د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/3/4
قبل عدة أيام شاهدت باستمتاع بالغ مقطع فيديو في قناة يوتيوب لمؤرخ إنجليزي يرصد ظاهرة انحسار لبس القبعة من فوق رؤوس رجال ونساء الشعب الإنجليزي (والشعوب الغربية إجمالا) ويقول ذلك المتحدث إن جدته وجده كان من المستحيل أن يخرجا من المنزل حاسري الرأس دون قبعة. صحيح أن عادات الشعوب والأفراد في الأزياء والمظهر العالم تتغير عبر الزمن، ولكن الغريب أن بعض العادات والتقليعات تسود فترة من الدهر ثم تنحسر ثم لاحقا تعاود الظهور مرة أخرى وبزخم متصاعد. وعلى سبيل المثال لاحظت خلال السنوات القريبة الماضية تنامي ظاهرة وموضة (إعفاء اللحى) والعناية الفائقة بما يمكن تسميته بـ (اللحى الجمالية أو الفنية) عند الشباب ممن يقلد لاعبي كرة القدم الملتحين. في فترة الخمسينيات من القرن العشرين وبتأثير من نبي الشيوعية الملتحي كارل ماركس ورفيقة ذو اللحية الكثة فريدريك إنجلز كان غالبية الشباب الثائر من التيار الشيوعي والماركسي ملتحين كما هو حال فيدل كاسترو وتشي جيفارا. بينما في فترة الستينيات كان غالبية الشباب الحائر من الهيبيز يطيل شعر الرأس واللحية في حين أن الشباب المثابر على أتباع تعاليم دينه في فترة الثمانينيات تميز بإطلاق اللحية دلالة على التزامه الديني. وبهذا نرصد أن ظاهرة إطلاق اللحية لدى الشباب والرجال عبر العقود الأخيرة ارتبطت بمفهوم (التميز) عن الغير وبمبدأ (الالتزام) بالتوجهات الفكرية والسلوكية مما يعكس نوع من (الرجولة) والرسوخ.
كثيرا ما تبذل النساء جهدا ومالا ووقتا في عملية التزين والتجمل بالمساحيق والمجوهرات وفاخر الثياب ومع ذلك فاللحية المشذبة والممشطة في حد ذاتها كافية أن تكون (زينة الرجال) كما يقال ولذا منذ القدم كانت اللحية وشعر الوجه للرجل يحظى باهتمام كبير وبالغ عند معظم الشعوب القديمة كما نجده في التماثيل واللوحات الجدارية للحضارة الأشورية والسومرية والتي تظهر الرجل بلحاهم المصففة بأسلوب مذهل وجميل. في الحضارات الأخرى القديمة نجد ظاهرة مشابه من حيث إن التماثيل والرسومات على الجدران أو على النقود والورق تبين الملوك والأباطرة وهم ملتحون. فكل فراعنة مصر لهم لحية ذهبية صناعية (حتى الملكة/الفرعون حبشتسوت) ورسومات أباطرة وحكماء الصين تظهرهم غالبا وهم بلحاهم الطويلة وبالرغم من عداء الإمبراطور تشين هوانج مؤسس الصين لفكر ومنهج الفيلسوف الصيني البارز كونفوشيوس إلا أنه قلده في اتخاذ اللحية الطويلة. في الواقع هذا النوع من اللحى التاريخية يسمى أحيانا (اللحى الملحمية epic beards) لأنها مرتبطة برجال من عالم الأساطير والملحم التاريخية القديمة. للأسف الشديد قد ترتبط اللحى الكثة بالهمجية والقسوة كما هو الشائع عند قبائل الهون القوقازية أو لدى رجال شعب الفايكنج والذين هم امتداد لظاهرة اللحى الملحمية فالأساطير الإسكندنافية للفايكنج كل أبطالها من ذوي اللحى الطويلة كما نجد ذلك في لدى شخصيات الأساطير النوردية مثل الآلهة أودين وثور والمحتال لوكي وهيمدال حامى عالم آسغارد.
وبمناسبة الحديث عن اللحى الملحمية لشعب الفايكنج تجدر الإشارة إلى أنه ومنذ حوالي القرن الثامن الميلادي كان شعب الفايكنج يخصص مهرجانا خاصا للاحتفال والاحتفاء باللحى يقام كل سنة في شهر أغسطس. بعد ذلك التاريخ بحوالي قرن من الزمان يبدو أن عادة تقدير وإجلال اللحى الزاخرة انتقلت من البقاع الإسكندنافية إلى الديار الألمانية لدرجة أن الإمبراطور أوتو الأول ورأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة كان إذا أراد أن يقول شيء ذا أهمية ويؤكد عليه كان يسمك لحيته ويقسم عليها. والأغرب من ذلك أنه في أواخر العصور الوسطى في أوروبا ما زال أرث تبجيل واحترام اللحية قائم لدرجة أن لمس لحية شخص آخر بدون رضاه يعتبر إهانة كبيرة تستوجب النزال والتقاتل بالسيوف.
وفي العقود الزمنية الأخيرة تزايد الاهتمام بضرورة الاحتفال والاحتفاء بزينة الرجال (اللحى الغانمة) لدرجة تخصيص يوم في السنة لكي يصبح (يوم اللحية العالمي) والذي يتوافق دائما مع أول يوم سبت من شهر سبتمبر أي يومنا الذين نحن فيه الآن. وفي عالمنا العربي المعاصر ربما أكثر نسبة للرجال الملتحين نجدهم لدى الشعب الإماراتي الشقيق المشهورين باللحى الخفيفة ولهذا ربما لن نستغرب كثيرا أن نجد صالون حلاقة راقيا من فئة الخمسة نجوم يعلن العام الماضي في مدينة أبو ظبي احتفاله بيوم اللحية العالمي. وفي الواقع غالبية الرجال كبار السن الملتحين في البلدان العربية يفعلون ذلك لأسباب دينية أو للموروث الشعبي الأصيل وهذا يقودنا إلى أنه عبر التاريخ البشري كثيرا ما كان رجال الدين والكهنة والرهبان والحاخامات والفقهاء والأئمة هم ممن يطلق اللحية الكثيفة كأسلوب للتعبير عن التمسك بالتعاليم الدينية. وللدلالة على الترابط الوثيق بين الدين وإعفاء اللحية الكثيفة نذكر أن الرسام والنحات الإيطالي المعروف مايكل أنجلو عندما كلفته الكنيسة أن ينحت تمثالا من الرخام لنبي الله موسى عليه السلام جعل له لحية طويلة جدا جدا وأغلب من يزور كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان بروما من المتعبدين أو السياح مثلي يحرص على مشاهدة هذه المنحوتة العجيبة. وفي المقابل ولأنه في الديانة اليهودية والمسيحية يعتبر نبي الله داود هو مجرد ملك وليس نبيا لذا نجد أن تمثال مايكل أنجلو الذي نحته للملك داوود بزعمهم جعله على هيئة شاب وسيم حليق الذقن والوجه وفق التمثال الهائل الحجم والموجود حاليا في متحف مدينة فلورنسا الإيطالية.
منذ فجر البشرية وأغلب الحضارات والثقافات الإنسانية تنظر للحية الرجالية وكأنها تجسيد مباشر للقوة والفضيلة والحكمة والمكانة الاجتماعية الرفيعة ولهذا لا غرابة أن الانطباع العام أن الأنبياء والرسل والقديسين ينبغي أن تكون لهم لحى وافرة ولاحقا انسحب هذا التصور عن الترابط بين اللحية والحكمة والحصافة حتى وصل للفلاسفة والحكماء. ومن هنا ندرك أبعاد ظاهرة (لحية الفيلسوف Philosopher's Beard) والتي لا تقف عند حقيقة أن أشهر فلاسفة اليونان مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو وزينون الرواقي كانوا من أصحاب اللحى بل وصل الأمر زمن الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس (الذي كان هو نفسه رجلا ملتحيا وفيلسوفا في نفس الوقت) عندما منح كرسي الفلسفة لأحد الحكماء ارتفعت أصوات الاحتجاج في أثينا على هذا الاختيار لأن ذلك الرجل كان أمرد الوجه ولا لحية له. والغريب أنه في زمن العصور الكلاسيكية للفلسفة اليونانية وجدت عدة مدارس وطوائف فلسفية مختلفة ولهذا أحيانا كان يتم التمايز فيما بينهم بنوع رعايتهم للحية وأسلوب تشذيبها. فأتباع المذهب الفلسفي التشاؤمي (الطريقة الكلبية cynicism) كانوا يطلقون لحى طويلة مهملة ومتسخة في حين أن الفلاسفة الرواقيين كانوا يشذبون لحاهم ويغسلونها أحيانا بينما طائفة الفلاسفة المشائين هم أكثر من يعتني بلحاهم عناية فائقة. صحيح أن هذا الترابط بين اللحية والحكمة والفلسفة لم يتواصل عبر العصور فمنذ زمن الإمبراطورية البيزنطية ظهرت المقولة المشهورة (اللحية لا تصنع الفيلسوف) وهي في الحقيقة مقولة قديمة وإن كان البعض يعتقد أن أول من أطلقها الفيلسوف العربي ابن رشد.
وفلسفة إعفاء اللحية كدلالة وعلامة على الذكاء والحكمة والمعرفة تقودنا إلى ظاهرة أخرى فيما يتعلق بتأثير اللحية في الفكر والثقافة الإنسانية وهي انتشار تربية شعر الوجه واللحية في قوائم عباقرة المبدعين من الأدباء والشعراء والرسامين. لقد قمت بحصر وإحصاء عدد الأدباء (الملتحين) الذين حصلوا على جائزة نوبل في الأدب (بالمناسبة ألفرد نوبل نفسه كان رجلا ذا لحية غانمة) فوجدت أن عددهم في حدود 22 أديبا ملتحيا. وهذا وإن كان رقما كبيرا إلا أنه لا يعكس بجلاء ظاهرة (اللحى المؤثرة في التاريخ البشري) لأن القرن العشرين انتشرت فيه عادة حلق اللحى بل وحتى الشوارب التي كانت الأنظمة البريطانية تمنع حلقها خصوصا على ضباط الجيش !!. على كل حال أبرز (رجالات) الأدب هم من الملتحين ولن أذكر الشعراء والأدباء العرب فالأصل أنهم في القديم كانوا ملتحين، ولكن يكفي أن نشير لذوي اللحى من رواد الأدب مثل شكسبير وفكتور هوغو وتشارلز ديكنز وإيميل زولا وطاغور وبرنارد شو ووالت وايتمان وإرنست همنغواي وهنرك إيبسن وهرمان ملفيل وجوزيف كونرد ودي إتش لورانس وشيخ الأدباء الملتحين الذي ما زال على قيد الحياة النيجيري وولي سونيكا.
زيارة لمتاحف الملتحين الثلاثة
في المساق السابق لحشد الأمثلة المتوافرة على ظاهرة الترابط بين اللحى الوافرة وبين العبقرية الأدبية اعتمدت على نباهة القارئ الكريم ومعرفته بأن أغلب رموز الأدب الروسي هم من الرجال ذوي اللحى الوافرة وربما النافرة ولهذا هم يستحقون أن يفردوا بحديث ومساحة خاصة. ولذا يمكن أن نضيف إلى قائمة الأدباء السابقة أسماء رواد الرواية الروسية الملتحين من مثل العمالقة الكبار: ليو تولستوي وفيودور دوستوفيسكي وأنطوان تشيخوف وألكسندر بوشكين وإيفان تور غينيف وطبعا ألكسندر سولجينتسين والذي هو آخر أشهر الأدباء الروس والذي يتميز كذلك بأنه الوحيد من الكتاب الروس الملتحين الحاصل على جائزة نوبل في الأدب والغريب أن حصوله على تلك الجائزة المرموقة تسبب في نفيه من الاتحاد السوفيتي !!.
الجدير بالذكر فيما يخص الديار الروسية وكثرة اللحى الكثة فيها أنه عندما تولى السلطة فيها القيصر بطرس الأول (أحد أكثر الشخصيات تأثيرا في تاريخ روسيا) قام بزيارة مطولة لأوروبا استمرت عدة سنوات لكي يتعلم منهم أساليب النهضة العلمية والحضارية. لكن من حماقة تفكير هذا القيصر الملقب بـ (بطرس العظيم) أنه انخدع بالمظهر ولهذا حاول كذلك نقل عادات أوروبا في الملبس والمظهر العالم ولهذا وكمحاولة منه إلى تحسين مظهر شعبه أصدر قانونا يجبر الرجال على حلق لحاهم أو دفع غرامة مالية سميت (ضريبة اللحية) وهي دفع مبلغ سنوي يصل إلى مائة روبل وهو مبلغ كبير في القرن السابع عشر. ومن الملاحظ أن الشعب الروسي حتى مطلع القرن العشرين كان غالبيته ما زالت تحتفظ بمظهر الرجولة الكاملة المزينة بلحية مشذبه أو كثه وكأن الأمة الروسية الأرثوذكسية المتدينة استمرت في توفير وتوقير اللحية ولهذا كبار المشاهير من أدباء وعلماء ومفكري تلك البقاع هم من الرجال الملتحين.
في عام 2019م كنت في زيارة سياحية مع بعض الأصدقاء لروسيا وعند التخطيط والترتيب لبرنامج الرحلة علمت أن للأديب الملتحي تشيخوف عدة متاحف في مناطق متعددة منها اثنين في مدينة موسكو ولكن بسبب ازدحام جدول السفر ركزنا أكثر على الأهم فلمهم. ولهذا بدأنا بزيارة الروائي ذي اللحية العامرة والنافرة تولستوي (الذي لا يجاريه في طول لحيته وشعثها إلا الشاعر الأمريكي والت ويتمان وإلى حد ما شاعر الهند طاغور) وعلى كل حال استقبلنا تولستوي وزوجته (أو في الواقع صورتهما بالحجم الطبيعي) في مدخل منزله العامر الذي تحول إلى متحف مميز. وفي الساحة الحمراء في وسط موسكو حاولت أن أزور (الرجل ذو اللحية الحمراء) وأقصد بذلك الزعيم الشيوعي والرئيس السوفيتي فلاديمير لينين حيث إن جثته المحنطة تعرض للجهور في ضريح خاص بالقرب من سور الكرملين لكن حال دون ذلك صف طويل جدا من السياح يتحرك ببطء لذا تم إلغاء الوقوف أمام ذلك الملحد والتفكر في مصيره كما حصل عندما وقفت أمام قبر فولتير في البانثيون بباريس أو مومياء الفرعون رمسيس الثاني الملقب بفرعون موسى عليه السلام.
في الواقع نتج عن الرحلة للديار الروسية كتابتي لمقال (موسكو في الذاكرة العربية) وكذلك كتابة خاطرة مطولة حملت عنوان (في متاحف الملتحين الثلاثة) أشرت فيها لزيارتنا في موسكو لمتحف تولستوي صاحب رواية (الحرب والسلام) ومرورنا في مدينة سانت بطرسبرج على شقة ومتحف صاحب روايات (الجريمة والعقاب) و(الإخوة كارامازوف) وأعني بذلك الروائي الملتحي وفخر روسيا دوستوفيسكي. أما صاحب اللحية الغانمة الثالث الذي زرته في متحفه في قسم الكيمياء بجامعة سانت بطرسبرج فقد كان صاحب أكبر لحية في دنيا العلوم وأقصد به الكيميائي الروسي ديمتري مندلييف صاحب الجدول الدوري للعناصر الكيميائية. ومن توفيق الله سبحانه وتعالى لي أنا الكيميائي أنني زرت جناح مندلييف في قسم الكيمياء في عام 2019م لأن ذلك كان يتوافق مع السنة التي اعتمدتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو بأن تكون (السنة الدولية للجدول الدوري 2019) وذلك بمناسبة مرور 150 سنة بالضبط على إنجاز مندلييف في ذلك الجناح من قسم الكيمياء بجامعة سانت بطرسبرج لاكتشافه التاريخي بالغ الأهمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق