د/ أحمد بن حامد الغامدي
صحيح أن أبرز ما يميز الحياة العسكرية هو
الانضباط والطاعة إلا أن القوة المفرطة تشجع على الانفلات والاستفراد بالسيطرة ولهذا
تكرر كثيرا ومنذ فجر البشرية قيام الجنود والقادة العسكريين في كل الحضارات بالانقلاب
على السلطة وتولى زمام الأمور بالقوة.
فهذا مثلا الجنرال الروماني لوسيوس سولا في
القرن الأول قبل الميلاد انقلب على الإمبراطور الروماني غايوس وطرده من الحكم وحلّ
محله في حين أن القائد العسكري الصيني يوان شو قام في القرن الثاني بعد الميلاد
بانقلاب عسكري أوصله إلى عرش الإمبراطورية الصينية القديمة. والطريف في الأمر أن
منطقتنا العربية مرتبطة بتاريخ الانقلابات العسكرية لدرجة أن أقدم انقلاب عسكري تم
توثقه في سجلات التاريخ هو ما حصل على أرض فلسطين. وهذا ما حصل في مملكة يهوذا
القديمة عام 876 قبل الميلاد عندما قام القائد العسكري اليهودي زمري بانقلاب على الملك
الإسرائيلي أيله فقتله وجميع أفراد أسرته ثم تولى الملك من بعده لكنه حكم لمدة
سبعة أيام فقط وفق ما ذكر في قصته الواردة في التوراة في سفر الملوك الأول.
من هذا وذاك يتبن أن الانقلابات العسكرية
عامل ومؤثر قبيح منذ الأزل ساهم في تشكيل مجرى التاريخ وليس ظاهرة حديثة في القرون
الأخيرة بعد استحداث الجيوش النظامية المعاصرة. وبالعودة للتاريخ الإسلامي القديم
نجد أن الثورات والقلاقل والنزاعات الأهلية مبكرة في تاريخنا أمتنا لحكمة أرادها
الله منذ مقتل الخليفة الفاروق عمر والثورة على الخليفة ذو الحياء والنورين عثمان.
أما فيما يتعلق بالانقلابات العسكرية على السلطة
الحاكمة فأول ما ظهرت في زمن بدء ضعف الخلافة العباسية وبالتحديد زمن الخليفة
العباسي المتوكل الذي يوصف بأنه باغتياله بدأت كارثة (عسكرة الدولة) لأول مره في
التاريخ الإسلامي. في زمن الخليفة المعتصم كثرت الاضطرابات الداخلية المزلزلة
لحكمة ولهذا نقل عاصمة الخلافة من مدينة بغداد إلى مدينة سُرّ من رأي (سامراء)
وكذلك اتخاذ الخطوة الأخطر وهي استجلاب جنود مرتزقة من الأتراك لحماية عرشه. مع
الوقت تزايدت سلطة وهيمنة أولئك الجنود المرتزقة لدرجة أنهم بدوءا يتدخلون في شؤون
الملك ويقررون من سوف يتولى منصب ولاية العهد من أبناء الخليفة المتوكل. وعندما
شعر قادة عسكر الترك أن الخليفة المتوكل على وشك الفتك بهم انقلبوا عليه وأعدموه هو
ووزيره الفتح بن خاقان. وبهذا بدأ مسلسل قتل وتعذيب وسجن خلفاء بني العباس على يد
العسكر الذي اُستجلبوا أصلا لكي يكون حماية ودرع لهم ضد الفتن الداخلية. الانقلابات
العسكرية والاغتيالات السياسية والتعذيب والتنكيل وقعت على كوكبة من الخلفاء
العباسيين مثل الخليفة المنتصر الذي خلع وقتل وهو ما تكرر مع الخلفاء: المستعين
بالله والمعتز بالله (الشاعر الأديب الذي حكم يوم واحد فقط) والمهتدي بالله
والقاهر بالله والمتقي لله والمستكفي بالله.
وكما حصل وأن قتل عدد من الخلفاء على يد
العسكر في بغداد حصل نفس الأمر مع سلاطين القاهرة الذين قتلوا على يد جنودهم ومنهم
السلطان صلاح الدين خليل الملقب بالأشرف والسلطان بدر الدين بيدرا والسلطان حسام
الدين لاجين والسلطان فرج بن برقوق. وبالجملة من يطلع على كتاب (السلوك لمعرفة دول
الملوك) للمؤرخ المصري الكبير تقي الدين المقريزي سوف يذهل من كثرة المؤامرات والانقلابات
التي كان يقوم بها جنود المماليك ضد سلاطينهم وحكامهم. فمثلا خلال زمن دولة
المماليك البحرية وخلال عشرين سنة فقط من وفاة السلطان الناصر محمد تولى منصب
السلطنة ثمانية من أولاده وفي عصر دولة المماليك البٌرجية كانت مجموع فترة حكم 14
سلطانا تسع سنوات فقط ولهذا تكرر كثيرا أن يكون فترة حكم بعض السلاطين شهور قليلة
فقط قبل أن تتم الإطاحة بهم.
للأسف الشديد تكررا كثيرا في التاريخ
الاسلامي تدخل العسكر في السياسية من خلال الانقلابات العسكرية وإحدى أشنع تلك الفترات
السوداء في تاريخنا الإسلامي ما حصل من سطوة فرقة جنود الإنكشارية في الجيوش
العثمانية. كانت فكرة سلاطين الدولة العثمانية من إيجاد قوات الإنكشارية أنه يتم
من خلالهم ضمان الولاء المطلق للسلطان وذلك لأن أفراد الإنكشارية هم في الأصل
أطفال وغلمان أسرى الحرب الذين يفصلون عن عوائلهم ويتم تربيتهم على أن يكون السلطان
هو والدهم الروحي ورب أسرتهم الوحيد. وكما حدث مع عسكر الترك في بغداد وجنود المماليك
في القاهرة حصل مع عسكر الإنكشارية في إسطنبول فعندما ضعفت الدولة العثمانية بدؤوا
في التدخل في الحكم من خلال الانقلابات العسكرية. وكما حصل في السابق من عزل وخلع
وقتل خلفاء بني العباس وبني أيوب حصل نفس الأمر مع سلاطين بني عثمان فخلع وقتل على
يد جنود الإنكشارية السلطان عثمان الثاني والسلطان إبراهيم الأول والسلطان سليم
الثالث والسلطان مصطفى الرابع.
وبحكم أننا ما زلنا في ذكر إسطنبول فلا يجدر
أن نغادر قبل أن نشير لأخطر الانقلابات العسكرية على الإطلاق في التاريخ الإسلامي
ألا وهو الذي أدى في نهاية الأمر إلى إلغاء الخلافة الإسلامية. في عام 1909م تحركت
كتيبة جنود من الجيش الثالث العثماني بقيادة الضابط العسكري محمود شوكت باشا وسيطرت
على مدينة إسطنبول واحتلت قصر الحكم وقامت بخلع السلطان عبد الحميد الثاني والذي
يعتبر تقريبا هو آخر سلطان فعلي للدولة العثمانية. بينما كل من جاء بعده بمن فيهم السلطان
عبد المجيد الثاني كان فقط لهم سلطة أسمية بينما الحكم الحقيقي في يد جنرالات
الجيش التركي من مثل أنور باشا وجمال باشا. بعد ذلك بسنوات وفي عام 1923م ومستندا
إلى سلطته الحربية الطاغية أعلن القائد العسكري مصطفى كامل أتاتورك ألغاء السلطنة
العثمانية وأصدر دستور جديد وأعلن عن قيام الجمهورية التركية وبعد ذلك بحوالي سنة
حصلت الكارثة الكبرى عندما ألغيت الخلافة الإسلامية بشكل نهائي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق