الاثنين، 21 فبراير 2022

( علوم الأولين .. إرث مُغيّب )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 وفق ما يعرض في كتاب التاريخ المعاصرة فإن من (اكتشف) شلالات بحيرة فيكتوريا في وسط أفريقيا هو المغامر والمستكشف الأسكتلندي ديفيد ليفينغستون بالرغم من أن من هذه الشلالات معروفة منذ آلاف السنين لشعوب زامبيا والذين يطلقون عليها اسم: الدخان ذو الرعد (موسي وا تونيا). نفس هذه المهزلة تتكرر في محيطنا العربي عندما تزعم كتب التاريخ الأوروبية أن من اكتشف مدينة البتراء الأثرية في الأردن قبل قرنين من الزمن هو الرحالة والمستشرق السويسري يوهان بركهارت بالرغم من أن بدو العرب والأنباط لم يغادروا قط هذه المنطقة. ومن الوقاحة أن الغرب ينسبون لبركهارت أيضا بأنه هو من اكتشف معبد أبو سنبل الفرعوني الضخم في منطقة أسوان بجنوب مصر بينما هو في الواقع كان يتنقل كسائح بين هذه المناطق الأثرية ومسترشدا بالسكان المحليين الذين قادوه لها وعرفوه بها.

السبب فيما سبق من هذه المهازل وغيرها كثير جدا يرجع لظاهرة تعرف في علوم التاريخ والسياسة بظاهرة (المركزية الأوروبية) Eurocentrism أو المركزية الغربية ويقصد بذلك أن الأوروبيين والغربيين إجمالا ينظرون بشكل متحيز للحضارة الغربية ولهم رؤية للتاريخ والعالم متمركزة عليهم فقط فالأشياء والمعارف والاكتشافات لا يعترف بها إلا أذا كانت عن طريقهم. المركزية الأوروبية للتاريخ عند إعادة كتابة الموروث البشري العام هي التي جعلتنا ننسى أو نتناسى موروثنا التاريخي القديم ونعتقد أن أغلب الاكتشافات العلمية وأساسيات المخترعات التقنية والحضارية هي فقط من إنتاج الغرب وأهل أوروبا.

ومن هذا المنطلق نبدأ نفهم لماذا في تاريخ العلوم والتقدم البشري نجد أن علماء ومؤرخي القارة الأوروبية ومن لف لفهم من الأمريكان والكنديين يتجاهلون بشكل شبه تام إسهام الحضارات الإنسانية غير الغربية في تقدم العلوم البشرية وبالخصوص أثر الحضارة الإسلامية والعربية. وبحكم أن تعليمنا الحديث وثقافتنا المعاصرة مبنية بشكل شبه كامل على العلوم الغربية على ما فيها من التحيز والانحراف البنيوي بسبب (المركزية الأوروبية) ولذا تشربنا العارف والمعلومات وفق وجهة النظر الغربية خصوصا فيما يتعلق بتاريخ العلوم والمخترعات التقنية. وهذا المقال يأتي في مساق انتشار مقطع مرئي قصير للشيخ صالح آل الشيخ يسرد فيه استشهاد من مقدمة كتاب المسالك والممالك للجغرافي العربي ابن خرداذبة وفيه إشارة عامة لظاهرة الجاذبية الأرضية. وسبب الانتشار الواسع لهذا المقطع إعجاب واستغراب الكثير منا أن مفهوم جاذبية الأرض وكرويتها أمر مذكور في التراث العربي القديم.

بتأثير من المناهج العلمية الحديثة المكتوبة وفق وجهة النظر والمركزية الأوروبية تشبعنا كلنا معلومة أن العالم البريطاني إسحاق نيوتن هو من (اكتشف) ظاهرة الجاذبية الأرضية وهذا ولا شك خطأ شائع. الأقرب طبعا أن نقول بأن نيوتن اكتشف (قوانين) الجاذبية وأعطى التفسير العلمي الدقيق لهذه الظاهرة الطبيعية والمعروفة بالفطرة منذ فجر التاريخ. الإضافة الحقيقة لنيوتن في تاريخ العلوم أنه (اكتشف) قانون التربيع العكسي لتفسير مفهوم الجاذبية والذي ينص على أن قوة التجاذب بين جسمين تتناسب طرديا مع كتلة هذين الجسمين وتتناسب عكسيا مع مربع المسافة بينهما وينبغي التنبيه أن هذا القانون يختلف عن قوانين الحركة الثلاثة المشهورة لنيوتن. ونظرا لأهمية الكبيرة لقانون التربيع العكسي واستخداماته العلمية المتنوعة لتفسير عدد من الظواهر الفيزيائية يوجد جدال حاد حول من يستحق بأن يوصف بأنه أول من اكتشف هذا القانون هل هو نيوتن أم العالم البريطاني روبرت هوك.

والمقصود أن المعرفة العلمية في الغالب تراكمية عبر الزمن ونفس المكتشفات العلمية قد يتوصل لها أكثر من شخص أو حتى أكثر من شعب وحضارة. بالفعل لم يكتشف نيوتن الجاذبية بسبب سقوط تفاحة على رأسه وقد فندت هذه القصة الخيالية في مقال خاص حمل عنوان (أحداث علمية مشهورة من نسج الخيال) ولهذا في هذا السياق لن يكن مستغربا أو أمر مدهشا أن نعرف أن العلماء العرب والمسلمين سبق لهم أن أشاروا في كتبهم لظاهرة الجاذبية. وبالجملة توجد إشارة لظاهرة الجاذبية في كتابات العديد من العلماء العرب مثل أبناء موسى بن شاكر وأبو الريحان البيروني وأبو جعفر الخازن وثابت بن قرة وابن الهيثم وابن ملكا البغدادي بل ورد ذلك في الكتب العديد من علماء الجغرافيا العرب مثل الإدريسي والهمداني بالإضافة طبعا لابن خرداذبة السابق الذكر. وهنا لا بد لنا من وقفة مكاشفة وهي أنه إذا تم الإشارة لظاهرة الجاذبية في المخطوطات العربية التراثية القديمة فهذا لا يعني بالضرورة أن العلماء العرب هم (( أول )) من تكلم ورصد وناقش مفهوم الجاذبية. وكما نعيب على الغربيين نظرتهم الإقصائية للإسهام غيرهم من الشعوب والحضارات (أي المركزية الأوروبية) فيجب ألا نقع في عين ذات الخطأ وننسب كل الاكتشافات القديمة بأنها من إنتاج الحضارة الإسلامية (أي المركزية الإسلامية/العربية).

  الجاذبية في علوم الأقدمين

بما أن العصر الذهبي للعلوم الإسلامية مع مطلع القرن الثالث الهجري وزمن إنشاء بيت الحكمة في بغداد كان مبنى بصورة كبيرة على حركة الترجمة من كتب الأقدمين و(علوم الأولين) من اليونان والرومان والفرس والهنود ولذا كيف وقعنا في خلل التفكير أن كل الحقائق والمعارف العلمية المذكورة في المخطوطات الإسلامية هي من (اكتشاف) المسلمين. ذكرنا أن الجغرافيين العرب مثل الإدريسي والهمداني وابن خرداذبة المذكور في المقطع الصوتي للشيخ صالح آل الشيخ أشاروا في كتبهم لظاهرة الجاذبية، ولكن ربما من الإنصاف أن ننبه أن علم الجغرافيا العربية كان في بداياته مبني على كتاب (المجسطي) لعالم الفلك والجغرافي الإغريقي بطليموس. هذا الكتاب المؤلف في الأصل باللغة اليونانية ومترجم إلى اللغة العربية على يد حنين بن إسحاق توجد في المقالة الأولى من هذا الكتاب الوصف الشهير للكون وفق نظرية بطليموس أن الأرض هي مركز الكون وهنا نجد إشارات إلى مفهوم الجاذبية وأنها هي التي تربط الكواكب بعضها ببعض وتتسبب في جعل الأجسام تقع على الأرض. في علم الفلك القديم توجد مشكلة تسمى (المعضلة الكبرى) تدور حول نظرية أرسطو عن الكون واختلافها عن النظرية الكونية لبطليموس بالرغم من أن كلا النظريتين قائمة على مركزية الأرض للكون. ولكن أرسطو في تصوره يقول بحركة الكواكب في مدارات مفردة في حين أن النظام البطلمي يقول إن كل كوكب يدور حول الأرض من خلال نظام يحتوي مدارين أو أكثر. وما يهمنا هنا أن العالم العربي الكبير ابن الهيثم حاول التدخل في هذه المعضلة الفلكية المعقدة وأن يوفق ويجمع بين النظام الفلكي الأرسطي والنظام البطلمي مع الميل أكثر لنظرية بطليموس ولهذا من بعض ألقاب ابن الهيثم في كتب الغرب أنه: بطليموس الثاني بالرغم من أنه انتقد بطليموس في بعض كتبه مثل كتاب شكوك على بطليموس وكتاب تصويبات على المجسطي. وبحكم أن الحديث هنا عن الجاذبية ولذا نعود إلى ذكر مناقشة العلماء العرب لها ونخص منهم العالم الكبير ابن الهيثم تكلم عنها في بعض كتبه وسماها (مراكز الثقل) وتطرق أيضا لظاهرة تجاذب الكتل وطرح فكرة أن ثقل الأجسام يختلف بحسب المسافة التي تفصلها عن مركز الأرض. وهذه الأفكار الفيزيائية الهامة عرضها ابن الهيثم في كتاب خاص حمل عنوان (مقالة في قرسطون) ويقصد بالقرسطون هو الآلة المعروفة باسم القبّان وهي عبارة عن ميزان علمي مستخدم منذ زمن أرخميدس لقياس أوزان المعادن. بقي أن نقول إن المعارف العربية المرتبطة بعلم الأوزان مثل كتاب ابن الهيثم (مقالة في قرسطون) وكتاب ثابت بن قرة (كتاب في القرسطون) أغلبها تستقي معلماتها وأسسها من كتاب العالم اليوناني الشهير أقليدس الذي عاش بالإسكندرية وينسب له تأليف كتاب يحمل عنوان (في الثقل والخفة وقياس الأجرام بعضها إلى بعض).

ومن علماء اليونان إلى علماء الهند واحتمالية معرفتهم وحديثهم عن الجاذبية وهذا ما تشير له المصادر التاريخية من أن عالم الرياضيات والفلك الهندي أرياباتا والذي ولد في القرن الخامس الميلادي عند حديثه عن الجاذبية قال: الأرض من جميع جوانبها متماثلة .. وكل الأشياء الثقيلة تسقط على الأرض بموجب قانون الطبيعة لأن الأرض بطبيعتها تجذب وتحافظ على الأشياء. الجدير بالذكر أن هذا العالم الهندي كان معروفا بشكل كبير للعلماء العرب فهذا النص للعالم أرياباتا منقول في كتاب الهمداني الذي يحمل عنوان (كتاب الجوهرتين) وكذلك في كتاب البيروني الشهير عن الهند. والغريب في أمر هذا العالم الهندي أنه بالرغم من تأييده وقبوله لنظرية مركزية الأرض في الكون إلا أنه أثار استغراب البيروني عندما ذكر أن بعض تلاميذ أرياباتا يعتقدون بأن الأرض تدور حول محورها. وهذا يخلف نظرية مركزية الأرض مما جعل بعض العلماء يعتقد بأن أرياباتا قد يكون سبق عالم الفلك البولندي كوبرنيكوس في فكرة مركزية الشمس وأن الأرض تدور حولها وفي نفس الوقت تدور حول محورها.

 أما وقد وصلنا لهذا المقدار من السرد فيما يتعلق بتاريخ معرفة البشرية بظاهرة ومفهوم الجاذبية وأنه يتخطى بآلاف السنين القصة الطريفة الخيالية لتفاحة نيوتن بل ويتخطى زمن العصر الذهبي للعلوم الإسلامية ليصل إلى العصور القديمة للشعوب الحضارات من قبلنا. ولذا قبل أن نختم فيجب أن ننبه أنه إذا كان مجرد ورد إشارة عابرة عن الجاذبية في بعض الكتب التراثية الجليلة أثار استغرابنا وإعجابنا فكيف إذا علمنا أن (علوم الأولين) القديمة كانت على درجة عالية ومذهلة من التقدم العلمي والإنجاز المعرفي. لعلنا نسترجع ذكر عالم الفلك الهندي أرياباتا السالف الذكر وكم سوف نعجب عندما نعلم أنه استطاع حساب مدة دوران الأرض حول الشمس وإنها تبلغ 365.25858 يوما بمعنى أنه أخطأ في قياس السنة الشمسية بمقدار ضئيل لا يذكر وهو ثلاث دقائق و20 ثانية أي بنسبة صحة تبلغ 99.999% وهو أمر لا يكاد يصدق. وفي القرن الثالث الميلادي استطاع عالم الرياضيات والفلك الإغريقي إراتوستينس المقيم في مدينة الإسكندرية ليس فقط من إدراك مفهوم أن الأرض ليست مسطحة وإنما لها شكل كروي وإنما استطاع كذلك أن يحسب (في قصة شيقة تستحق أن تذكر بشكل مستقل) طول محيط الكرة الأرضية وأنه يبلغ حوالي 39060 كيلومتر وهو رقم يقل عن الرقم الحقيقي بنسبة معقولة تبلغ حوالي اثنين ونصف في المئة. وربما القصة الأغرب في تاريخ الإنجازات العلمية في العصور القديمة ما قام به عالم الفلك الإغريقي هيباركوس عام 160 ميلادي من استخدام علم حساب المثلثات لمحاولة حساب المسافة بين الأرض والقمر ووجد أنها تبلغ حوالي 378 ألف كيلومتر ولا يزيد الفرق بين حساباته وتلك التي يمتلكها العلم المعاصر على 2 في المئة.

وبعد علوم الأولين ومعارف الأقدمين شي مذهل وسبحان من ألهم الإنسان أن يحاول اكتشاف أسرار الطبيعة ويحاول فهما لكي يسخرها لاحقا في عمارة الأرض وإنتاج حضارات بشرية متكاملة ومتممة لبعضها البعض في الجوانب العلمية والتقنية.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق