د/ أحمد بن حامد الغامدي
المال عصب الحياة وبشكل (مادي) وملموس يعتبر بحق (رأس مال) الحضارات ومن هنا لم يبتعد كارل ماركس كثير عن الحقيقة في كتابه (رأس المال) عندما قال: الاقتصاد هو العامل الأساسي في تشكيل الحياة. وبالرغم من الدور الجوهري للمال والاقتصاد في تشكيل التاريخ البشري إلا أن دراسة وتحليل ومحاولة فهم آليات وميكانزمات الاقتصاد تأخرت كثيرا في مسيرة الحضارة البشرية على خلاف ما هو الحال مع الدين والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع. في وقت متأخر من التاريخ الإنساني أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بدأ يظهر أشخاص وباحثين يمكن أن يتم وصف أحدهم بأنه عالم اقتصاد economist مثل عالم الاقتصاد الفرنسي فرانسوا كيناي صاحب (الجدول الاقتصادي). أما أهم شخصية في مجال الاقتصاد وهو آدم سميت الملقب بأبي علم الاقتصاد فهو في الأساس فيلسوف أسكتلندي ومن منطلق محاولة فهمة وتحليله لأثر الثورة الصناعية التي ولدت في الجزر البريطانية حاول من خلال كتابه الذائع الصيت (ثروة الأمم) الذي نشره عام 1776م أن يضع لبنات وقواعد فهم عمل الاقتصاد بالرغم من أنه توصل في النهاية إلى أنه أمر قد يصعب إدراكه وأن (يد خفية) هي من تقود المجتمع المالي.
القفزة الكبرى التالية التي حصلت في محاولة فهم
آليات عمل عالم المال والأعمال التجارية هي تلك التي القفزة التي توقف عندها إدراك
ومعرفة أغلب الناس عن علم الاقتصاد وأنه يتحكم به قانون (العرض والطلب). حصل ذلك في
عام 1890م عندما قام الاقتصادي البريطاني ألفرد مارشال بنشر كتابه المؤثر (مبادئ الاقتصاد)
والذي شرح فيه الأفكار الرئيسية في علم الاقتصاد ومن أشهرها مفهم العرض والطلب الذي
يحكم الأسواق التنافسية. وبالرغم من محورية هذا النموذج في تفسير حركة التجارة
وعالم الأعمال ألا أنه كان قاصر في العديد من الحالات لتفسير بعض الظواهر أو
(الكوارث) الاقتصادية ولهذا طال هذا المفهوم شيء من النقد والسخرية اللاذعة لدرجة
أن الكاتب والمفكر الأسكتلندي توماس كارليل قال (عّلم ببغاء كلمتي العرض والطلب
وسيكون عندك عالم اقتصاد). ومع الاعتذار لجميع الزملاء الأفاضل وهم كثر من علماء
الاقتصاد الذين أتشرف بمعرفتهم فهذا المقال مشاغبة ثقافية لمحاولة سبر مجال علمهم
المعقد والمحير. المشكلة في تطور علم الاقتصاد أنه كثيرا ما تم من خلال الكوارث والأزمات
فكلما حصل هزه كبرى في الاقتصاد العالمي تداعى واجتمع علماء الاقتصاد بعد خراب
مالطا لمحاولة فهم ما حصل وغالبا هذا الأمر يثمر توليد نظريات اقتصادية جديدة.
أكبر كارثة اقتصادية في التاريخ البشري تلك
التي حملت اسم (الكساد العظيم) وهي أزمة اقتصادية حصلت في عقد الثلاثينيات من
القرن العشرين نتج عنها انهيار كبير في قطاع البنوك وأسواق الأسهم والتجارة
العالمية. للأسف نموذج (العرض والطلب) لمرشال لم يكن كافي لتفسير هذه الكارثة وهنا
ظهر على مسرح التاريخ الاقتصادي البريطاني المعروف جون كينيز الذي عارض فكرة الاقتصاد
الحر وحث الدول والحكومات على التدخل وضبط الأسواق التجارية ولهذا أصبح علم الاقتصاد
الجديد الذي يتبنى هذا المسار يحمل اسم Keynesian economics الاقتصاد الكينيزي. من أهم الأفكار الإصلاحية التي اقترحها جون كينيز لإعادة
ضبط الاقتصاد هو استخدام السياسات المالية أي ضخ الحكومة الأموال لتوفير البنية
التحتية والسياسات النقدية والتي من أهمها تخفيض أسعار الفائدة على القروض المالية
وكأنه بذلك يتوافق مع ما نعلمه من ديننا العظيم بأن الربا هو أحد أسباب خراب الدول
ومصدر مصائبها.
التطور التالي في نظريات علم الاقتصاد لن يحصل
إلا بعد حصول أزمة وكارثة جديدة وهذا ما حصل في فترة السبعينات من القرن العشرين عندما
أعتل الاقتصاد وأصيب بمرض الركود والتضخم stagflation ومن أشهر اعراض هذا الخلل الاقتصادي حصول
ارتفاع مستويات البطالة المصحوبة بارتفاع أسعار السلع. لأول مره في تاريخ الاقتصاد
تجتمع ظاهرة ارتفاع البطالة مع زيادة التضخم ولعلاج هذا الاقتصاد المريض لم تعد
الوصفة السحرية لجون كينيز تنفع. ولهذا تقبل المجتمع الاقتصادي الوصفة العلاجية
التي اقترحها عالم الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان الحاصل على جائزة نوبل في
الاقتصاد لعالم 1976م وأحد أشهر أفراد مدرسة شيكاغو للاقتصاد التي حصل العديد منهم
على جائزة نوبل. وعلى العكس من نظرية كينيز نصح فيدمان بتدخل أقل من الحكومات في
حركة الاقتصاد الحر ولهذا عارض فيدمان تدخل الدول لتثبيت سعر صرف العملات ولذا اقترح
الغاء البنوك المركزية والنظام المالي الأمريكي المسمى بالاحتياطي الفيدرالي. في
كتابة (الرأسمالية والحرية) طرح فريدمان نظريته عن السوق الحر وأن تدخل الحكومات
معرقل للاقتصاد وبالتنظير للاقتصاد المنفلت من كل القيود يعتبر الاقتصادي اليهودي
فريدمان بحق هو عرّاب الرأسمالية المتوحشة. ولم تقف نصائح فريدمان أن تتخلي الدولة
عن الاشراف على المعاملات المالية والتجارية بل اقترح عليها التخلي و(بيع) المؤسسات
الحكومية إي القطاع العام إلى القطاع الخاص فيما يعرف بالخصخصة. وبحكم أن بريطانيا
تقريبا هي أول دولة تطبق نظام الخصخصة زمن رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر
ولهذا لا غرابة أن تمتدح تاتشر فريدمان وتصفه بالزور وبالهتان بأنه كان (مثقفا
مقاتلا من أجل حرية الفرد). ومن التناقض الصارخ في كذب هذه المديح التاتشري أنه
نظرا لأنه فريدمان كان مستشارا اقتصاديا للدكتاتور التشيلي بونشية ولذا في حفل استلامه
لجائزة نوبل في الاقتصاد كانت تقام خارج قاعة الحفل مظاهرات صاخبة ضد فريدمان وكان
هتافات المحتجين (تسقط الرأسمالية .. والحرية لتشيلي).
مسيرة اقتصادية متأزمة
لقد أسقط فيدمان عالم الاقتصاد الكينيزي
وأقام محله مفهوم اقتصادي جديد لم يكن من المستغرب أن يسمى بالاقتصاد الفريدماني ولكن
بحكم أن هذه الفلسفة الاقتصادية اليهودية الفريدمانية مبنية على الرأسمالية الجشعة
المعتمدة على ضمان التدفق المالي وفرض الضرائب وتحرير الأسعار وزيادة سعر الفائدة.
وبالجملة تلك معاملات مالية ربوية تتغذى على السحت الصريح وبذا لم يكن مستغربا على
الإطلاق أن يصاب هذا الاقتصاد النقدي بالعديد من الأزمات والكوارث الكبرى. من أكثر
الأحداث الساخنة المرتبطة بعالم الاقتصاد هو تكرار حصول (انهيار البورصات) وبعد
حادثة الإثنين الأسود عام 1987م والانهيار الحاد في أسواق الأسهم العالمية تكتل فطاحله
علم الاقتصاد لمحاولة تفسير هذه الكوارث المالية ووضح الحلول لتحجيمها. وبهذا تتكرر
الظاهرة الغريبة في علم الاقتصاد أنه لا يتطور إلا بعد حدوث مصيبة كبرى وعلى كل
حال ظهر فرع جديد يحمل اسم اقتصاديات التعقيد complexity
economics ولمحاولة فهم أسباب حصول كوارث انهيار البورصات تم طرح العديد من النظريات
التي وضعها كبار علماء الاقتصاد الذين حصلوا على جائزة نوبل مثل جوزيف ستيجلز وروبرت
شيلر. أما تفسير أسباب أزمات انهيار سوق العملات مثل تلك الأزمة المالية عام 1997م
(أزمة النمور الأسيوية) فقد حاول علماء اقتصاد آخرين تفسيرها كما حصل مع عالم الاقتصاد
الأمريكي بول كروغمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد.
من الطرائف والعجائب في تاريخ علم الاقتصاد
أن العلماء والباحثين بذلوا جهود مكثفة لفهم أسباب خلل عالم المال والاعمال وبالذات
قطاع عمل البنوك لتفادي حدوث أي كارثه وأزمة اقتصادية عالمية جديدة. وفي عام 2003م
أعلن عالم الاقتصاد الأمريكي روبرت لوكس الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد أن كل
المشاكل الأساسية المسببة للركود الاقتصادي تم حلها. ثم سرعان ما حصلت الفضيحة والمهزلة
عندما وقع بعد تصريح لوكس بخمس سنوات أكبر انهيار اقتصادي من 80 سنة والذي عرف باسم
(الركود الكبير) والتي بدأ في أمريكا بمشكلة البنوك مع ديون الرهن العقاري. من
سخرية الأحداث أن عالم الاقتصاد روبرت لوكس حصل على جائزة نوبل لتطويره لنموذج
وآليه اقتصادية متقدمة تسمى (التوقعات العقلانية) وفي حين فشل فشلا ذريعا في فهم
ديناميكية تغير سوق المال ومصائبه المتكررة نجد عالم اقتصاد آخر هو هيمان مينسكي
ومنذ عقود طويلة يحلل بدقة فكرة الخلل في عمل البنوك. وكيف يتسبب ذلك الخلل في
حصول تراكم الدين ونشوء الفقاعة المالية والتي عندما تنفجر (في لحظة مينسكي) تحصل
الأزمة الاقتصادية الماحقة.
وبعد نشهد هذا الأسبوع أزمة اقتصادية دولية طاحنة تمثلت في انهيار البورصات العالمية وتدهور أسعار النفط وكل ذلك بسبب أخبار إعلامية غامضة أنه تم اكتشاف عدد لا يزيد عن العشرات من حالات الإصابة بالمتحور الفيروسي الجديد (اوميكرون). أمر محير جدا هشاش الاقتصاد العالمي في القديم والحديث وتعرضه بشكل متكرر للعديد من الزلازل والكوارث المالية التي تنوعت تسمياتها عبر السنين مثل: الكساد العظيم والركود الكبير والانهيار المالي والإفلاس العالمي وبعد أن كنا نسمع عن الاثنين الأسود والثلاثاء الأسود والخميس الأسود في الوقت الحالي ومع كثرة الأزمات المالية أصبحت جميع أيام الأسبوع سوداء.
لا شك أن الأزمة الاقتصادية الحالية تحتاج
مثل سابقتها لمزيد من الدراسة والتحليل والتدقيق، ولكن أهم أمر يمكن استخلاصه أن
الاقتصاد العالمي الآن معقد ومتداخل و (متغير) بشكل هائل عما سبق. قديما في
التاريخ البشري كانت التجارة قائمة على المقايضة والتعامل المباشر بين الزبون
والبائع واليوم أصبحنا في زمن (التجارة الإلكترونية) التي تتم بين اشخاص لا يعرفون
بعضهم البعض وقد تفصل بينهم محيطات وقارات. وفي الاقتصاد القديم كانت العملة
المستخدمة هي الاصداف والنقود النحاسية والفضية وإذا بنا اليوم في عصر النقود
الرقمية مثل البيتكوين والتي ليس فقط لا تستطيع أن تلمسها بلا لا تعرف في بعض
الأحيان من الشبح الذي يصدرها ويصك نقودها. وبعد أن كان اسلافنا الأوائل اقتصادهم
قائم على الزراعة وبعض الاعمال الحرفية البسيطة أصبحنا في زمن الشركات الكبرى العبارة
للقارات والمتعددة الجنسيات. وفي حيان كان شيخ التاجر القديم يجمع ثروته بعملية بطيئة
ومتدرجة عبر السنين الطوال نجد أن رجل الاعمال الأمريكي جيف بيزوس صاحب شركة
أمازون يربح 13 مليار دولار في يوم واحد فقط.
أمر محير ولا شك عالم الاقتصاد المعاصر والمستقبل
أكثر غموضا وحيرة وغالبا يستحيل التنبؤ لما يمكن أن يقع له من أزمات أو يحصل له من
قفزات. علم الاقتصاد شبيه نوعا ما بعلم المناخ فكلا منهما تؤثر فيه عوامل متعددة
ومتداخلة ومتغيرة ولذا يشتهر في مجال علم المناخ مفهوم تأثير الفراشة (المبنى على
نظرية الفوضى ذات البعد الفلسفي والفيزيائي) والذي يقول إن تأثير تحريك الهواء الناتج
من رفرفة جناح فراشة فوق سماء مدينة طوكيو ربما تسبب على الطرف الآخر من المحيط
الهادي في حصول إعصار مدمر على مدينة سان فرانسيسكو. وعلى نفس النسق في عالم الاقتصاد
لو حصل أن شخصا ما وخزه فيروس كورونا المتحور أوميكرون في دولة جنوب إفريقيا فأنه
ليس فقط سوف يعدي ملايين البشر بالمرض ولكنه يمكن أن يتسبب كذلك في مرض الاقتصادي
العالمي بأكمله ويتسبب له بسكته أو (أزمة) مالية قاتلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق