د/ أحمد بن حامد الغامدي
مشاكل أمراض العيون وخلل الإبصار شبه شائعة لدى العديد من مشاهير التراث العربي ولهذا من الشائع أن نجد الأسماء والألقاب التالية لديهم: الأعشى والأعمى والأعمش والأخفش. ومع هذه الإعاقات البصرية إلا أن العديد من هؤلاء الرواد ساروا بثقة وثبات في دروب الحياة ومسالك النبوغ. ومع ذلك تبقى شخصية الشاعر الجاهلي الأعشى فريدة ومميزة من جانب أنه ومع هذه الإعاقة البصرية (ضعف البصر وخصوصا في الليل) إلا انه استطاع وبشكل غريب أن يكرر السفر منفردا لمسافات وبلدان بعيده جدا. كان من عادة العرب قديما وخصوصا في زمن الصيف والقيظ أن يكون جزء من سفرهم ومسيرتهم في الثلث الأخير من الليل وذلك تلافيا للسفر في وقت الظهيرة في شدة الحر. ومشاق السفر في زمن القيظ ذكرها الأعشى في أبيات معلقته الشهيرة عندما تفاخر بأنه يقطع القفار والصحاري التي لا شجر ولا ظل بها لأنها أرض مستوية (مثل ظهر الترس) ولهذا يستحيل السفر بها وقت الظهر ومن يمشي بها في الليل يسمع صوت الجن وزجلهم:
وبلدةً مثل ظهر التُرس موحشةٍ للجنّ بالليل في حافاتها زَجلُ
لا يتمنّى لها بالقيظ يركبها إلا الذين لهم فيما أتوا مهلُ
وبالرغم من أن حياة الأعشى وشعره حافل بمنعرجات ومسارات شيقة وفريدة إلا أنني شخصيا ما زلت أعجب بالمزيج الأدبي والسياحي في ثنايا أبيات وقصائد الأعشى الشعرية عندما يتحدث عن (سفرياته) ورحلاته والأخبار والتجارب والمعلومات التي يبثها في سياق الحديث عن هذا الترحال. لعشاق السفر تطرب الأذن دائما عن أي حديث ولو جانبي عن أخبار السفر ولهذا نسعد عندما يتفاخر بعض الشعراء والأدباء بذكر الأماكن التي زاروها وترددوا عليها. وهذا الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم جميل في سيرته الفروسية والأنفة والشجاعة ولكن جميل كذلك أنه كان رحالة من الطراز الأول فقد طوّف في جزيرة العرب وتجول في الشام والعراق وهو الذي يذكر بعض هذه المزارات السياحية المعروفة منذ القدم:
وكأسٍ قد شربتُ ببعلبكٍّ وأخرى في دمشق وقاصرينا
ودواوين الشعر الجاهلي والشعر العربي القديم هي في ثناياها أشبه ما تكون بالدليل السياحي من كثرة المواقع التي تذكر فيها وهذا ما استفاد منه ياقوت الحموي في كتابه الفريد معجم البلدان وفي الوقت المعاصر الجغرافي البارز سعد بن جنيدل في كتابه معجم الأماكن الواردة في المعلقات العشر. وبما أننا في مساق الحديث عن تجوال وترحال شاعرنا المحتفى والمحتفل به هذه الأيام أعشى قيس فتذكر بعض المصادر أن أسماء المواقع والأماكن الواردة في شعره تبلغ حوالي الثمانين موقعا المتناثرة في مختلف بقاع دنيا العرب وأرض العجم وهذا ما يؤكده قوله:
قد طُفتُ ما بين بَانقيَا إلى عَدنِ وطال في العُجمِ ترحالي وتسياري
فهو قد تجوّل ما بين أرض بانقيا بالقرب الكوفة وحتى أرض عدن وفي أبيات أخرى ذكر السفر ما بين النّجير وهي أرض بقرب حضرموت وبين صرخدا وهي موضع حول حوران بالشام وهذا إشارة مختصرة لرحلاته من الشمال إلى الجنوب.
وما زلتُ أبغي المال مذْ أنا يافعٌ وليداً وكهلاً حين شِبتُ وأمردا
وأبتذلُ للعيسَ المراقيلَ تغتلي مسافة ما بين النّجير فصرخدا
أما فيما يتعلق بالسفر الجغرافي من الشرق إلى الغرب فقد ارتحل الأعشى ما بين ديار عُمان شرقا وحتى أرض الحبشة غربا. ولهذا يفتخر ويتباهى الأعشى بكثرة سفره وتجواله لدرجة المبالغة المشهورة عند الشعراء فيقول:
فأيّةَ أرضٍ لا أتيتُ سراتها وأيّة أرضٍ لم أجُبها بمرحلِ
وبحكم أن الأعشى بالفعل كثير السفر والانتقال شرقا وغربا فمن هنا نستطيع أن نفهم لماذا تساهل رواة الشعر العربي في قبول خبر أن الأعشى ربما قد يكون ارتحل إلى أرض الحبشة لمدح حاكمها النجاشي بالرغم من خلو ديوانه عن أي إشارة إضافية لأرض الحبشة والقصيد في مدح النجاشي. وبالرغم من أن طه حسين شكك في صحة قصة الأعشى مع ابنته عندما حاولت تخذيله عن السفر لخوفها أن تخترمه المنون ويموت في إحدى أسفاره. ومع ذلك لعل من الملائم ذكر هذه الأبيات هنا لأنها لو صح نسبتها إلى الأعشى فهي تعطي تصور عام للأبعاد الجغرافية التي تنقل فيها ذلك الشاعر الأعشى وشبه الأعمى والذي يلقب بأبي بصير هو لقب خاص بالعميان في الغالب:
أفي الطوافِ خفتِ عليَ الردى وكم
من رَدٍ أهلهُ لم يَرم
وقد طفت للمالِ آفاقه عُمان
فحمصَ فأوريشلم
أتيتُ النجاشيَّ في أرضهِ وأرض النبيطِ وأرض العجم
فنجران فالسروَ من حِميرٍ فأيَّ
مرامٍ لهُ لم أرُم
ومن بعد ذاك إلى حضرموتَ فأوفيتُ همي وحيناً أهُم
وبمناسبة ذكر هذه الأبيات بالذات نصل إلى ناقش الأمر الذي شدني في أخبار سفريات ورحلات الأعشى وهو انعكاس (ثقافة السفر) في شعر وأدب الأعشى فهو عندما يسافر إلى أي إقليم أو بلد غير عربي يحرص على الاطلاع العام على حضارة وأخبار وطباع ذلك البلد ويعكسها في شعره. في تلك الأبيات ذكر الأعشى كلمة (أورشليم) وسطرها في قصيدته حسبما سمعها في أرض فلسطين ولم يستخدم وصف (بيت المقدس) كما يعرفها العرب. وبعد تلك الابيات يرد في نفس القصيدة خبر شاه الفرس وملكهم سابور ذو الأكتاف ولكن الأعشى يذكر اسمه كما سمعه في أرض العراق فيسميه (شاهبور) كما يذكر طرفاً من أسطورته المشهورة في اقتحام حصن الحضر بالقرب من تكريت.
في مقال سابق نشر قبل عدة سنوات وحمل عنوان
(الشعراء والثقافة السياسية) ناقشت فيه التميز الفريد للشاعر الكبير الأعشى ليس
فقط في معرفته لأخبار وتفاصيل (أيام العرب) وما فيها من الحرب والمعارك ولكن أيضا
خبرته النادرة (بأيام العجم) وهذا ولا شك حصاد سفرياته وتنقلاته بين الشعوب
المختلفة. في ديوان الأعشى نجد ذكر قصيدة (سياسية) يرد فيها خبر هزيمة الروم أمام
الفرس وذلك في معركة تاريخية حملت اسم موقعة (يوم ساتيدما). وهي معركة مهمة وقعت
جهة الموصل بالقرب من نهر صغير أو جبل يحمل اسم ساتيدما وحصل هذا القتال الشرس بين
الفرس وبين الروم بقيادة هرقل عظيم الروم والذي بالرغم من شجاعته وخبرته القتالية
إلا أنه انهزم أمام الفرس مما تسبب في ضعف الروم لدرجة أنه تم لاحقا احتلال الفرس
لمدينة القدس.
والمقصود أن السفر والارتحال لبلدان وشعوب
متعددة من أرض العجم ساهمت في ثراء المعرفة الثقافية والتاريخية واللغوية للأعشى
والذي يرد في شعره العديد من أخبار وأساطير ومعتقدات وأديان الحضارات الأخرى غير
العربية. ومن الواضح كذلك في شعر الأعشى كثرة المفردات والكلمات غير العربية
وخصوصا الفارسية بل ويرد كذلك أسماء العديد من الملوك وأسماء الأعلام والمشاهير
لدى الشعوب الأخرى.
رحلة الأعشى الأخيرة
في كتب الأدب نجد جدال خفيف حول ديانة
الأعشى هل كان وثنيا مشركا كحال أغلب أهل جزيرة العرب في زمن الجاهلية أم كان يعتنق
الديانة النصرانية كما زعم الأديب المسيحي لويس شيخو في كتابه المثير للجدل (شعراء
النصرانية قبل الإسلام). أحد مسوغات هذا الجدل أن الأعشى كان شخصية على درجة عالية
من الاطلاع وبحكم كثرة وتنوع أسفاره نجد أنه كثيرا ما يرد في شعره خبر زيارته للعديد
من الكنائس والأديرة سواء في نجران أو أرض النبيط كما سمها أي مملكة الأنباط بل
يرد في شعره إشارات لليهودية والأقوام البائدة والعقائد المجوسية. ولهذا عندما بدأ الإسلام ينتشر ذكره في جزيرة
العرب وخصوصا بعد هدنة الحديبية أصبح الأعشى على درجة عالية من الإدراك والمعرفة
بالدين الخالد الجديد. وإنك لتعجب من كم المعلومات الدينية والأحكام التشريعية والإرشادات
الأخلاقية التي بثها الأعشى في قصيدته المشهورة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
وذكره لتلك المفاهيم الدينية والتشريعية جاء في سياق المدح للرسول وأن رسالته ودينه
عظيم وتعاليمه الشرعية سامية. ولذا يبدو أن الأعشى (أبصر) الحق ولهذا رغب في الدخول
في الإسلام وعزم على الوفود على الرسول الكريم ومديحة. وتذكر كتب الأخبار أن قريشاً
لما علمت برغبة الأعشى في زيارة الرسول لمدحه أرسلت من يعترض طريق سفره. ولهذا يقال
أبو سفيان بن حرب حاول صده عن الدخول في الإسلام بأن ذكر له أن الرسول ينهى عن
أمور وأفعال تشرب الأعشى حبها وذكر منها الزنا والقمار والربا والخمر. وقد رد
الأعشى أنه قد كبر سنه فلا رغبة له بالزنا وأنه لا مال له فلا يهتم للربا أما
القمار فسوف يعوضه الرسول الكريم بالمال عندما يمدحه. ولكن بقيت مشكلة الخمر ولهذا
صده شياطين الإنس والجن وخدع نفسه بأن قبل هدية قريش المتمثلة في منحة المئة ناقة
على أن يرجع لبلده ويقيم لمده سنة وهو يعاقر الخمر ثم يعود للرسول ويعلن إسلامه
بعد أن يرتوي من شرب الخمر. وكما هو معلوم فإن الأعشى مات على الشرك حيث يقال إنه
بمجرد أن رجع إلى منزله في بلدة (منفوحة) من أرض اليمامة رمى به بعيره وسقط على
الأرض فقتل من فوره. فسبحان الله كانت ابنة الأعشى تخشى أن تفقد أباها بأن يموت
غريبا في إحدى سفرياته المتعددة وإذا به يتوفى على باب بيته فقد سلم من مخاطر
الطريق وأهوال السفر ولكن لم يسلم من سوء الخاتمة البدنية والدينية.
بمناسبة ذكر (منفوحة) فهي الآن واحدة من
أٌقدم الأحياء السكنية بمدينة الرياض وقبل عدة أيام قمت بزيارة لهذا الحي العريق
والتاريخي لمحاولة الاستمتاع بالأجواء الثقافية وتنسم عبق التاريخ في فعالية (الأعشى)
التي أطلقتها وزارة الثقافة وتنتهي بعد أيام قليلة. ولكن للأسف فبعد وعثاء (السفر)
بالانتقال عبر زحمة المرور من منزلي بالجامعة من شمال الرياض إلى حي منفوحة بجنوب
الرياض لم أستطع الدخول لتلك الفعالية ربما لسوء حظي أو بسوء التنظيم لفكرة الحجز
المبدئي لتذاكر الدخول.
في الختام لا أعلم لماذا تلاشى مع الزمن خبر
(سفريات) الأعشى ورحلاتها وأصبح لا يعلم بها إلا المطلع على كتب تاريخ الأدب العربي
ولهذا أقترح أنه كما أصبح (ابن بطوطة) رمزا للسفر والسياحة والرحلات لدرجة أننا
نجدد عدد كبير من شركات ومكاتب السياحة والسفر تحمل اسم (سفريات ابن بطوطة) وعليه
أقترح أن يتم افتتاح وفي حي منفوحة بذات مكتب سياحي يحمل اسم: (سفريات الأعشى)
للرحلات والسفر !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق