الاثنين، 21 فبراير 2022

( الثلاثي النكد .. التفاهة والضحالة والإلهاء )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

حتى العصر الحديث كانت أزمة المثقف تنحصر مع السلطة القامعة له أو مع المجتمع الرافض لأفكاره وأطروحاته النخبوية ومع ذلك كان غالبية المثقفين يشعرون بالفخر لخوضهم هذا (النضال). تغير الحال بدرجة كبيرة في الأزمنة الحالية عندما بدأ المثقف والمفكر والأديب يعاني من (أزمة التهميش) والتي تكون في أسوأ حالتها عندما يتم تجاهل المثقف في سبيل الاهتمام بشيء (تافه). كما هو معروف يعتبر

الشاعر الأرجنتيني خوخري بورخيس ليس فقط أحد أهم أدباء أمريكا اللاتينية، ولكن أشهر الشعراء منذ عقود فلم يأت بعد الشاعر الإنجليزي النجم ت. س. إليوت أفضل من بورخيس. المشكلة أن الشعب الأرجنتيني يشتهر بجنون عشق (الساحرة المستديرة) وبهذا أصبح للاعبي كرة القدم شهرة طاغية لا يحلم بها الأدباء والعلماء. وعندما سأل الأديب الأرجنتيني خورخي بورخيس عن سبب شعبية كرة القدم رد قائلا (كرة القدم منتشرة لأن الغباء منتشر) كما ينقل عنه قوله بأن كرة القدم واحدة من أكبر جرائم إنجلترا. وكنوع من التعبير عن اعتراضه على شعبية كرة القدم اختار بورخيس بشكل متعمد أن يكون موعد واحدة من أهم محاضراته الأدبية في نفس توقيت موعد المباراة الأولى للفريق الأرجنتيني في بطولة كأس العالم عام 1978ميلادي.

حالة الحنق والـتأزم النفسي للمثقف من شيوع التفاهة وانتشار الغباء في المجتمع لدرجة أن تصبح شعبية وجماهرية كرة القدم أعلى بكثير من دواوين الشعر انتقلت من الأرجنتين إلى دولة أخرى عاشقة لكرة القدم هي إيطاليا. صحيح أن الأديب والروائي الإيطالي المشهور أمبيرتو إيكو (صاحب الروايات البارزة: اسم الوردة ومقبرة براغ) لم يكن يأخذ موقف متشنجاً من لعبة كرة القدم لدرجة أنه عندما استضافت بلاده بطولة كأس العالم لسنة 1990م قام بكتابة مقالات صحفية خاصة عن أسرار المستطيل الأخضر للعبة كرة القدم. لكن مشكلة أمبيرتو إيكو من شيوع وانتشار غباء من نوع جديد سماه (فضاء الحمقى). لقد كان أمبيرتو إيكو على درجة عالية من الدقة والكفاءة الأدبية والثقافية لدرجة أنه ظل ثمان سنوات متواصلة لكي يكتب روايته البارزة (بندول فوكو) وعدد الكتب في مكتبته الخاصة يفوق الثلاثين ألف كتاب ولهذا في أواخر حياته تضايق كثيرا من (الشهرة السهلة) التي أصبح الحمقى والبلهاء يمكن أن يحصلوا عليه بفضل وسائل التواصل الاجتماعي. قبل وفاة بعدة شهور عام 2016م حصلت ضجة كبرى ما زال صداها يتكرر يوما بعد يوم كلما انتشر خبر شائع عن شخص تافه يشغل مواقع التواصل بالسخافات ولهذا قال أمبيرتو إيكو مقولته الجارحة: (إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط .. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل .. إنه غزو البلهاء).

تسطيح الفكر وتهميش المثقف له تواجده المحزن والمخزي في واقعنا العربي لدرجة أن الجميع تقبل بشيء من التجاوز الحادثة الرمزية المتخيلية التي حصلت بزعمهم بين الكاتب الكبير نجيب محفوظ وبين راقصة تافهة.  تقول القصة أن نجيب محفوظ والراقصة فلانة أثناء خروجهما من إحدى الحفلات توجه نجيب محفوظ لسيارته القديمة من نوع فيات فيما توجهت الراقصة لسيارتها المرسيدس الحديثة وهنا قالت الراقصة وهي تمازح أديب جائزة نوبل (شفت الأدب عملك إيه وقلت الأدب عملت لي إيه ؟!!!). وإذا صحت تلك القصة بأن نجيب محفوظ كان يحس بالغبن لشهرة وثراء من كان (يحرك) عجيزته ويهز وسطه فإن الأديب المصري الآخر البارز والذي كان يحس بمزاحمة التافهين لشهرته ويتأفف من ذلك كان توفيق الحكيم. يشتهر عن توفيق الحكيم رحمة الله بخله وحبه للمال ولهذا كان يصرح باستنكاره للمبالغ المالية الكبيرة التي تدفع كأجور ومكافآت للاعبي كرة القدم ولهذا كان يتساءل بحرقة لماذا الملايين من البشر تهتم وتتابع أخبارهم ويعترض على أن الاعب الذي (يحرك) قدمه ورجله يعيش حياة أفضل وأغنى من الكاتب الذي يحرك أصابعه وقلمه. وكما كان الشاعر الأرجنتيني خورخي بورخيس يسخط من عرض مباريات كرة القدم في كأس العالم ويحاول أن يوشوش عليها بأن يعقد أمسياته الشعرية في نفس وقتها كان كذلك توفيق الحكيم يعترض على بث التلفزيون المصري لمباريات فرق ودول أجنبية تكرس أكثر عشق الجماهير والدهماء (للساحرة المستديرة).

وفي نفس السياق نجد أن الروائي التركي المعاصر أورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام م2006 في حواره مع مجلة دير شبيغل الألمانية أشار إلى أن الحكام المستبدين يستخدمون لعبة كرة القدم للتحكم في بلدانهم وتخدير الناس وبهذا تكون كرة القدم هي الأحق بوصف (أفيون الشعوب).

وهذا يستحضر ولا شك نظرية (الإلهاء distraction) التي طرحها المفكر الأمريكي المشاكس نعوم تشومسكي ضمن استقرائه للإستراتيجيات العشرة التي تستعملها الدول والأنظمة الحاكمة للسيطرة على الشعوب والبعض منها مبعثرة في عدد من كتبه والتي من أهمها كتاب (أوهام ضرورية: السيطرة على الفكر في المجتمعات الديمقراطية). وللأسف حتى في المجتمعات الواعية وغير المدجنة يسهل على الحكومات السيطرة على الشعوب وتشتيت الانتباه وإلهاء الناس بالأمور التافهة (سفساف الأمور أو لعاعة الدنيا كما في التوصيف التراثي) وتحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الكبرى والقضايا العظمى. الغريب أن تلاعب رجال أهل السياسة بالشعوب بهدف السيطرة عليهم ليس فقط متكرر عبر التاريخ، ولكن أيضا مقبول ومبرر من ناحية فلسفية وتنظيرية كما ورد في كتاب الجمهورية للفيلسوف اليوناني أفلاطون. في كتاب (الجمهورية الفاضلة) لأفلاطون يرد مفهوم (الكذبة النبيلة Noble lie) وهو اشغال متعمد للشعب بكذبة أو أسطورة يتم نشرها بشكل مقصود من قبل النخبة للحفاظ على الانسجام الاجتماعي أو لغرس وتمكين أجندة معينة. فإذا كانت المدينة الفاضلة يتم بها التلاعب بالجماهير فما هو الحال في غيرها من الكيانات السياسية. وإذا كان أفلاطون في مدينته (الفاضلة) لم يجد حرجاً في قبول الكذب إذا كان (لمصلحة الجماهير) وهذا أمر غريب وتناقض صارخ ومع ذلك نجد أمرأً لا يقل غرابة وتناقض في كتاب (سيكولوجية الجماهير) للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون. لقد قلل لوبون من دور العقل في تقدم الأمم وعزز من أهمية دور الأوهام والخيالات وأنه بسببها اندفعت الإنسانية في سبل المدنية والحضارة ويختم بقوله (إنه ليس بنا غنى عن الأوهام لأنها نبات الغرائز) ويقصد أن الأوهام هي التي تولد في الإنسان مشاعر الشرف وإنكار الذات وحب المجد. وبمختصر العبارة يريد غوستاف لوبون أن يقول بان الجماهير (غير عقلانية) وأنها قابلة للاندفاع والتقلب والغضب ثم يصدر لوبون الحكم الصادم والصريح بأن (الجماعة/الجماهير ألعوبة في يد المهيجات الخارجية) ومقولته العنصرية المشهورة عندما قرر (كل الجماعات في كل الأمم مثل النساء) بمعنى أنها عاطفية ويسهل التأثير عليها أو أنها ما أسهل أن تنزلق في وحل الانشغال بالأمور التافهة.

من التفاهة إلى الضحالة

وهذا يقودنا إلى حقيقة أن زماننا المعاصر ولأول مره في التاريخ يمكن بدون مبالغة أن يوصف بأنه في جوانب منه هو (عصر التفاهة). ما يسيطر على البشر حاليا ليس نظام عالمي سياسي جديد، ولكن نظام عالمي فكري وإعلامي مخزي يمكن تسميته (نظام التفاهة). لا أدري هل هو من باب التوافق أن يصدر في عام 2020م كتاب المفكر الكندي آلان دونو (المتوسط.. سياسات المركز المتطرف) Mediocracy الذي ترجم وعرب تحت عنوان (نظام التفاهة). وبالفعل كانت سنة وباء الكورونا خير مثال على التفاهة والرداءة سواء في انتشار نظريات المؤامرة أو تخبط المجتمع الطبي أو مهازل الرئيس الأمريكي ترامب في سنته الأخيرة في الحكم. على كل حال ما يهمنا هنا هو أن الكتاب في جوانب منه تعزيز لنظرية الاستراتيجيات العشر التي طرحها تشومسكي لسيطرة الحكومات على الشعوب. يدق الكتاب ناقوس الخطر ويحذر بأنه على مستوى العالم السيطرة الآن في المجالات السياسية والاقتصادية والفنية بل وحتى الجامعية الأكاديمية هي للتافهين. مظاهر السطحية والتفاهة والضحالة واضحة جدا في المجتمعات المعاصرة لدرجة أنها انتقلت حتى لجائزة نوبل في الأدب والتي منحت قبل فترة للمغنى (الشعبي) الأمريكي بوب ديلن مما تسبب في فضيحة أدبية وثقافية كبرى. ولهذا لا غرابة أن تجد أن للتافهين من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعية أو لنجوم (هكذا يزعمون !!) الفن والتمثيل والفاشينيستا والرياضة حضور طاغي وكاسح في جميع المجتمعات. وبعد أن يستعرض المؤلف آلان دونو دور الإعلام قديما وخصوصا التلفزيون وكيف كان يأسر المشاهدين لتتبع أدق التفاصيل التي تشغل الجماهير بالأمور التافهة، يصل الكاتب للنقطة الحاسمة وهو دور وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصا تويتر وإنستجرام ويوتيوب في (ترميز التافهين) بمعنى تحويلهم إلى رموز .. ونجوم !!.

ونختم (بقطع الاتصال) مع وسائل التواصل الإعلامية خصوصا فيما يتعلق بحالة الإدمان في متابعتها أو الانسياق في تلقف وتلقي كل ما تقذف به من السخافات والتفاهات والخزعبلات. فبالإضافة للأضرار المتداولة عن وسائل الإعلام منذ عقود عززت وسائل التواصل الاجتماعي من أعداد وحدة تلك الأضرار من مثل القلق والاكتئاب والعنف والانعزال والتفكك الأسري، بل يتزايد الحديث اليوم عن الأضرار الذهنية والعقلية لوسائل التواصل الاجتماعي.

في السابق عندما كنا نشاهد شخص بمفردة يبتسم ويضحك كنا نتهمه بالجنون والعته وللأسف هذا حال كثير منا عندما يمسك بالجوال بين يديه فيتصرف بسفاهة نتيجة للتفاهة التي يشاهدها في جواله (الذكي !!). قبل حوالي عشر سنوات نشر الكاتب الأمريكي نيكولاس كار كتابه الهام (الضحالات The shallows) والذي يناقش فيه ظاهرة الضحالة والتسطيح في التفكير التي تعاني منها عقولنا وقدراتنا الذهنية نتيجة الإفراط في استخدام الانترنت وهذه الفكرة نشرها مسبقا في مقال مطول حمل عنوان (هل قوقل Google يجعلنا أغبياء). المحزن حقا أن نيكولاس كار توصل لفكرته قبل عشر سنوات بعد رصده تأثير الإنترنت على مهارات الدماغ البشري في التركيز والتفكير والتأمل وهذا قبل أن يعم ويطم طوفان تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة والتي أصبحت في غالبها اليوم تركز على طرح (المحتوى الإعلامي) الهابط والتافهة والشاذ. أكرر اتفاقي مع ملاحظة الكتاب الإيطالي أمبيرتو إيكو: نحن في زمن (غزو البلهاء).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق