د/ أحمد بن حامد الغامدي
لا يُعلم على وجهة الدقة أي من نقاد الأدب
العربي القدامى الذي استقرأ القاعدة النقدية (أعذب الشعر أكذبه) ولماذا لم يدرج
معها الأبعاد والظروف الأخرى الغريبة لإنتاج فرائد القصائد الرائقة. فليس فقط بالخيال
المجنح الكاذب يتولد أجمل الشعر ولكن كذلك ينتج من الاضطراب النفسي والجنون (حالة قيس
بن الملوح) أو بسبب الخوف والهلع من ذي سلطان (النابغة الذبياني) أو من حالة التلبس
بالجن (كما يزعم الأعشى). ولهذا يحق لنا أن نعدل ذلك الاستقراء بأن نقول إن (من)
أعذب الشعر ما يقال في أجواء غريبة ومبهمة وبعيدة عن الصفاء والتركيز كحال الشاعر
المجنون أو الممسوس أو المخمور. وهذا أمر ذائع وشائع في الأدب العربي القديم فيما
عرف بشعر الخمريات بل يقال أن صناجة العرب الأعشى كان لا يقول أعذب الشعر إلا إذا
طرب بعد أن يسكر بالخمر ومن ذلك قصيدته الطنانة في مديح المحلّق الكلابي.
وفي الأدب الإنجليزي تتكرر نفس هذه الظاهرة
وهي ارتباط الشعر البليغ بظاهرة لجوء الشعراء لتعاطي الحشيش والمخدرات بهدف الوصول
لحالة (التجلي) المفضية لإطلاق العنان للخيال الأدبي الإبداعي كما نجده عند أغلب
أعضاء الحركة الرومانسية منذ نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. خذ على ذلك مثال قصيدة (قبلاي خان) للشاعر
الإنجليزي صموئيل كولردج نظمها وهو تحت تأثير مخدر الأفيون وفي نفس السياق يقال إن
الأديب الفرنسي المعروف بولدير أثناء كتابته لديوانه الشعري (أزهار الشر) كان
يتعاطى الأفيون قبل كتابة قصائده. يزعم بعض هؤلاء الأدباء والمفكرون أن تعاطي
المسكرات والمخدرات تساعد للوصول لحالة (الصفاء الذهني) والاسترخاء العقلي مما
يساعد في إبداع أدبي خارج عن المألوف. الغريب في الأمر أن لفيف آخر من أشهر الأدباء
والمفكرين وجدوا تقنية وأسلوب مختلف تماما للوصول لحالة (الصفاء الذهني) المحفّز
للإبداع الأدبي وذلك من خلال تناول (القهوة). ونحن ننقل الكلام من الخمر إلى
القهوة لعل من الطريف التذكير أن لفظة (القهوة) في الزمن المعاصر يختلف تماما
معناه عما كان يفهمه العرب قديما فمنذ زمن الجاهلية وحتى العصور الحديثة نسبيا كان
المقصود بكلمة القهوة في شعر العرب (الخمر).على كل حال ما يهمنا هنا أنه حاليا
يوجد ترابط كثيف في التصور الجمعي العام بين تناول فنجان من القهوة في حالة الصفاء
وبين درجة الثقافة وملكة الأدب والفكر لمن يتعاطى هذا المشروب السحري.
ذكرنا أنه من الطقوس الأدبية عند الأقدمين
تحفيز القريحة الأدبية من خلال تناول الخمر أو المخدرات كما هو الحال مع الأعشى أو
كولردج وبولدير وفي المقابل نجد أن من طقوس بعض الكتاب والأدباء لتهيئة الأجواء
الموائمة للأدب الرفيع أن يقوم الأديب بتناول وارتشاف عدد كبير من فناجين القهوة. خير مثال على ذلك الروائي الفرنسي النجم أونورية
دي بلزاك والذي كان يتناول يوميا أكثر من خمسين فنجان قهوة على معدة خاوية (غالبا
بسبب فقره) وهو ما تسبب لاحقا في وفاته بسبب التسمم بالكفائين. ولقد كان بلزاك
ينصح من يرغب في الكتابة بكثرة تناول القهوة حتى ولو كانت باردة حيث إنه كان ممن
يقبل مقولة أن القهوة تفتح أبواب الإلهام السحرية. الإدمان على الارتشاف المتواصل
لأكواب القهوة اشتهر به كذلك المفكر والفيلسوف الفرنسي الأشهر فولتير الذي كان
يشرع في تناول القهوة منذ الساعة الخامسة صباحا وبشكل متواصل حتى الساعة الثالثة
بعد الظهر ولهذا لا عجب أن يحذره طبيبة بأن تناول خمسين فنجان قهوة في اليوم سوف
يتسبب يوما ما بوفاته.
ومن عادات الكتابة وطقوسها عند الرمز الأدبي
العربي الكبير نجيب محفوظ أنه هو الآخر يحرص على تعاطي جرعة الكفائين أثناء
الكتابة بشرب فناجين القهوة المصحوبة بتدخين السجائر. في الواقع المزاوجة بين
القهوة ودخان السجائر أثناء فعل الكتابة (نصوص النيكوتين والكفائين) كان أيضا من عادات
الشاعر اللبناني ناصيف اليازجي والأديب المصري عزت القمحاوي والروائي السوداني
المعاصر أمير تاج السر. وإذا كان الإلهام الأدبي لشعراء وأدباء القهوة لا يأتي إلا
بعد تجرع عدد كبير من أكواب القهوة نجد أن الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله يعترف
بأن فنجان واحد فقط من قهوة الصباح الباكر يكفيه بل أنه في بعض الأحيان وأثناء
الاندفاع والحماس في مزاج الكتابة واستغراقه التام بالتأليف يكتشف أنه لم يشرب من
ذلك الفنجان الوحيد إلا نصفه.
في مديح القهوة
لا أعلم هل من عشق حقيقي للقهوة يحرص بعض
الأدباء على التصريح بغرامهم بها أم هو من باب رد الجميل لذلك المشروب المساعد على
تحضير مناخ الإلهام الإبداعي. في مديح القهوة نجد أن الكاتبة الأمريكية لويزا
ألكوت صاحبة الرواية الذائعة الصيت (نساء صغيرات) تقول إنها تفضل أن تحصل على
القهوة بدلا من المجاملات وربما يوافقها في هذا العشق للقهوة الروائي الفرنسي
ألبير كامو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عندما ينسب له قوله (هل انتحر أم أحصل
على كوب من القهوة). وهذا الأديب الإيرلندي جوناثان سويفت صاحب روية (رحلات
غوليفر) فيطنب في مديح القهوة بما لا مزيد عليه عندما قال: أفضل حكمة أعرفها في
الحياة أن تشرب القهوة عندما تستطيع وعندما لا تستطيع. ومن طريف ما يمكن ذكره عن
علاقة الأدباء بالقهوة أن المفكر والأديب الفرنسي جان جاك رسو كان يعتبر رائحة القهوة
بمثابة عطر بهيج ويقول عنها: آه، هذا العطر الذي يفرحني وعندما يحمصون القهوة
بالقرب من منزلي أسارع لكي أفتح الباب لأستوعب كل الرائحة. ومع ذلك نجد أن عملاق الأدب الألماني جوتية
كان يسبب له شرب القهوة نوع من الأرق ومع ذلك كان يستمر في ارتشاف فناجين القهوة
وفي المقابل نجد أن ألكسندر بوب وهو أحد أشهر شعراء الإنجليز في جميع العصور كان
على خلاف جوتيه إذا أصابه الصداع كان يتعالج باستنشاق البخار المتصاعد من فنجان
قهوة ساخن.
من كل ما سبق سردة يمكن أن نستشف لماذا
تعززت العلاقة والترابط بين القهوة والثقافة ودنيا الأدب لدرجة أن خرجت من نطاق
الخصوصية بين فنجان القهوة والقارئ والكتاب إلى رحاب العمومية ممثلة في تأثير المقاهي
في مجمل الحركة الثقافية. وبعدما كانت الظاهرة الأدبية محصورة في (شعراء القهوة)
تحولت إلى (أدب المقاهي) والمقاهي الثقافية لدرجة أننا نجد أخبار متعددة عن أدباء
ليس فقط كانت القهوة محفز لإبداعهم الأدبي بل قاموا بكتابة رواياتهم الأدبية أو
حبك قصائد الشهرية وهم على طاولات المقاهي وبين ضجيج الزبائن والمرتادين. خير مثال
(مزدوج) يمكنه ذكره في هذا المجال هو ما قام به الأديب والمفكر الفرنسي المعروف
جان بول سارتر وعشيقته الكاتبة سيمون دي بوفوار وفق عادتهم المشهورة بالتردد على
مقهى (فلورا) في باريس بالجلوس كلا على حدة وعلى طاولة منفردة حيث كان سارتر يؤلف
كتابه الشهير عن الوجودية (الوجود والعدم) في حين أن سيمون كان تؤلف روايتها
الأولى (أتت لتبقى) كما سطرت على طاولة المقهى كتابها الأكثر شهرة (الجنس الآخر).
ومن باريس ننتقل إلى مدينة أدنبره حيث نجد
الروائية البريطانية جي كي رولينج تقول إن أفضل مكان للكتابة هو في المقهى ولهذا
لا عجب أن نعلم أن روايتها ذائعة الصيت للصغار قبل الكبار (قصة هاري بوتر) كتابتها
وهي على طاولات مقهى بيت الفيل المطل على قلعة أدنبرة. وبالاتجاه جنوباً من أوروبا
إلى العالم العربي وبالتحديد إلى مدينة طنجة نجد أن الكاتب المغربي البارز محمد
شكري يؤلف روايته المذهلة (الخبز الحافي) وهو على طاولات مقهى (الحافة) المشرف على
مضيق جبل طارق.
وبما إن سيرة المقاهي الأدبية انفتحت ونحن
في آخر المقال فلا يسعنا إلا أن نسارع بطي الطاولات ورفع الكراسي وإغلاق المقهى قبل
أن ننزلق في سرد ملحمة مطولة لأغلب مشاهير الأدباء والشعراء والكتاب والمفكرين من
كل الجنسيات وعبر القرون الأخيرة الذين ارتبطت مسيرتهم الثقافية مع ارتشاف فناجيل القهوة
وتبادل الحوار الأدبي والجدال الفكري عبر جنبات هذه الأندية المعطرة برائحة القهوة
الزكية.
بقي أن أقول إن هذا الحديث ذو الشجون عن
امتزاج عبق القهوة بألق الثقافة كان الدافع له أنه وبعد أيام قلائل ومع مطلع السنة
الميلادية الجديدة حسب ما أعلنت عنه وزارة الثقافة بأن سنة 2022م سوف يطلق عليها
(عام القهوة السعودية). وبالإعلان عن سنة القهوة هذه من خلال الوزارة
ممثله في الهيئة العامة للثقافة وليس من خلال هيئة التراث نستشف أن رمزية القهوة
في المورث الشعبي كحالة مكثفة للدلالة على الأصالة والكرم لن تطغى كثيراً عن دلالة
ارتباط القهوة المتجذر بالأدب والثقافة والفكر.
ومع ذلك لعل من الملائم أن نختم بذكر إحدى أشهر
الأبيات الأدبية في الشعر النبطي وهي للشاعر الكبير راكان بن حثلين والتي تربط بين
القهوة والتراث والكرم .. وطبعا الأدب:
يا ما حلا الفنجان مع سيحة البال في مجلسن ما فيه نفسٍ ثقيله
هذا ولد عم وهذا ولد خال وهذا رفيق ما لقينا مثيله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق