الخميس، 12 ديسمبر 2024

( أمراض سادت ثم بادت )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1446/4/23

عبر السنوات قرأت الكثير من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية عن تاريخ الطب والمحطات التاريخية الأساسية في قصة الطب والأطباء وقد كان لهذه الكتب أساليب متعددة لطريقة العرض لمحتواها المعرفي. فبعضها يركز على استعراض مسيرة مشاهير الأطباء (مثل كتاب الأوائل في الطب Medical Firsts) بينما البعض الآخر يحكي قصة الطب من خلال منظور الأدوية والعلاجات الصيدلانية (مثال كتاب الدواء: من فجر التاريخ إلى اليوم). لكن أكثر كتاب طبي استمتعت بالاطلاع عليه أيّما استمتاع كان كتاب (أمراض لها تاريخ .. قراءة مرضية في سفر التاريخ) للطبيب الفلسطيني حسن أبو غزالة ومن الغريب أن مواضيع الأمراض والأوبئة والأسقام هي أمور في العادة غير محبب الخوض فيها ومع ذلك كان ذلك الكتاب شيقا بشكل استثنائي.

من الأمراض التي لها تاريخ إلى التاريخ الذي أمرضته الأسقام والأوبئة وغيرت مسار المجتمعات الإنسانية وأعادت تشكيل معالم سياسة الدول والحكومات وهذا هو مدار كتاب آخر ثري بالمعلومات الطبية والتاريخية وحمل عنوان ( 12 مرضا التي غيرت عالمنا 12 diseases that changed our world) لعالم الأحياء الأمريكي إروين شيرمان.

الجدير بالذكر أن الغالبية العظمى من هذه الأمراض الخطيرة والمفجعة التي شكلت مسار التاريخ البشري والتي وردت في ذلك الكتاب وغيرة هي اليوم ولله الحمد من التاريخ الغابر حيث أوشك العديد منها على الزوال شبه الكامل. فعلى سبيل المثال من ضمن الأمراض الاثنا عشر التي أختارها الدكتور إروين شيرمان على أن لها تأثيرا على التاريخ الإنساني لا نجد اليوم منها ذا أهمية وخطورة إلا مرض الملاريا والحمى الصفراء والإيدز. وعلى نفس النسق نجد أن الكتاب السالف الذكر (أمراض لها تاريخ) ناقش الأهمية التاريخية لحوالي 15 مرض الغالبية العظمى منها خفت بشكل ملحوظ تأثيرها في حياة الناس اليوم وهي بهذا من التاريخ الماضي باستثناء هذه الأمراض المستعصية: الملاريا والحمى الصفراء والتهاب السحايا (التيفوس) ومرض السكر ومرض الجنون.

والجدير بالذكر أن أول مرض تم استعراضه في كتاب (أمراض لها تاريخ) كان مرض (الجدري) ومن الطريف أن عنوان الفصل الذي يتحدث عن ذلك المرض الخطير والمريع كان (الموت الذي مات). وبالمناسبة فإن من دواعي تسطير هذا المقال أن اليوم السبت (26 أكتوبر) يتوافق مرور حوالي نصف قرن على التشخيص الطبي لآخر مريض في التاريخ البشري يصاب بمرض الجدري وهو الشاب الصومالي والذي أصيب في عام 1977م بالجدري وتعافى منه ومن ثم أصبحت كتب التاريخ والطب جميعها تعرف اسم ذلك الشاب (علي ماو معالين) وتخلد ذكره. وبعد ذلك بفترة قصيرة أعلنت منظمة الصحة العالمية في يوم الثامن من شهر مايو من عام 1980م بأن مرض الجدري تم (استئصاله eradicated) والقضاء عليه بشكل كامل وهو بهذا أول مرض بالغ الخطورة والانتشار في الماضي تم التخلص منه وإبادة الفيروس المسبب له وذلك بفضل الله سبحان وتعالى وفضل التوسع في استخدام التطعيمات واللقاحات الطبية بالإضافة لاستخدام المضادات الحيوية.

لإدراك القفزة الهائلة التي أنجزتها البشرية بالتخلص من هذا المرض الوبائي القتال يكفي أن نشير إلا أن السبب الأساسي لهلاك عشرات الملايين ممن يسمون بالهنود الحمر في القارة الجديدة راجع للعدوى التي اجتاحتهم عندما نقل الأوروبيون مرض الجدري إليهم بعد أن أهدوهم البطاطين الملوثة ببثور الجدري حسب القصة المشهورة. ومن الهنود الحمر إلى الهنود السمر في القارة الهندية حيث كان مرض الجدري يسبب مصدر خوف كبير للسكان لدرجة أنه قادتهم عقولهم المريضة لعبادة إلهة هندوسية تسمى شيتلا زعموا أنها الحامية من مرض الجدري وتوجد في عقائد الشعوب البدائية آلهة أخرى مشابهة تم عبادتها لنفس السبب مثل الآلهة الأفريقية سبونا الإلهة الخاصة بمرض الجدري.

 لمئات السنين كان مرض الجدري أحد أكثر الأمراض المعدية فتكا بالبشر والأمر الصادم أنه خلال القرن العشرين فقط تشير التوقعات ان عدد الضحايا الذي توفوا بسبب مرض الجدري بلغ حوالي 300 مليون شخص وان ثلث حالات الإصابة بالعمى في العالم كانت ناتجه من الأضرار الجانبية لمرض الجدري. وفي الخمسينيات من القرن العشرين كانت تقديرات منظمة الصحة العالمية أنه كان يصاب سنويا بمرض الجدري رقم هائل جدا بلغ 50 مليون مريض والآن أدرك لماذا ذاكرة الطفولة لديّ كانت تسجل العدد الملحوظ من الأشخاص المشوهة وجوههم وأيديهم بآثار حبوب وبثور الجدري ولماذا تعاطفنا ونحن صغار مع المسلسل البدوي (ساري العبدالله) الشاب المصاب بالجدري والذي ترحل عنه قبيلته وتتركه وحيدا حتى لا ينقل لها العدوى. هكذا ساد وانتشر مرض الجدري ثم بفضل الله نجحت الحملة العالمية للتخلص من هذا الوباء الشنيع وبالرغم من أنه في عام 1967م كان الجدري ينتشر في 42 بلدا ويحصد سنويا حياة حوالي مليونين ونصف المليون ضحية، ولكن ما أن مرت عشر سنوات فقط وحلت سنة 1978م إلا وأصبح عدد الأشخاص المصابين بالجدري (صفر) بعد تم إبادة هذا البلاء.

الأمراض البائدة .. منحسرة في الطب ورائجة في الأدب

لا شك أن مرض الجدري هو أفضل مثال على مقولة (أمراض سادت ثم بادت) ومع ذلك توجد تشكيلة من الأمراض والأسقام المهلكة الأخرى التي (سادت) لفترة من الزمن في الماضي ثم تلاشت بشكل كبير في عصرنا الحاضر وإن لم تكن (بادت) بنفس درجة الاستئصال التام لمرض الجدري. في القرون الوسطى كانت القارة الأوروبية تعاني من تفشي وباء الجدري الذي وصل عدد ضحاياه في بعض الفترات إلى حوالي ثلث السكان وهي نسبة هائلة من أعداد الضحايا لم يستطع تحقيقها قبل ذلك إلا وباء الطاعون والذي وصف بحق بأنه (الموت الأسود). وتذكر كتب التاريخ أن انتشار وباء الطاعون الأسود في القارة الأوروبية في منتصف القرن الرابع عشر تسبب في هلاك ثلث سكان تلك البقاع. لفترة من الزمن كان وباء الطاعون من الأمراض القاتلة التي سادت ثم بادت فبعد أن تسبب هذا الوباء في حصد أرواح حوالي 50 مليون شخص قبل عدة قرون تناقصت ولله الحمد أعداد المصابين بهذا المرض لبضع مئات من الأشخاص في الزمن الحالي وحسب منظمة الصحة العالمية عدد الأشخاص الذين يتعرضون للإصابة بمرض الطاعون سنويا في حدود 200 شخص يتوفى منهم في المتوسط حوالي عشرة أشخاص فقط.

الجدير بالذكر أن آخر وباء خطير بالطاعون حصل في عام 1894م في هونغ كونغ وتسبب في مصرع حوالي ستة آلاف شخص وهو رقم منخفض نسبيا مقارنة بموجات وباء الطاعون في التاريخ القديم التي أهلكت الملايين. وفي ظل هذه المعلومة الإحصائية عن تلاشي مرض الطاعون منذ بداية القرن العشرين لعله من الملائم الإشارة إلى أن الأديب الفرنسي البارز ألبير كامو (الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1957م) كان يكتب من نسج الخيال أحداث روايته المشهورة التي أعطى لها عنوان مختصر ومباشر (الطاعون). صحيح أن ألبير كامو بعد وفاته دفن في بلده صغيرة بالقرب من مرسيليا تلك المدينة الفرنسية التي شهدت في عام 1720م انتشار وباء الطاعون والذي حصد حياة أكثر من مائة ألف مريض وهو بهذا كان آخر وباء خطير من هذه الدرجة تشهده القارة الأوروبية ومع ذلك عندما ألف ألبير كامو رواية الطاعون ربما لم يكن قد شاهد في حياته أي شخص أصيب بذلك المرض. من المعروف أن ألبير كامو ولد في الجزائر وقت الاحتلال الفرنسي لها ولهذا أحداث رواياته الكبرى تدور هنالك فرواية (الغريب) تقع أحداثها في مدينة الجزائر العاصمة بينما رواية (الطاعون) تتخيل وقوع وباء الطاعون في مدينة وهران والتي في الواقع قد تعافت هي والمدن الجزائرية الأخرى من هذا الوباء منذ قرون طويلة.

والمعنى أن الأمراض الفتاكة والأوبئة المريعة فرضت سيادتها على التاريخ والجغرافيا في فترة ما ولكن عندما بدأت هذه الأمراض تتلاشى وتباد في الزمن المعاصر انتقلت تلك الأمراض من عالم الطب إلى دنيا الأدب وتم توظيف رمزيتها القوية في الحبكات الدرامية الأدبية والفنية. وهذا يقودنا إلى رواية (الحب في زمن الكوليرا) للمبدع الكبير الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1982م والتي تدور أحداثها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. من الملائم الإشارة إلى أنه عندما نشر غابرييل ماركيز رواية (الحب في زمن الكوليرا) لأول مره في عام 1985م كانت التقديرات تشير إلى أن عدد الوفيات على مستوى العالم بسبب مرض الكوليرا في تلك الفترة تقارب الثلاثة ملايين شخص سنويا ولهذا كان من المقبول أن يوظف غابرييل ذلك المرض القاتل في المشهد النهائي لتلك الرواية البديعة. ومع ذلك وباء الكوليرا ولله الحمد بعدما ساد فترة من الزمن بدأ بالانحسار بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة لدرجة أن عدد الوفيات السنوية انخفض من خانة الملايين إلى خانة عشرات الآلاف فقط ولله الحمد.

في واقعنا العربي خيمت قبل سنوات قليلة جائحة حزينة لوباء الكوليرا في أرض اليمن السعيد تسببت في شقاء شريحة من ذلك الشعب وحزن الملايين المتعاطفين مع هذه الكارثة الصحية الأليمة. ومع ذلك في العصر الحديث تبقى ديار المحروسة أرض مصر هي من تلقت آخر موجة خطيرة لتفشي وباء الكوليرا الذي أنتشر في القاهرة وما حولها من مدن مصر وذلك في صيف عام 1947م وتسبب ذلك المرض في وقوع حوالي 20 ألف حالة وفاة. وبما أننا في قاهرة المعز وعاصمة مصر المحروسة ونحن في وارد الحديث عن توظيف الأمراض السائدة في الأعمال الأدبية ومع ذلك فلن نقف طويلا عند رواية (الحرافيش) لنجيب محفوظ التي تبدأ بانتشار وباء قاتل ربما يكون الكوليرا (كان يسمى في تلك الفترة: وباء الهيضة) والذي لم ينج منه أحد إلا بطل المرحلة الأولى للرواية: عاشور الناجي. ولكننا سوف نعرج على مرض فتاك كان له انتشار واسع حتى العقود الأخيرة وهو مرض السُّل حيث تشير التقديرات الصحية أنه في القرن التاسع عشر كان مرض السل يتسبب فيما نسبته حوالي 25% من مجموع الوفيات في بريطانيا بل وحتى عام 1918م كان مرض السل يتسبب في وفاة واحد من بين كل 6 وفيات في فرنسا. وبعد أن كان مرض السل منتشرا بشكل مخيف في القارة الأوروبية نجد أن هذا المرض السائد بدأ في الانحسار في منتصف القرن العشرين وخصوصا عندما أكتشف العلماء المضاد الحيوي الستربتوميسين الفعال جدا في القضاء على جرثومة هذا المرض.

في منتصف القرن العشرين وفيما علماء الأحياء الدقيقة يكتشفون المضادات الحيوية لدواء السل نجد أنه في عام 1947م ينشر نجيب محفوظ روايته البديعة (خان الخليلي) وفيها نجد أن ذروة الدراما عندما يصاب الفتى الشاب رشدي بمرض السل ولهذا ينصحه الطبيب بأن يذهب للعلاج في مصح للأمراض الصدرية في مدينة حلوان حيث الهواء الجاف للصحراء. بينما في رواية (الجبل السحري) للأديب الألماني توماس مان الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1929م نجد أن بطل تلك الرواية الشاب هانز يذهب إلى مصحة طبية تقع في أعلى جبال الألب السويسرية الباردة يتم فيها علاج المرضى المصابين بمرض السل. والغريب أنه بالفعل يوجد ترابط بين مرحلة الشباب ومرض السل والأدب فالعديد من مشاهير الأدب أصيبوا في شبابهم بمرض السل مثل صاحبنا الفرنسي ألبير كامو سالف الذكر ورائد القصة القصيرة الروسي أنطون تشيخوف الذي قضى عليه مرض السل كما قضى على الكاتب التشيكي البارز فرانز كافكا وهو في أواخر مرحلة الشباب. وكذلك نجد أن شعراء الإنجليز البارزين لهم ارتباط بمرض السل مثل جون كيتس الذي توفي بالسل بينما معاصره اللورد بايرون الذي مات وهو شاب بالحمى بالرغم من أنه قال في يوم من الأيام (كم أتمنى أن أموت بالسل حتى تقول عني السيدات ما أجمل منظره عندما يموت).

في الختام لقد طال المقال وضاقت المساحة عن استعراض كيف انحسرت بعض الأمراض الأخرى التي كان شائعة قديما وانتقل الاهتمام بها من كتب الطب إلى روايات الأدب مثل مرض الجذام وحمى التيفوئيد والحصبة والسفلس (الزهري) ومرض السعار (داء الكَلَب) وطبعا لن ننسى وباء العصر (فيروس الكوفيد ومرض الكورونا). أرجو أن أكون أثرت الفضول وحب الاستطلاع لدى القارئ الكريم ليكمل فكرة هذا المقال ويبحث بنفسه عن علاقة هذه الأمراض بالأدب بعدما سادت ثم بادت.


 

( الذكاء الاصطناعي وانهيار البورصة !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1466/4/16

 الكل هذه الأيام يتحدث عن تقنية (الذكاء اصطناعي) وفي حين أن البعض يعتبرها مجرد الموجة الرابعة من الثورة الصناعية، بينما البعض يؤكد أن أهميتها لن تقل عن أهمية اختراع الكهرباء نجد أن عالم الفيزياء البريطاني المشهور ستيفين هوكينج يبالغ كثيرا عندما يقول (سيكون النجاح في إنشاء الذكاء الاصطناعي أكبر حدث في تاريخ البشرية). بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تحدث البعض أننا في زمن (العصر الذري) نسبة إلى القنبلة النووية ثم مع الوقت تحول البعض للقول بأننا في عصر الترانزستور والكمبيوتر ثم لاحقا زمن الليزر والأقمار الصناعية وبعد ذلك زمن التقنية الحيوية والهندسة الوراثية وحتى قبل سنوات قليلة كانت الهيمنة لعصر (تقنية النانو). والمقصود أن عبارة (لكل زمان: دولةٌ ورجال) يمكن تحويرها إلى مقولة (لكل زمان: تقنية وعلماء) ولهذا مع الاهتمام المتصاعد بتقنية الذكاء الاصطناعي لم يكن من المستبعد أن في السنتين الأخيرتين أن يتم التكريم المتكرر والمتلاحق لعلماء البرمجيات وتقنية الخوارزميات الذي أسهموا في تطوير الذكاء الاصطناعي. ومن ذلك أن جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء تم تجييرها ومنحها للمخترعين في مجال البرمجيات وعلوم الحاسب مثل (عراب الذكاء الاصطناعي) العالم البريطاني المشهور جيفري هبتون وأبو ( AI ) المخترع الأمريكي جون هوبفيلد.

 ونظرا لأن جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء المعلن عنها في يومي الثلاثاء والأربعاء من الأسبوع قبل الماضي تم منحهم للباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي نظرا للفائدة الهائلة لهذه التقنية للتخصصات العلمية المتنوعة لهذا كان التساؤل الذي دار بذهني هل من الممكن على نفس النسق أن تمنح جائزة نوبل في الاقتصاد هذه السنة كذلك لباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي أو برمجة الخوارزميات التي بلا شك سوف تعيد تشكيل العمليات الاقتصادية والمعاملات المالية في المستقبل القريب. في الواقع حصل في الماضي أن تم منح جائزة نوبل في الاقتصاد لباحثين من تخصصات بعيدة عن المال والأعمال فمثلا تم منح جائزة نوبل للاقتصاد لعالم النفس الأمريكي دانيال كانمان لدراساته للدوافع النفسية خلف سلوكيات المستهلك وبالتالي توصل إلى وضع نظريات مهمة حول الفرع المعرفي الجديد (علم الاقتصاد السلوكي). وبصورة مشابهة ليس شرطا أن تمنح جائزة نوبل في الاقتصاد بشكل حصري لعلماء الاقتصاد فقد نال تلك الجائزة الرفيعة علماء من مختلف التخصصات وخصوصا في مجال الرياضيات والإحصاء بل وحتى الفيزياء والهندسة ومن أشهرهم عالم الرياضيات الأمريكي جون ناش الذي حصل على نوبل في الاقتصاد لعام 1994م والذي كان مصابا بمرض انفصام الشخصية وأُنتج عن قصة حياته العجيبة فيلم سينمائي بعنوان (عقل جميل) حصد أربع جوائز أوسكار.

في ضوء ما سبق ذكره من أن جوائز نوبل لهذا السنة شهدت تداخل التخصصات العلمية والمجالات التقنية في بعضها البعض (ولعله المقصود بمفهوم transdisciplinary الذي يعرب بمصطلح: العبرمناهجية) وفي ضوء أن جائزة نوبل في الاقتصاد قد تشمل تخصصات مستعارة من علم الرياضيات أو الفيزياء أو علم النفس أو علم الاجتماع وغيرها وعلى هذا هل نحن بالفعل في زمن (الثورة الصناعية الرابعة). إذا علمنا أن (الثورة الصناعية الثالثة) هي ما كانت سابقا تسمى (ثورة المعلومات والعصر الرقمي) نجد أن أهم ما يميز الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0) عن الموجات الثلاث التي سبقتها، أنها تزيل الحدود الفاصلة بين مجالات التقنية المختلفة (التقنية الحيوية وتقنية النانو وتقنية المعلومات والتقنية الصناعية ...إلخ) مما أسهم في نهاية المطاف في دمج أجهزة الروبوتات بالذكاء الاصطناعي بتقنية إنترنت الأشياء بالحوسبة الكمومية بالهندسة الوراثية بالعلاج الجيني بغير ذلك من المجالات والتقنيات المتباعدة. من هذا وذاك أصبحنا في السنوات الأخيرة نشهد قفزات هائلة في تطور التقنية من حولنا لأنها نتاج وثمرة هذا التلاقح بين هذه المعارف التقنية الفائقة القدرة وهذا ما يفسر سبب التطور العجيب في تقنية الذكاء الاصطناعي خصوصا إذا ما ارتبطت بتقنية (البيانات الضخمة Big Data).

مستقبل الأزمات الاقتصادية في زمن الخوارزميات

في قطاع المال والأعمال مثل أسواق البورصة والأسهم أو التعاملات البنكية أو التجارة الدولية يوجد كما هائلا من البيانات والمعلومات والتقارير وبمثل هذا التدفق والفيض الهائل من البيانات تنشأ فرصة لمزيد من الازدهار الاقتصادي أو في المقابل مزيد من احتمالية وقوع الكوارث والأزمات المالية. وهنا يدخل دور تقنية الذكاء الاصطناعي المعززة بتقنية البيانات الضخمة لاستخدام خوارزميات علم البرمجة وتقنيات التعلم الذاتي لتحليل تلك البيانات الضخمة وتفسيرها ومن ثم التعرف على الأنماط التي تشكل هذه البيانات مما يؤدي في نهاية المطاف لإمكانية: إما التنبؤ الدقيق للمؤشرات الاقتصادية أو في المقابل اكتشاف مصادر الخلل والتحذير من توابع وآثار لقرارات الخاطئة.

تاريخ نشر هذا المقال هو يوم 19 من شهر أكتوبر وهو يتوافق مع تاريخ ذكرى واحدة من أسوء الكوارث المالية التي حصلت في عالم الاقتصاد حيث حدث انهيار حاد في أغلب الأسواق المالية الكبرى ولهذا أصبح يوم الإثنين التاسع عشر من شهر أكتوبر لعام 1987م يعرف بيوم (الإثنين الأسود). لقد بلغت الخسائر المالية في ذلك اليوم العصيب حوالي اثنين ترليون دولار (بالتحديد 1710 مليار دولار) وإذا علمنا أن الناتج المحلي الأمريكي السنوي في عام 1987م كان (4860 مليار دولار) فهذا يعني أنه في يوم واحد فقط خسرت الأسواق المالية العالمية ما تجمعه أمريكا من دخلها المالي القومي خلال أربعة أشهر وهذا يعطينا تصور لماذا سميت تلك الكارثة المالية العالمية القاصمة بيوم الإثنين الأسود. بقي أن نقول إن من أسباب حصول هذا الانهيار المريع في البورصات العالمية الكبرى (العديد منها خسر في ذلك اليوم أكثر من 30% من قيمته السوقية) حصول حالة هلع جماعية مفاجأة صاحبها سلوك مالي سلبي تمثل في البيع المكثف للأسهم المالية. في عام 1992م حصل عالم الاقتصاد الأمريكي غاري بيكر (أحد رواد الجيل الثالث لمدرسة شيكاغو الاقتصادية المشهورة) على جائزة نوبل في الاقتصاد لأنه خلط علم الاجتماع وعلم النفس بعلم الاقتصاد وتأثير السلوك البشري في حركة رأس المال. وهذا يعني أنه من محددات فهم حركة الأسواق المالية ضرورة معرفة السلوك النفسي للبشر المرتبط بالتعاملات المالية عند الأزمات وهذا ما دفع عالم الاقتصاد الأمريكي روبرت شيلر الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2013م بأن يشير إلى أن ما يحدث في سوق الأسهم من المبلغات في الربح الزائد (الفقاعة الاقتصادية) أو الخسارة المفاجأة (الانهيار المالي) مصدره وسببه مرتبط بالعواطف والسلوك النفسي أكثر مما يرتبط بالمنطق الاقتصادي.

وبالعودة إلى الانهيار المالي للبورصات العالمية يوم الإثنين الأسود تجدر الإشارة إلى أنه قبل ذلك بعدة أيام أي في يوم الأربعاء 14 أكتوبر من عام 1987م أصدر مجلس النواب الأمريكي قرارا بإلغاء التخفيض الضريبي كما تم في نفس ذلك اليوم إعلان وزارة التجارية الأمريكية عن وجود زيادة في العجز بالميزان التجاري الأمريكي، وحسب نظرية القطيع التي يفسر بها روبرت شيلر حركة السوق وعملية التجارة بدأ الناس في القلق والهيجان وتقليد بعضهم في الإسراع بعملية بيع الأسهم. وبالرغم من أن البورصة الأمريكية حصل لها هزة محسوسة في يومي الأربعاء والخميس قبل إجازة نهاية الأسبوع التي تسبق الإثنين الأسود إلا أن برامج الكمبيوتر المستخدمة لنمذجة النشاط الاقتصادي فشلت في إعطاء تقييم سليم وتنبؤ صائب للسلوك الاقتصادي للأفراد اثناء الأزمات ولهذا لم تقم الحكومة الأمريكية بأخذ احتياطات الدعم المالي الكافية قبل افتتاح يوم العمل الجديد في البورصة الأمريكية في صباح ذاك اليوم الأسود.

وهذا يقودنا اليوم ونحن في زمن تنامي قدرات الذكاء الاصطناعي بالذات في مجال النمذجة التنبؤية predictive modelling لتخمين السلوك الاقتصادي للمستهلك وبالتالي فهم كيفية اتخذا الأفراد للقرارات وكيفية عمل السوق مما سوف يقود في النهاية لتوقع سليم لاحتمالية حصول الأزمات الاقتصادية والانهيارات المالية قبل حدوثها. لهذا السؤال المطروح لو أن تقنية الذكاء الاصطناعي بكامل كفاءتها الحالية كانت متاحة قبل كارثة الإثنين الأسود فهل كانت تلك التقنية الرقمية نجحت في تحذير أصحاب القرار في الدول الرأسمالية عن قرب حصول الانهيار المالي. في الواقع وبسبب الخلل البنيوي المسكوت عنه في أساس العمليات المالية الربوية والرأسمالية الجشعة تكررت في العقود الماضية العديد من الأزمات الاقتصادية الكبرى مثل الأزمة المالية الآسيوية عام 1997م (حرب العملات ضد النمور الآسيوية) وأزمة الرهن العقاري 2008م (بسبب القروض الربوية عالية المخاطر) وأزمة كورونا وانهيار سوق الأسهم العالمية (الخميس الأسود 12 مارس 2020م). للأسف لم تنجح حتى الآن تقنية الذكاء الاصطناعي المعززة بتقنية البينات الضخمة من التنبؤ مسبقا بقرب وقوع أي أزمة اقتصادية كبرى فهل يمكن أن يتغير هذا الأمر في مستقبل الأيام وتنجح تقنية الذكاء الاصطناعي الموظفة في عالم المال والأعمال في التحذير المبكر من انهيار سوق النقود الرقمية (البيتكوين وأخواتها) أو التنبؤ الدقيق بكارثة التضخم المفرط hyperinflation في أسعار السلع أو التدخل قبل وقوع كارثة انهيار منظومة البنوك العالمية (global banking crash). لا شك أنه في حال حقق الذكاء الاصطناعي مثل هذا التحذير المبكر والتنبؤ الدقيق بنوعية ودرجة الأزمات الاقتصادية العلمية المستقبلية، فبلا أدنى جدال سوف يستحق علماء برمجة الحاسب وخبراء تقنية الخوارزميات أن ينالوا جائزة نوبل في الاقتصاد بجدارة مستحقة.

أما في حال استمرار فشل تقنية الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بحدوث الأزمات الاقتصادية الكبرى قبل وقوعها فالأمر سوف يكون محرجا للعلماء والمستثمرين الماليين في شركات التقنية الرقمية لأن وقتها سوف يظهر الأمر وكأن التاريخ يعيد نفسه. في عام 2000م حصل انهيارا مفاجئا وحادا في أسهم شركات التقنية التي تعمل في مجال برامج الكمبيوتر والتقنية الرقمية وهي الأزمة الاقتصادية التي عرفت باسم (انهيار شركات الدوت.كوم dot.com crash) أو التي توصف أحيانا بأنه كارثة انفجار فقاعة الإنترنت المتضخمة. فإذا كانت الشركات التي تنتج برامج النمذجة والخوارزميات التحليلية تفشل وتنهار فهل يستبعد أن تفشل البرامج والتطبيقات الرقمية التي تنتجها وفي حينها سوف تكون فضيحة مدوية للذكاء الاصطناعي لأنه في حينها قد ينكشف بأنه ليس بذكي ولا نظام خبير !! (expert system).