
في القديم وقوع حالات خطيرة من تفشي وباء الطاعون في أرض الحجاز بالرغم من كثرة
الحجاج من جميع فجاج الأرض القادمين إلى البلد الحرام. وبالإضافة إلى ما ورد في
الحديث الشريف الصحيح من أن المدينة المنورة (وفي بعض الروايات مكة المكرمة كذلك)
لا يدخلها الطاعون نجد أيضا أن بعض العلماء مثل الإمام النووي الذين استقرأوا التاريخ
ذكروا أن مكة والمدينة لم يقع بها طاعون قط. وهذا في جانب منه رحمة ومكرمة للحرمين
الشريفين وأهلهما وفي جانب آخر حقيقة أن من أسباب انتقال وانتشار الطاعون هو الدور
الوسيط للبراغيث التي تعيش على الجرذان وهذا النوع من القوارض لا ينتشر بكثرة في
المناطق الحارة والجافة كما هو حال أغلب أرض الجزيرة العربية.
ربما ساهمت تلك المساحات الشاسعة من القفار
التي يجب على الحاج أن يقطعها قبل الوصول إلى الأراضي المقدسة، ربما ساهمت في
(تصفية) قوافل الحجيج من الأشخاص المصابين بالأمراض المعدية والقاتلة. وبحكم أن
زمن السفر في تلك العصور يمتد لشهور طويلة وبهذا كان من يصاب بأي وباء قاتل ربما يتوفى
أو يتم هجرة والتخلي عنه قبل الوصول إلى مكة المكرمة مما قلل بشكل ملموس وصول وانتشار
الأوبئة في أرض الحرم. هذا الأمر تغير بشكل حاد ومفجع خلال القرن التاسع عشر (أتفق
مع نظرة الأديب الإيرلندي أوسكار وايد عندما أشار إلى أن القرن التاسع عشر نقطة تحول
محورية في التاريخ البشري) وذلك فيما يخص سرعة انتشار الأمراض المعدية والأوبئة
كنتيجة حتمية لسرعة انتقال البشر عبر وسائل التواصل والنقل الحديثة. مع ظهور شبكة
القطارات وأساطيل القوارب والسفن البخارية في منتصف ذلك القرن وظهور بواكير مركبات
السيارات في نهايته حصل قفزة هائلة في تواصل الشعوب البشرية وسهل ذلك انتشار الأوبئة
الفتاكة وخصوصا مرض الكوليرا. من الناحية الطبية تذكر المراجع العلمية أن ميكروب
مرض الكوليرا لا يصمد في أمعاء الشخص المصاب أكثر من خمسة أيام فإما أن يهلك المرض
أو يزول الميكروب. والمعنى أن فرصة انتقال المرض وانتشاره محدود نسبيا ولهذا طوال
التاريخ الإنساني كله لم يعرف وجود هذا المرض الفتاك خارج أراضي القارة الهندية
ولذا يعرف هذا المرض أحينا باسم (الكوليرا الآسيوية). وكما قال أوسكار وايد فإن القرن
التاسع عشر كان نقطة تحول وهذا بالفعل ما حصل مع قصة هذا الوباء فبعد احتلال الهند
من قبل الإمبراطورية البريطانية سرعان ما ساهمت القوارب البخارية في نقل هذا
الوباء لجميع أنحاء العالم في غفلة من الأطباء وأهل السياسية والجنود. وفي القرن التاسع
عشر حصلت العديد من موجات الوباء الحادة للكوليرا بلغت ست موجات كبرى ما يهمنا منها
هو (وباء الكوليرا الرابع) وهذه الجائحة المريعة التي حصلت عام 1863م كان مبدئها
من ضفاف نهر الغانج من إقليم البنغال بالهند ووصلت مع الحجاج المسلمين الهنود إلى
مكة المكرمة وتشير المراجع التاريخية أنه في ذلك العام حصد الوباء 30 ألف حاج من
أصل 90 ألف. وتكرر الأمر في حج عام 1883م حيث يذكر أن جائحة الكوليرا قضت مرة أخرى
على ثلث أعداد الحجاج بينما حج عام 1893م سمي (حج الرعب) بعد أن تسبب ذلك الوباء
في وفاة 40% من الحجيج. وبالجملة تم تسجيل 27 جائحة وباء
الكوليرا أثناء مواسم الحج في الفترة من مطلع القرن التاسع عشر وحتى عام 1930
ميلادي.
وبحكم أن الحجاج ساهموا في انتشار (وباء
الكوليرا الرابع) في عدد كبير من بلدان العام بعد رجوع المصابين بالكوليرا إلى
ديارهم لذا نجد منذ منتصف القرن التاسع عشر تغير كبير في مسيرة الحج (ألم نقل إن القرن
19 فترة محورية في التاريخ). لأول مرة في التاريخ الإسلامي ظهرت الحاجة إلى تفعيل
دور الوقاية الطبية فيما يسمى (بالحجر الصحي َQuarantine)
وذلك بعد عقد مؤتمرات دولية سياسية وطبية كبرى وبعد ضغط متزايدة من قبل الدول الاستعمارية
الكبرى. ولذا استجابت الدولة العثمانية بإقامة محاجر صحية في مكة والمدينة، بل
وعلى طريق الحجاج القادمين من مصر (محجر طور سيناء) وأقيم في مصر ما يسمى مجلس
الكورنتينة الدولي، بل وصل الأمر حتى إلى إقامة محجر صحي بحري كبير في جزيرة بريم
بمدخل البحر الأحمر عند باب المندب ومحجر صحي آخر عند مخرج السفن عند قناة السويس.
بمثل هذه الإجراءات الصحية الصارمة أمكن
بدرجة كبير عبر السنين تأمين الحجاج وشعيرة الحج من تلك المآسي الفجيعة المتمثلة
في فقد الأرواح الطاهرة ومعاناة المرضى الأليمة. وللتدليل على خطورة التساهل في
أخذا الاحترازات الطبية الملائمة في زمن الأوبئة في التجمعات الدينية الكبرى يكفي
أن نشير لما حدث قبل عدة أشهر في القارة الهندية (المصدر الأصلي لوباء الكوليرا كما
ذكرنا) إذا نجد مرة أخرى وعلى ضفاف نهر الغانج يتفشى وباء آخر أثناء موسم حج
الكومبه ميلا الهندوسي والذي يعتبر أكبر تجمع بشري على الإطلاق. وبسبب ضعف
الاحتياطات الصحية التي اتخذتها الحكومة الهندية تفشى مباشرة بعد ذلك الحج وباء
الكورونا في الهند وبالإضافة لإنتاج النوع المتحور الجديد من فيروس كوفيد 19 حصلت الكارثة
الكبرى في تاريخ الأمراض المعدية عندما أصبح يصاب يومياً نصف مليون مريض ووصلت عدد
حالات الوفيات يوميا لأكثر من أربعة آلاف شخص.
في المقابل ولله الحمد نجحت جهود وزارة الصحة
لدينا في المحافظة ولسنوات طويلة على سلامة موسم الحج من الأوبئة المعدية والجوائح
الصحية المهلكة بالرغم من القلق من انتشار بعض الأمراض في بعض السنوات كما حصل مع مرض
التهاب السحايا في موسم حج 1408هـ أو القلق من انتقال وباء الكوليرا من خلال
الحجاج اليمنيين في عام 1438هجري. بل وصل الأمر قبل عدة سنوات عندما انتشر مرض
كورونا الإبل (فيروس ميرس) في المملكة أن طلبت منظمة الصحة العالمية بإلغاء موسم
الحج وهذا الطلب ربما تكرر مرة ثانية عندما انتشر وباء فيروس زيكا في بعض البلدان
وخشي أن يساهم تجمع الحجيج في انتشار عالمي له.
لذا في أي مرة قادمة عندما تسمع أيه القارئ
الكريم تصريح لوزارة الصحة في نهاية موسم الحج بأنه كان ناجحاً (وخالياً من الأوبئة)
فثق تماما أن هذه ليست مجرد جملة عابرة تقال، ولكن ورائها جهود مشكورة وأموال مبذولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق