الاثنين، 21 فبراير 2022

( الشذوذ الجنسي .. من الرفض إلى الفرض )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 نقاط الاختلاف بين النظام النازي الألماني والنظام الملكي البريطاني متعددة وشاملة وربما لا يكاد يجمعهما أي مجال للاتفاق باستثناء معاداة الشيوعية وتجريم الشذوذ الجنسي. وكما هو معلوم في فترة ما كان الإنجليز والروس الشيوعيين حلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية وبهذا لا يتبقى من عوامل الالتقاء بين ألمانيا النازية وإنجلترا الأنجلوسكسونية إلا تجريم الشذوذ الجنسي. بالرغم من المزاعم غير الثابتة أن لكلا من أدولف هتلر الألماني وونستون تشرشل البريطاني كان لهما في أوائل شبابهما ميول جنسية شاذة إلا أن من المؤكد أن الفوهرر الألماني هتلر حارب بقبضة من حديد الشذوذ حيث أمر بمحاكمة ما يزيد عن خمسين ألف من الشواذ الألمان والذين زج بهم في معسكرات الاعتقال الرهيبة. بل أن هتلر أمر بشكل مباشر بقتل وتصفية العديد من الشواذ ممن اكتشف وجودهم في الحزب النازي نفسه أو من كبار الضباط في جهاز الشرطة العسكرية السرية الجيستابو.

أما في بريطانيا ومنذ زمن الملك هنري الثامن في مطلع القرن السادس عشر الميلادي كان يحكم بالإعدام على كل من يتهم بممارسة اللواط وبالرغم من أن الحكم خفف بعد ذلك بقرون إلى مجرد السجن إلا أن اعتبار الشذوذ الجنسي جريمة يعاقب عليها القانون استمر حتى عام 1967ميلادي. وما يهمنا هنا بالعودة للعداء التاريخي بين ألمانيا النازية والمملكة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية أن الألمان كادوا يحتلون الجزر البريطانية لولا جهود سلاح الطيران الملكي البريطاني الذي مدح تشرشل شجاعة مقاتليه في خطبته العصماء المشهورة عندما قال: لم يحدث في ميدان الصراع الإنساني أن العديد مدين بالكثير لقلة قليلة. وإذا كان تشرشل أرجع الفضل في نجاة الأمة البريطانية من غزو الألمان إلى بسالة فرق الطيران الملكي فهو كذلك لم يغفل الخدمة العسكرية الفريدة التي قام بها عالم الرياضيات البريطاني آلان تورنغ الذي مدحه تشرشل بقوله (إن آلان تورنغ قدم أكبر مساهمة فردية في انتصار الحلفاء في الحرب ضد ألمانيا النازية).

من الألقاب التي يوصف بها آلان تورنغ أنه أبو علوم الكومبيوتروقد اعتبرته مجلة التايم الأمريكية في عام 1999م أحد أهم مئة شخص في القرن العشرين كما أُصدرت قبل شهور قليلة أكبر علمية ورقية في بريطانيا (من فئة 50 جنيه إسترليني) وهي تحمل صورة آلان تورنغ. والسبب في هذه المكانة التاريخية المميزة له أنه استطاع تطوير تقنيات حاسوبية تمكن من خلالها مع فك شفرات جهاز التشفير الألماني الأسطوري المسمى (إنغما) والذي كان يستخدم للتواصل المشفر عبر الرسائل السرية بين قطاعات الجيش النازي وهذا الاختراق ساعد في تسريع هزيمة الجيوش النازية. وبالرغم من آلان تورنغ ساهم بشكل حاسم في تقدم قوات الحلفاء لأنها كانت تعرف مسبقا الخطط والمعلومات السرية الحربية للعدو النازي إلا أنه عندما اكتشف بمحض الصدفة عام 1952م أنه شاذ جنسيا تم في حينها التجاهل التام لجميع الخدمات الكبرى التي قام بها في حماية الأمة البريطانية. في ذلك الوقت كانت ممارسة الشذوذ الجنسي تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون ولهذا تم فصل تورنغ من عمله ومن التدريس بجامعة مانشستر كما صدر عليه حكم المحكمة إما أن يسجن عدد من السنين أو تتم عملية الأخصاء الكيميائي له بحيث يفقد ذكورته. وبعد أن استمر تورنغ في تلقى حقن الهرمونات الأنثوية ساءت حالته النفسية ووضعه الصحي وتوفي بعد سنة واحدة فقط من الحكم المذل عليه وهو بعد في سن مبكر نسبيا أي في مطلع الأربعينات.

 الشذوذ التاريخي في قصة الشواذ

ما سبق على طول المحتوى المعروض كان المقصود منه إعطاء لمحة خاطفة وإضاءة كاشفة للنفور والرفض الراسخ لأغلب شعوب ودول ودساتير العالم للأفعال الفاضحة للشذوذ الجنسي.  وفي فترة الثمانينات من القرن العشرين ومع بداية تفشي مرض الإيدز ذو الأسباب الجنسية زاد الرفض والاحتقار للشواذ جنسيا. بل وحتى فترة قريبة نجد أن الغالبية الكاسحة من البشر تستنكر هذا الخلق ولهذا تشير الإحصاءات الرسمية في المجتمع الأمريكي أن أكثر من خمسين بالمائة من الحوادث والاعتداءات التي مصدرها الكراهية hate crimes تكون موجه ضد الشواذ جنسيا أكثر مما توجه ضد الآخر المختلف في لون البشرة أو الدين أو الأصول العرقية. وهنا نصل لرصد الظاهرة الفريدة في التاريخ البشري وهي أنه بعد قرون متطاولة بل ومنذ فجر التاريخ في رفض ومحاربة الشذوذ وإذا بنا فجأة وفي فترة زمنية قصيرة نجد بدلاً من (الرفض) من يحاول (فرض) القبول بالشذوذ الجنسي وإزالة كافة الحواجز المانعة منه.

في نهاية الستينات من القرن الماضي بدأت إرهاصات تغير الموقف من قبول حقوق السود وقبول ما يزعم بالإفك والبهتان حقوق الشواذ. كما هو معلوم القاعدة العامة في صيرورة المسيرة البشرة (أن الحقوق تُنتزع ولا ُتمنح) ولابد لنيل الحقوق من النضال في ميادين التضحية. ولنجري مقارنة بين المغالبة والتضحية في نيل حقوق السود ونيل الحقوق المزعومة لأهل الشذوذ. فمثلا في جنوب إفريقيا حصل في عام 1960م مذبحة مدينة شاربفيل التي قتل فيه رجال الشرطة حوالي سبعين شخصا من بين عشرات الآلاف للأفراد المجتمعين في مظاهرة ضد القوانين العنصرية ضد السود. وفي نفس السياق وفي التاريخ الأمريكي نجد أن يوم السابع من شهر مارس لعام 1965م يسمى بيوم (الأحد الدامي) وذلك بعد قيام رجال الشرطة بالاعتداء العنيف والقاتل ضد مئات الأشخاص الذين كانوا ينظمون في ولاية ألاباما مسيرة سلمية احتجاجية ضد القوانين العنصرية ضد السود. بمثل هذا النضال في انتزاع الحقوق عبر الدماء والدموع أصبحنا جميعا نعرف أسماء رموز وأبطال حركة المطالبة بالحقوق المدنية في جنوب أفريقيا وأمريكا من مثل المشاهير نيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس وسيدة الحافلة روزا باركس.

وفي المقابل نجد أنه في الولايات المتحدة وبدون مقدمات أو مسيرات تم في عام 1962م إلغاء قانون قديم يجرم سلك الشذوذ الجنسي ويحكم بالسجن لمدة عشر سنوات لمن يقترف ذلك. الغريب في الأمر أن إلغاء هذا القانون الأمريكي الصارم وكذلك القوانين البريطانية التي ذكرنا سابقا أنها ألغيت في عام 1967م كلها جاءت وكأنها (حقوق تُمنح ولا تُنتزع). وهذا محل الغرابة و(الشذوذ) في تاريخ مسيرة الأفكار والأفعال التي تخالف بشكل جذري عقيدة وقناعات الشعوب ففي العادة لا يتم قبول هذه المتغيرات الفكرية والسلوكية إلا بعد ممانعة وشراسة في الرفض. الأمر الشاذ في قصة تمكين الشواذ أنهم على خلاف الحركات المطالبة بحقوق السود أو حقوق العمال أو حقوق الأقليات أو حقوق المساجين وغيرها من الحركات المطالبة بالحقوق المدنية لم يظهر منهم رموز مناضلين ذوي شهرة دولية. وفي حين كانت مظاهرات ومسيرات المطالبين بحقوق السود تقابل بالرصاص والعنف القاتل لرجال الشرطة نجد أنه في عام 1970م ومع انطلاق مسيرات ومظاهرات الشواذ واللوطيين لأول مرة بشكل علني في شوارع المدن الأمريكية الكبرى كان جهاز الشرطة هو من يوفر لهم الحماية.

في الواقع أمر محير جدا تحول المجتمعات الغربية في زمن قصير نسبيا من شعوب رافضة للشذوذ الجنسي إلى شعوب وأنظمة متقبلة له بل ومدافعة بحماس عن الشذوذ وهذا ولا شك يثير الريبة والتساؤل عن الأيدي الخفية المحتملة التي خدعت وغررت الشعوب الغربية بقبول الشذوذ تحت حجة الليبرالية والتسامح. وهذا ربما يستدعي إلى الذاكرة حصول ذلك التغير المفاجئ والعميق في نفس تلك المجتمعات الغربية فيما يتعلق بالنظرة نحو اليهود وتشريع القوانين المدافعة عنهم والمعروفة بقوانين معاداة السامية.

الأمر الشاذ الآخر في قصة الشواذ أنه في العادة في حرب الأفكار والمعتقدات تلجأ الدول أو المنظمات إلى محاولة الغزو الفكري والأخلاقي وذلك من خلال إفساد وإشاعة الاضطراب في أيدولوجيات وسلوك الشعوب المعادية لها.  ولكن في حالة (نشر) الشذوذ الجنسي تقريبا نجد أن دائرته الأصلية والعميقة هي في صلب المجتمعات الغربية وبالذات الدول البروتستنتية بل إن الشذوذ الجنسي في أمريكا يحصل بنسبة تفوق 80%  بين الرجال البيض بينما هي فقط في حدود 6% في مجتمع السود. وإذا كان ذلك كذلك فلماذا تتم المؤامرة من داخل المجتمع الغربي لإفساده وتجريفه من الداخل بمثل هذا الانحراف السلوكي المزلزل. في السابق كانت مدينة سان فرانسيسكو توصف بأنها معقل الشواذ واللوطيين في أمريكا بينما نجد أنه ونتيجة لتفشي هذا الوباء السلوكي أقيم في مدينة نيويورك في عام 2019م مسيرة حاشدة للشواذ شارك فيها أكثر من أربعة ملايين شخص. ومنذ عقود كانت توصف مدينة تل أبيب عاصمة الكيان الصهيوني بأنها (جنة الشواذ) وقد أقيم فيها قبل فترة مسيرة وتجمع للشواذ شارك فيه أكثر من ربع مليون مأفون. ومن شدة وشناعة شيوع تيار الشذوذ والداعمين له في الغرب تحولت الموجه عندهم من مجرد التسامح مع الشذوذ بأنه مرض نفسي وأنتقل حال لوصف من يحذر من الشذوذ بأنه هو المصاب باضطراب وخلل ورهاب نفسي أطلقوا عليه تسمية (رهاب المثلية Homophobia) وكأن حالة النفور والرفض للشواذ هو خوف غير منطقي وسببه خلل نفسي.

 بقي أن نقول وفيما يخص مجتمعاتنا العربية والإسلامية فنحن على مشارف أزمة حقيقة وكارثة مفزعة فيما يخص إرهاصات تغلغل وتسلل هذا الداء السلوكي والاجتماعي والنفسي الخطير. وخطورة هذا التسلل للسلوك الشاذ أنه يتم من خلال المجالات ذات الجذب العالي لشرائح المراهقين والشباب مثل الفعاليات الرياضية والمسلسلات والأفلام السينمائية (شبكة نيتفلكس نموذجا) أو الحفلات الغنائية (كمثل فرق البوب الكورية). الأخطر من ذلك تنامي اختلال التفكير العقائدي والتصور المعرفي بتبرير التغير في الحكم على سلوك الشذوذ الجنسي وبأنه حالة مرضية نفسية أو أنه غير متحكم به لأنه ناتج من اختلاف في الجينات الوراثية المحددة للسلوك.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق