الاثنين، 21 فبراير 2022

( الانقلابات العسكرية .. تاريخ أسود )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 بدون منازع يستحق السودان بكل أسف لقب (أرض العسكر) بدلا من وصف (جمهورية السودان) فبعد حصول ست انقلابات عسكرية ناجحة وثمان محاولات انقلابية فاشلة يبدو أن أهلنا الكرام في السودان عاشوا أغلب حياتهم وهم يرزحون تحت قهر الجنرالات والجنود. المحزن حقا أن التاريخ العربي في القديم والحديث عانى من ويلات ومصائب حكم العسكر الذي تسبب في إضعاف الأمة العربية بل وحتى المساهمة في إسقاط العديد من الخلافات الإسلامية والممالك العربية.

صحيح أن أبرز ما يميز الحياة العسكرية هو الانضباط والطاعة إلا أن القوة المفرطة تشجع على الانفلات والاستفراد بالسيطرة ولهذا تكرر كثيرا ومنذ فجر البشرية قيام الجنود والقادة العسكريين في كل الحضارات بالانقلاب على السلطة وتولى زمام الأمور بالقوة.

فهذا مثلا الجنرال الروماني لوسيوس سولا في القرن الأول قبل الميلاد انقلب على الإمبراطور الروماني غايوس وطرده من الحكم وحلّ محله في حين أن القائد العسكري الصيني يوان شو قام في القرن الثاني بعد الميلاد بانقلاب عسكري أوصله إلى عرش الإمبراطورية الصينية القديمة. والطريف في الأمر أن منطقتنا العربية مرتبطة بتاريخ الانقلابات العسكرية لدرجة أن أقدم انقلاب عسكري تم توثقه في سجلات التاريخ هو ما حصل على أرض فلسطين. وهذا ما حصل في مملكة يهوذا القديمة عام 876 قبل الميلاد عندما قام القائد العسكري اليهودي زمري بانقلاب على الملك الإسرائيلي أيله فقتله وجميع أفراد أسرته ثم تولى الملك من بعده لكنه حكم لمدة سبعة أيام فقط وفق ما ذكر في قصته الواردة في التوراة في سفر الملوك الأول.

من هذا وذاك يتبن أن الانقلابات العسكرية عامل ومؤثر قبيح منذ الأزل ساهم في تشكيل مجرى التاريخ وليس ظاهرة حديثة في القرون الأخيرة بعد استحداث الجيوش النظامية المعاصرة. وبالعودة للتاريخ الإسلامي القديم نجد أن الثورات والقلاقل والنزاعات الأهلية مبكرة في تاريخنا أمتنا لحكمة أرادها الله منذ مقتل الخليفة الفاروق عمر والثورة على الخليفة ذو الحياء والنورين عثمان.

أما فيما يتعلق بالانقلابات العسكرية على السلطة الحاكمة فأول ما ظهرت في زمن بدء ضعف الخلافة العباسية وبالتحديد زمن الخليفة العباسي المتوكل الذي يوصف بأنه باغتياله بدأت كارثة (عسكرة الدولة) لأول مره في التاريخ الإسلامي. في زمن الخليفة المعتصم كثرت الاضطرابات الداخلية المزلزلة لحكمة ولهذا نقل عاصمة الخلافة من مدينة بغداد إلى مدينة سُرّ من رأي (سامراء) وكذلك اتخاذ الخطوة الأخطر وهي استجلاب جنود مرتزقة من الأتراك لحماية عرشه. مع الوقت تزايدت سلطة وهيمنة أولئك الجنود المرتزقة لدرجة أنهم بدوءا يتدخلون في شؤون الملك ويقررون من سوف يتولى منصب ولاية العهد من أبناء الخليفة المتوكل. وعندما شعر قادة عسكر الترك أن الخليفة المتوكل على وشك الفتك بهم انقلبوا عليه وأعدموه هو ووزيره الفتح بن خاقان. وبهذا بدأ مسلسل قتل وتعذيب وسجن خلفاء بني العباس على يد العسكر الذي اُستجلبوا أصلا لكي يكون حماية ودرع لهم ضد الفتن الداخلية. الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية والتعذيب والتنكيل وقعت على كوكبة من الخلفاء العباسيين مثل الخليفة المنتصر الذي خلع وقتل وهو ما تكرر مع الخلفاء: المستعين بالله والمعتز بالله (الشاعر الأديب الذي حكم يوم واحد فقط) والمهتدي بالله والقاهر بالله والمتقي لله والمستكفي بالله.

 هذه الفوضى والخراب المتواصل التي نتجت من عسكرة الخلافة تسببت في اضعاف هائل للدولة الإسلامية أثمر في خاتمة المطاف سقوط الخلافة بعد أن سهام جنود البويهيون وعسكر السلاجقة في مزيد من تهميش دور ونفوذ الخلفاء في الحكم. وكما تسبب عسكر الترك في زوال ملك وحكم الخلافة العباسية تسبب عسكر المماليك وجنود الشراكسة في زوال ملك الدولة الأيوبية. وهنا نجد أن آخر سلاطين بني أيوب وهو الملك الصالح نجم الدين أيوب يكرر نفس الخطأ القاتل الذي وقع فيه الخليفة المعتصم عندما استجلب جنود الترك لحمايته وهنا نجد الملك نجم الدين أيوب استجلب عدد كبير من هؤلاء المماليك. وكما ضايق عسكر الترك أهل بغداد فأخرجهم الخليفة المعتصم إلى مدينة سامراء نجد أن جنود المماليك يضايقون أهل القاهر ولذا أخرجهم نجم الدين أيوب إلى جزيرة الروضة في طرف النيل. وحذوا القذة بالقذة كان سلوك أهل العسكر في الوقع في شهوة السيطرة والحكم وكما تدخل أسلافهم في اختيار خلفاء بني العباس تدخل جنود المماليك في اختيار ملوك بني أيوب. ثم حصل أخيرا القفز والاستيلاء الصريح على الملك وانهاء الدولة الأيوبية على يد المملوك الظاهر بيبرس الذي تم شراؤه أصلا وهو طفل من أرض القوقاز لكي يصبح حارس وجندي حماية للملوك بني أيوب وإذا به في خاتمة المطاف يساهم في خلع وقتل الملك الأيوبي الأخير توران شاه ابن نجم الدين أيوب.

وكما حصل وأن قتل عدد من الخلفاء على يد العسكر في بغداد حصل نفس الأمر مع سلاطين القاهرة الذين قتلوا على يد جنودهم ومنهم السلطان صلاح الدين خليل الملقب بالأشرف والسلطان بدر الدين بيدرا والسلطان حسام الدين لاجين والسلطان فرج بن برقوق. وبالجملة من يطلع على كتاب (السلوك لمعرفة دول الملوك) للمؤرخ المصري الكبير تقي الدين المقريزي سوف يذهل من كثرة المؤامرات والانقلابات التي كان يقوم بها جنود المماليك ضد سلاطينهم وحكامهم. فمثلا خلال زمن دولة المماليك البحرية وخلال عشرين سنة فقط من وفاة السلطان الناصر محمد تولى منصب السلطنة ثمانية من أولاده وفي عصر دولة المماليك البٌرجية كانت مجموع فترة حكم 14 سلطانا تسع سنوات فقط ولهذا تكرر كثيرا أن يكون فترة حكم بعض السلاطين شهور قليلة فقط قبل أن تتم الإطاحة بهم.

للأسف الشديد تكررا كثيرا في التاريخ الاسلامي تدخل العسكر في السياسية من خلال الانقلابات العسكرية وإحدى أشنع تلك الفترات السوداء في تاريخنا الإسلامي ما حصل من سطوة فرقة جنود الإنكشارية في الجيوش العثمانية. كانت فكرة سلاطين الدولة العثمانية من إيجاد قوات الإنكشارية أنه يتم من خلالهم ضمان الولاء المطلق للسلطان وذلك لأن أفراد الإنكشارية هم في الأصل أطفال وغلمان أسرى الحرب الذين يفصلون عن عوائلهم ويتم تربيتهم على أن يكون السلطان هو والدهم الروحي ورب أسرتهم الوحيد. وكما حدث مع عسكر الترك في بغداد وجنود المماليك في القاهرة حصل مع عسكر الإنكشارية في إسطنبول فعندما ضعفت الدولة العثمانية بدؤوا في التدخل في الحكم من خلال الانقلابات العسكرية. وكما حصل في السابق من عزل وخلع وقتل خلفاء بني العباس وبني أيوب حصل نفس الأمر مع سلاطين بني عثمان فخلع وقتل على يد جنود الإنكشارية السلطان عثمان الثاني والسلطان إبراهيم الأول والسلطان سليم الثالث والسلطان مصطفى الرابع.

وبحكم أننا ما زلنا في ذكر إسطنبول فلا يجدر أن نغادر قبل أن نشير لأخطر الانقلابات العسكرية على الإطلاق في التاريخ الإسلامي ألا وهو الذي أدى في نهاية الأمر إلى إلغاء الخلافة الإسلامية. في عام 1909م تحركت كتيبة جنود من الجيش الثالث العثماني بقيادة الضابط العسكري محمود شوكت باشا وسيطرت على مدينة إسطنبول واحتلت قصر الحكم وقامت بخلع السلطان عبد الحميد الثاني والذي يعتبر تقريبا هو آخر سلطان فعلي للدولة العثمانية. بينما كل من جاء بعده بمن فيهم السلطان عبد المجيد الثاني كان فقط لهم سلطة أسمية بينما الحكم الحقيقي في يد جنرالات الجيش التركي من مثل أنور باشا وجمال باشا. بعد ذلك بسنوات وفي عام 1923م ومستندا إلى سلطته الحربية الطاغية أعلن القائد العسكري مصطفى كامل أتاتورك ألغاء السلطنة العثمانية وأصدر دستور جديد وأعلن عن قيام الجمهورية التركية وبعد ذلك بحوالي سنة حصلت الكارثة الكبرى عندما ألغيت الخلافة الإسلامية بشكل نهائي.

 وبعد هذا التطواف في التاريخ الأسود البغيض للانقلابات العسكرية في غابر تاريخنا العربي والإسلامي كان حتما علينا أن نصل بين الماضي والحاضر ببيان أنه كما حصل أول انقلاب عسكري قديم في بغداد فكذلك حصل أو انقلاب عسكري في زمنا المعاصر في بغداد. وهذا الإثم اجترحه رئيس أركان الجيش العراقي الفريق بكر صدقي الذي قام بمحاولة انقلاب في عام 1936م ضد الملك غازي بن فيصل الهاشمي. من المخزي أن نعلم أن عدد الانقلابات العسكرية في العالم العربي تجاوزت الستين انقلابا والتي عانت منها حوالي ثلاثة عشر دولة عربية وعدد كبير من هذه الانقلابات العسكرية حدثت مباشرة بعد استقلال الدول العربية من الاحتلال الأجنبي مما أعاق كثيرا حركة التنمية الحضارية للشعوب العربية. الجدير بالذكر أن دول بارزة مثل أسبانيا والبرازيل والمكسيك والأرجنتين وتركيا وإندونيسيا عندما كانت في فترة ما ترزح تحت الحكم العسكري الاستبدادي كانت دول فاشلة ومنقسمة ومتخلفة حضاريا وتقنيا واقتصاديا. ولكن بعد التخلص من الحكم العسكري السلطوي الغاشم أصبحت نفس تلك الدول تنعم بالتقدم الاقتصادي والازدهار التنموي وهي حاليا من أعضاء مجموعة العشرين G20 لأكثر الدول في العام رخاء اقتصادي.

 وفي الختام لا بد أن نفرق بين تقديرنا وإجلالنا للجنود والضباط المرابطين على الحدود والقائمين على حماية الأوطان وحفظ الأمن والسلم العام وبين تلك الطغمة من العساكر التي غادرت معسكراتها طمعا في السيطرة على الحكم وقهر الشعوب بالحديد والنار.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق