الاثنين، 21 فبراير 2022

( التفكير الناقد .. فريضة معرفية غائبة )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

نحن أهل ملة الإسلامي من أكثر البشر مطالبين بالتفكير والتحليل والتدقيق لما في ديننا الحنيف من الحث على ذلك ولهذا أصاب المفكر الكبير عباس محمود العقاد عندما اختار لأحد أبرز كتبه عنوان (التفكير فريضة إسلامية). وإن كانت الدعوة للتفكير والتأمل والاستقراء لها أهداف غائية تقود في الغالب لإنارة السبيل وهداية الدليل للوصل إلى الدين الصحيح وإتباع الشرع الحكيم، إلا أن للتفكير بالجملة أنماط متنوعة واتجاهات فكرية متعددة. ولذا سوف نقصر الحديث عن ملكة التفكير الناقد الذي يمكن توظيفه (للحكم) على الكم الهائل من الأخبار والمعلومات التي تغزونا عن طريق وسائل الإعلام الحديثة. من الناحية المبدئية يجب أن نقرر بأن التفكير كأي نشاط ذهني وسلوك نفسي قابل تماما لأن يتعرض للخل والإنحراف والتشوهات. والملفت للنظر أنه عند الرصد والتقصي سوف نجد أن جميع المجتمعات وأغلب الأفراد قد يتعرضون في لحظة ما للانحراف في طريقة تفكيرهم وحكمهم على الأمور.

خذ على ذلك مثلا ما يحصل بشكل متكرر في المجتمعات الغربية (المتقدمة والمتطورة .. زعموا) من الوقع في مهزلة قبول نظرية المؤامرة في قضايا علمية دقيقة يفترض أن تكون محسومة من منظور (التفكير العلمي). في هذه الأيام يستمر بركان جزيرة لا بالما الإسبانية في الثوران وقذف سيل الحمم المتواصل منذ أسابيع وبالرغم من أن هذا البركان هو في الأصل بركان شبه خامد وقد تكرر ثورانه مرتين في السابق إلا أن البعض في الغرب تقبل بكل يسر وصفاقة نظرية المؤامرة بأن عملية إعادة تنشيط البركان تمت بفعل فاعل وأن مجمل مسار حمم البركان قد تم تنسيقها (orchestrated). الأمر الأكثر ضجيج إعلاميا من التفجير والتثوير المتعمد لهذا البركان أن عشرات الآلاف من الأمريكان وخصوصا في الساحل الشرقي من الولايات المتحدة يشعرون بقلق كبير أن يتسبب هذا البركان انزلاقات أرضية ينتج عنها حدوث موجات تسونامي ضخمة تغرق المدن الأمريكية الساحلية. من المفترض أن (التفكير العلمي) يحسم هذا اللغط عن ثوران بركان جزيرة لا بالما فمن الناحية الجيولوجية قد سبق أن كان نشطا في عام 1949م وعام 1971م فلا شيء يمنع من أن يعاود الثوران مرة ثالثة دون الحاجة لنظرية المؤامرة. كما إن جزيرة لا بالما صغيرة وأي انزلاق للتربة من سفوح جبالها بسبب البركان لن يتسبب إلى في (طرطشة) لا تكاد تذكر على سطح المحيط الأطلسي الهائج أصلا.

الخلل في التفكير والوقوع في براثن نظرية المؤامرة تسبب قديما ويتسبب حديثا في ظهور مثل هذه المهازل في المجتمعات الغربية المتطورة والتي يفترض أن يكون مستوى الوعي والفهم العلمي لديهم متقدم. ومع ذلك تكررت في السنوات القليلة الماضية مثل هذه الأخبار المخزية من مثل موجة تحطيم وحرق أبراج جوالات الجيل الخامس كما حصل في بريطانيا بزعم أنها تقتل البشر من خلال بثها إشعاعات كهرومغناطيسية مسرطنة. ثم لاحقا انتشرت فكرة حمقاء أن أبراج الجيل الخامس تسبب الإصابة بمرض الكورونا والبعض كما هو معلوم رفض أخذ تطعيمات اللقاح ضد فيروس كوفيد 19 بزعم أن تلك اللقاحات تحتوي على شرائح الكترونية تهدف للسيطرة على البشر.

الإفراط في سهولة تقبل نظرية المؤامرة في صورها الساذجة يدل على وجود خلل في التفكير واضطراب في الإدراك ولعلم النفس محاولات متعددة لتفسير هذه الظاهرة في السلوك البشري وربطها بمنظومة من التحيزات المعرفية cognitive bias التي يمكن أن تؤدي إلى تقبل نظرية المؤامرة مثل التحيز التأكيدي والتحيز التناسبي وتصيد الاختلاف وظاهرة الاسقاط النفسي. وبحكم أن لكل ظاهرة ردة فعل مخالفة لها في الاتجاه لهذا في العقود الأخيرة ومع انتشار ظاهرة نظرية المؤامرة والتفكير السطحي نتجت ظاهرة معرفية متطرفة في الاتجاه المعاكس وهي عدم القبول (والتشكك) في أغلب ما يتم تداوله سواء كان له صبغة علمية أو سياسية أو دينية. ظاهرة الشكوكية skepticism آخذه في التزايد والتطرف في الغرب لدرجة أنها تخطت مرحلة كشف الأخبار المفبركة ونقد ما يسمى بالعلوم الزائفة ووصلت إلى الإلحاد وإنكار الأديان والمعيار الأخلاقي والإرادة الحرة.

وبالعودة إلى واقعنا المحلي ومنطقتنا العربية نجد أن تلك الفريضة الغائبة (التفكير الناقد) مفقودة بشكل مريع ومحزن ولهذا تشيع فينا ظاهرة تبادل الإشاعات والأخبار الزائفة fake news وقليل منا من يحرص على التأكد من مصداقية الإدعاءات أو يهتم بالتثبت من مصدر المعلومات أو يميز بين الحقائق والاختلاقات والفبركات.

 من المناخ إلى الاقتصاد .. فكر صح

من طبيعة التفكير الذهني والإدراكي للبشر أنه يتأثر بالعديد من العوامل والمؤثرات التي تحرفه عن التفكير السليم وغير المتحيز والمشكلة تكمن أن الشعوب الشرقية بالجملة وفي القلب منها الشعوب العربية تتسم بالتفكير العاطفي بينما الشعوب الغربية تميل أكثر للتفكير العقلاني والجدلي. على كل حال من مظاهر الخلل في التفكير لدى الشعوب العربية وجود تحيز معرفي أو إدراكي يشتهر باسم (الاحتكام إلى العتيق) appeal to antiquity بمعنى أن الأشياء والأفكار والمفاهيم القديمة والعتقية هي دائما أصح وأدق. وفي الأمور الشرعية والعقدية هذا الأمر سليم وصحيح تماما، ولكن التعود على القبول والتسليم لأمور والأخبار القديمة قد يؤدي بالشخص أن يوظف هذا السلوك في أمر ليس بالضرورة من أمور الدين والعقيدة.

كما هو معلوم من أمور العقيدة التسليم بمعجزات وخصائص الرسول الكريم في الإخبار عن المستقبل ولهذا نقبل خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأن جزيرة العرب سوف تعود مروجاً وأنهار كما كانت في الماضي. ولكن التصديق بالخبر النبوي الحق شيء وإسقاط بعض المستجدات الحديثة على هذا الخبر شيء آخر ولهذا من الملاحظ أنه خلال الأسبوع الماضي تم وبشكل مكثف جدا عبر وسائل التواصل الاجتماعي تبادل ونشر مقطع فيديو قصير يعرض فكرة مشروع (السعودية الخضراء .. وعودة الجزيرة العربية مروجا وأنهارا). بسبب العاطفة الدينية المتداخلة من المشاعر الوطنية المصاحبة للإعلان عن (مبادرة رفع نسبة الغطاء النباتي) من خلال زراعة 10 مليار شجرة تداخلت الأفكار والمفاهيم لدى البعض منا وقبل ما ورد في مقطع الفيديو بدون تدقيق أو مشاهدة ناقدة. المشروع غير الرسمي (عودة الجزيرة العربية مروجا وأنهارا) قائم بشكل أساسي على مغامرة أحداث (تغير في المناخ) على مستوى جغرافي كبير جدا وهذا أمر شبه مستحيل لأن الأجواء المناخية مفتوحة على بعضها البعض وبسبب (هجرة السحب) يصعب حصر أي تأثير مناخي في منطقة محددة. وذلك لأن علم المناخ معقد جدا ويعبر عن هذا التعقيد بما يسمى تأثير الفراشة حيث يقال إن رفرفة جناح فراشة فوق مدينة طوكيو قد تتسبب في النهاية في إحداث إعصار على مدينة سان فرانسيسكو. والمقصود أنه ربما بتأثير من التحيز المعرفي المسمى (الاحتكام للعتيق) أغلبنا لم يدقق في المحتوى العلمي لذلك المقطع وتساهل كثيرا في قبوله وإعادة نشره من باب أنه هو الطريقة التي سوف يتم من خلالها تحقيق خبر الرسول الكريم. في حين تناسينا أن التغير المناخي الناتج من التأثير البشري يتسبب في الغالب في إحداث الجفاف وقلة الأمطار كما حصل مع شبه جفاف بحر الآرال في وسط أسيا والمسمى مقبرة السفن. المبادرة الرسمية والحكومية من خلال زراعة 10 مليار شجرة هي فكرة طموحة، ولكن صعبة قد يمكن تحقيقها أما المبادرة غير الرسمية والمتخيلة بتغيير مناخ المملكة هي أمر مستحيل في الغالب والعلم عند الله.

وبالانتقال من علم المناخ الملتهب إلى علم الاقتصاد المضطرب فكما يصعب التنبؤ بالطقس لفترة طويلة ربما يستحيل التنبؤ بحركة الأسواق والبورصات المالية لفترة مديدة وهذا يسوقنا لذكر أحد الأمثلة على الاستعجال ليس فقط في نشر الأخبار، ولكن أيضا بالتعليق والتحليل لها بدون الاستعانة بمنهج (التفكير الناقد). في منصات وسائل التواصل الاجتماعي تم الأسبوع الماضي وبكثافة تداول خبر اقتصادي يتعلق بالسماح لشركات السيارات العالمية بعملية البيع في السوق المحلي بدون وكيل تجاري وطني. غالبية التعليقات على هذا الخبر كانت مؤيدة ومبالغة في تصورها للفوائد الاقتصادية لهذا الأمر وهي منساقة بدافع العاطفة الفكرية بدون أن تعطي مجال (للتفكير الناقد) حيال هذا الأمر المستجد في عالم الأعمال والتجارة الدولية. من وجهة نظري يمكن تفسير الاندفاع المبالغ فيه بالخبر غير الصحيح بإلغاء شركات وكلات السيارات بما يسمى في علم النفس بتأثير المرساة anchoring effect وهو أحد أنواع التحيزات المعرفية أو الإدراكية وسبب الخلل الفكري هنا أن المرء يصدر أحكامه انطلاقا من نقطة مرجعية معينة (مرساة) يقيس عليها جميع أحاكمه التالية. في حالة مثال شركات مصانع السيارات كانت تلك النقطة المرجعية أو (المرساة) التي استخدمها البعض في تقييمه للخبر المشكوك فيه بإلغاء الشركات المحلية لوكالات السيارات أنه هذه الوكالات تتلاعب في السعر وتقدم خدمة سيئة. قد تكون هذه التهمة صحيحة أو قد لا تكون، ولكن كما ذكرنا سابقا أن علم المناخ معقد جدا وتتداخل فيه عوامل مؤثرة كثيرا فكذلك علم بيئة الاقتصاد والتجارة الدولية معقدة كذلك وتؤثر عليها عوامل متعددة. بمعنى أنه لو ألغيت الشركات المحلية لوكالات السيارات فمن المحتمل أن تنخفض أسعار بيع السيارات شيئا ما، لكن بمخاطرة كبيرة جدا أن نفقد جودة خدمة ما بعد البيع والصيانة والتأمين الهامة في قطاع السيارات وذلك بسبب الشركات المصنعة الدولية ليس لها بنية تحتية في البلد.

من جانب آخر لماذا في المجتمعات الغربية الرأسمالية ذات الأسواق الحرة المفتوحة لم تقم شركات تصنيع السيارات الكبرى بعملية البيع المباشر بدون وجود وسيط تجاري (وكلاء السيارات car dealership). وللدلالة على تعقيد عالم الاقتصاد نجد أن المفكر الأسكتلندي آدم سمث مؤسس علم الاقتصاد الحديث ذكر في كتابه المشهور (ثروة الأمم) أن عملية تصنيع المسمار العادي تمر بحوالي 18 مرحلة يتم تنفيذها من قبل عدة عمال. وإذا علمنا أن السيارة الحديثة في المتوسط مكونه من حوالي 30 ألف قطعة مختلفة تبين لنا لماذا في الغالب أن شركات تصنيع السيارات لا تدخل في دوامة التسويق والبيع المباشر للزبائن لأنها في الأصل مشغولة بعملية التصنيع للموديلات والماركات المختلفة من السيارات وهذا يتطلبها لتصنيع مئات الألاف من هذه القطع الصغيرة أن تتعاون (من الباطن) مع مئات الشركات والمصانع الصغرى من شتى بقاع العالم. ولهذا ربما من المستحيل أن تتولى شركات تصنيع السيارات بنفسها جميع مراحل المتاجرة بالسيارات من تصنيع وشحن وتوزيع وتأمين وصيانة. من هذا وذلك هل بالفعل سوف نجد المستهلك في نهاية المطاف سوف يربح أو يخسر لو تم إلغاء الوكيل التجاري المحلي ومن هنا ومع الأخذ بعين الاعتبار الاقتصاد الكلي يمكن الحكم السليم على هذا الموضوع التجاري بدل الإفراط في الجزئيات والتركيز على (مرساة) واحدة فقط هي النفور من شركات وكالات السيارات.

ما سبق كان فقط محاولة عامة لبيان أهمية تفعيل طريقة التفكير الناقد فيما يتم تداوله في شبكات التواصل الإعلامية والمجال لا يتسع لذكر تفاصيل نقد ظاهرة التساهل في نقل الأخبار المزيفة كما حصل الأسبوع الماضي من التحذير من شحنة موز قادمة من الصومال وملوثة بدودة اسمها (هيلوكوبتر !!) تتسبب بالوفاة خلال 12 ساعة بسبب الموت الدماغي !!. وبالرغم من صيغة الخبر المتعمد أن تكون سخيفة وسطحية إلا أن البعض منا وبكل طيبة وحسن نية يقوم بإعادة نشر الخبر من باب فعل الخير وتحذير المسلمين من خطر وهمي وربما يعود سبب الخلل في طريقة التفكير لدى هؤلاء راجع للخل المعرفي المعروف باسم (الواقعية الساذجة naive realism). وإلى حدا ما يمكن تفسير التساهل الكبير في تبادل ونشر الأخبار والمعلومات المتعلقة بالوصفات الصحية الشعبية في علاج الأمراض إلى نفس ظاهرة ضعف التفكير الناقد والتمحيص والتدقيق في خطورة هذه الوصفات الطبية الوهمية.

 بقي أن أقول في الختام أن الخلل في التفكير مثله مثل الذنوب الخطايا لا يسلم منه أحد فكما أننا كلنا نقع في الذنوب فكذلك كلنا نقع في الخلل في التفكير ومع ذلك الذنوب درجات منها الكبائر ومنها الصغار ومنها اللمم. ولهذا فيما يخص الوقع في الخلل في التفكير ينبغي قدر المستطاع أن نفعل درع الحماية (التفكير الناقد) حتى لا نقع في كبائر الخلل الفكري وكذلك كما أنه يٌحثّ على الاستغفار من الذنوب فكذلك يٌحثّ على الأوبة والتوبة من الاستمرار في الوقع في منزلقات فكرية خاطئة في جميع المجالات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو الإعلامية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق