الأربعاء، 11 ديسمبر 2024

( من تحت الأنقاض تنهض مدينة عظمى )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1446/2/20 الموافق 24 أغسطس

 في الأساطير الإغريقية والرومانية القديمة توجد أهمية خاصة لأخبار وقصص سقوط واضمحلال المدن الكبرى مثل طروادة الأناضولية وبومبي الإيطالية وقرطاج التونسية وأطلنتس الأسطورية. بل بلغ الأمر لأهمية سقوط مدينة طروادة أن مشهد حرقها وتخريبها كان آخر فصول الملحمة التاريخية (الإلياذة) للشاعر اليوناني هوميروس وذلك الحدث الرهيب لحريق طروادة هو مفتتح ومطلع الملحمة الشعرية (الإنياذة) للشاعر الروماني فيرجل. ومع ذلك فيما يخص مدينة طروادة الأسطورية عندما أكتشف علماء الآثار أخيرا موقعها الحقيقي في نهاية القرن التاسع عشر وجودوا أن تلك المدينة الخالدة لم تنته قصتها مع خدعة حصان طروادة وقيام جنود الملك مينلاوس ملك إسبرطة بحرق المدينة وإزالتها من الوجود وصفحات التاريخ. لقد وجد علماء الآثار أن مدينة طروادة في الواقع كانت عبارة عن تسع طبقات تاريخية منفصلة وأن قصة حريق طروادة وصراع آخيل وهكتور كان في الطبقة السابعة والتي حُدد تاريخها بأنه في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد. والمعنى أن تلك المدينة العريقة تجدد اضمحلالها ونهوضها عبر التاريخ فقد كانت تنهض مرة بعد أخرى من تحت الأنقاض ولم ينطفئ وهجها فجأة. بل لقد زار الإسكندر الأكبر مدينة طروادة في منتصف القرن الربع قبل الميلاد وهي في طبقتها الثامنة (Troy VIII) وكان يعتزم أن يقيم فيها أكبر معبد في العالم لإلهة الحكمة والحرب الإغريقية أثينا كما اهتم بتلك المدينة بشكل بالغ القيصر أغسطس الإمبراطور الأول للإمبراطورية الرومانية.

والمقصود من هذه المقدمة والمدخل أن بعض المدن العريقة قد يحصل لها لحظة ضعف عندما يحدث أن تدمر بالكامل وتسوى بالأرض وهنا يتوقع البعض أن تاريخها قد انتهى وتلاشى بينما في الواقع هي كانت في مرحلة انتقالية سرعان ما يتلوها فترة ازدهار وبزوغ وخلود. وفي الواقع ربما لا توجد مناسبة أفضل من اليوم السبت 24 من شهر أغسطس لتسليط الضوء على هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ المدن العظمى والعواصم والحواضر البشرية الكبرى. والسبب في ذلك أن تاريخ (24 من أغسطس) شهد تكرار هذه الظاهرة مع مدن بارزة مثل العاصمة الإيطالية روما والعاصمة الأمريكية واشنطن حيث تعرض كل منهما (ولاحقا موسكو وبرلين) لسقوط مدوي وتخريب وتدمير على يد الأعداء ثم تلى ذلك نهوضا سامقا ورخاء باذخا وكأن تلك المدن هي طائر النار العنقاء أو الفينيق الذي يعيد تكرار النهوض من تحت رماد الحريق.

في يوم 24 من أغسطس من عام 410 ميلادي حصلت الحادثة المشهورة في كتب التاريخ المسماة (خراب مدينة روما Sack of Rome) وذلك عندما اجتاحت جحافل البرابرة الجرمان القدماء بوابات مدينة روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية والملقبة بالمدينة الخالدة. قام الغزاة القوط الغربيون بقيادة ملكهم ألاريك الأول بنهب وتدمير قصور وأضرحة وكنائس مدينة روما ولهذا كانت هذه الحادثة والنازلة هي اللحظة الحاسمة في التاريخ التي توصف بأنها لحظة تلاشي الإمبراطورية الرومانية التي استمرت لحوالي ثمانية قرون. لقد بلغ من درجة اليأس الكامل بأن مدينة روما المدينة الخالدة زالت هيمنتها واضمحلت مكانته أن قام القديس أوغسطين أحد أبرز آباء الكنيسة بعد سقوط روما مباشرة بتأليف ونشر كتابه (مدينة الله) والذي طرح فيه فكرة وجوب عدم التركيز على مدينة البشر الزائلة وبدلا من ذلك الاهتمام بالدار الآخرة التي فيها مدينة الرب الخالدة. على كل حال كما هو معلوم لم ينته التاريخ هنا إذا بعد ذلك الحدث الجلل والتدمير الشامل للمدينة المقدسة المسيحية وبالرغم من حصول نهب وتدمير إضافي لمدينة روما عام 455 م على يد قبائل الفندال الجرمانية إلا أنه ومع مرور الزمن أصبحت مكانة مدينة روما أعلى وأكبر بعد أن أصبحت هي حاضنة الكنيسة المسيحية وحاضرة الفاتيكان ولهذا ولمدة أكثر من ألفية ونصف من الزمن وروما هي أهم مدينة في العالم النصراني.

وعلى نفس النسق نجد أنه في يوم (24 أغسطس) من عام 1814م حصلت حادثة (حريق واشنطن) أو ما يسمى كذلك بسقوط واحتلال مدينة واشنطن من قبل القوات البريطانية. فبعد عقود من اندلاع الثورة الأمريكية الكبرى وإعلان الاستقلال عن التاج البريطاني وبعد تنامي ثقة الحكومة الأمريكية الوليدة بنفسها لدرجة مهاجمة المستعمرات البريطانية في كندا، لهذا لم يكن مستغربا أن ترد الإمبراطورية البريطانية الصاع صاعين وتتغلغل في عمق الأراضي الأمريكية لدرجة غزو العاصمة واشنطن. وفي هذا اليوم 24 أغسطس لعام 1814م بدأ التدمير والحرق الممنهج من قبل القوات البريطانية لأبرز المعالم العمرانية في واشنطن فقد تم تخريب وحرق مبنى البرلمان الأمريكي (الكابيتول القديم) ومبنى البيت الأبيض بعد أن فر منه الرئيس الأمريكي جيمس ماديسون وزوجته دولي وكذلك تم حرق العديد من المباني الحكومية الأخرى مثل مبنى وزارة الحرب ومبنى وزارة المالية. وبالجملة حصل دمار هائل وتخريب شامل لمدينة واشنطن العاصمة كان يقصد منه إذلال الشعب الأمريكي وكسر شوكة المقاومة والاستقلال لديه، ولكن مع مرور الزمن نجد مرة أخرى أن مدينة عظمى نهضت من تحت أنقاض الركام ورماد السخام وما كاد ينتهي القرن التاسع عشر إلا والعاصمة الأمريكية واشنطن دي سي تنافس بقوة العواصم الكبرى مثل لندن وباريس وبرلين على سيادة العالم.

 نهوض المدن المنكوبة .. مزيد أمثلة

بالمناسبة الحريق المتعمد لمدينة واشنطن حصل في صيف عام 1814م بينما في كتب التاريخ كثيرا ما يذكر هذا الحدث وكأنه امتداد وحلقة في سياق الحرب والصراع العسكري الذي اندلع عام 1812م بين القوات البريطانية الغازية وجيش المقاومة الأمريكي. وما يهمنا هنا أن نشير إليه أنه في نفس تلك السنة أي 1812م حصل غزو وحريق لمدينة كبرى أخرى وذلك عندما قام الجنرال والإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت بتوسيع الحروب النابليونية في القارة الأوروبية لتشمل كذلك اجتياح أراضي الإمبراطورية الروسية. ولهذا في نهاية صيف عام 1812م تمكنت القوات الفرنسية من اجتياح مدينة موسكو وبعد ستة أيام من النهب والتخريب نتج عن (حريق موسكو) الذي خلف تدمير ثلاثة أرباع المدينة المنكوبة. ومرة أخرى لم تكن تلك الكارثة الكبرى والهزيمة المذلة هي نهاية المطاف لدور مدينة موسكو في مشهد الساحة الدولية فسرعان ما استرجعت وهجها وثقلها السياسي والاقتصادي ونهضت لكي تكون إحدى أهم وأجمل المدن الأوروبية في القرن التاسع عشر بالرغم من اتخاذ مدينة سانت بطرسبرج كعاصمة مؤقتة للإمبراطورية الروسية القيصرية.

في نهاية صيف عام 1812م وبالتحديد في منتصف شهر سبتمبر من تلك السنة علم نابليون أنه تأخر كثيرا في إكمال اجتياح روسيا واحتلال العاصمة موسكو ولأنه يدرك أن الشتاء الروسي القارس على الأبواب لذا فكر بالانسحاب من روسيا بعد أن أرتكب جريمة حرق عاصمة الإمبراطورية. سوف يتكرر هذا المشهد نفسه بعد أكثر من قرن من الزمن عندما تتعثر خطة هتلر في غزو روسيا ويستطيع الجنرال الثلجي الروسي من إلحاق الهزيمة الساحقة مرة أخرى بجيوش الأعداء ولهذا تقهقر الجيش النازي المليوني كما تقهقر الجيش الكبير الفرنسي. وفي حين إن نابليون خسر مستقبلة السياسي حيث أجبر على التنازل عن الحكم بعد مغامرة الشتاء الروسية كان نصيب هتلر أسوأ .. الجيش الأحمر الروسي أحتل برلين. (معركة برلين) وهزيمة الرايخ الثالث وسقوط ألمانيا النازية حصل في شهر أبريل من عام 1945م وذلك بعد سنوات من القصف المتواصل من قبل طائرات الحلفاء على مدينة برلين التي تحولت فعليا إلى أكوام من الركام. وبعد تعرض مدينة برلين لوحدها خلال سنوات الحرب العالمية الثانية لحوالي 363 غارة جوية تم فيها إسقاط عشرات الآلاف من القنابل الضخمة ليس من المستغرب قبول التقديرات التي تشير إلى أن حوالي 80% من مباني مدينة برلين أصابها الدمار والحريق. ومع ذلك وكما لاحظنا في حالة مدن روما وواشنطن وموسكو كانت العاصمة برلين مثال آخر لحقيقة أنه (من تحت الأنقاض تنهض مدينة عظمى) فالعاصمة الألمانية ومنذ عقود هي بلا منازع أقوى مدينة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي والقارة العجوز.

 وفي الختام أود التنبيه إلى أنه بهدف اختصار المقال تم التركيز فقط على أمثلة المدن التي تعرضت للتدمير والتخريب البشري المتعمد ولم نناقش المدن العالمية التي تعرضت للكوارث الطبيعية المدمرة ثم نهضت من تحت ركام الزلازل الهائلة مثل العاصمة البرتغالية لشبونة عام 1755م أو زلزال سان فرانسيسكو الكبير عام 1906م وكذلك حريق مدينة لندن الماحق عام 1666م ومثله حريق شيكاغو المشهور عام 1871 ميلادي. بقي أن نتساءل ماذا عن المدن العربية والإسلامية وهل تتكرر بها هذه الظاهرة السالفة الذكر ولعل أفضل ما يمكن سرده هنا أنه نتيجة للغزو المغولي لبلاد خوارزم في مطلع القرن السابع الهجري قام جنود اللعين الأثيم جنكيزخان بتدمير مدينتي سمرقند وبخارى بشكل كامل. ومع ذلك الزائر اليوم لمدينة سمرقند سوف يقف مذهول أمام جمال فن العمارة الإسلامية للمدارس الدينية في ساحة ريجستان والتي تم بدء إنشائها بعقد قرنين بالتمام من الغزو المغولي وكذلك مدينة بخاري الأوزبكية نهضت من تحت الركام ولهذا معالمها التي تفخر بها منذ قرون طويلة مثل مدرسة مير عرب ومنارة كاليان وسورها الضخم كلها ظهرت بعد مرحلة التدمير المغولي الهمجي.

وعلى ذكر التدمير المغولي للمدن الإسلامية تنتشر مقولة أن مدينة بغداد لم تقم لها قائمة بعد تخريب هولاكو وجنوده البرابرة لها وبالرغم من أن هذا الحكم غير دقيق فإن بغداد بقي لها شيء من وهجها الحضاري وتأثيرها السياسي عبر القرون الأخيرة. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن لعاصمة الخلافة العباسية وضعا غريبا مع ظاهرة (النهوض من تحت ركام الخراب)، فالمعروف أن (سقوط) بغداد على يد المغول حصل في 646 هجري ولكن (المسكوت عنه) أن مدينة المنصور المدورة تكرر سقوطها ونهوضها مرارا قبل ذلك التاريخ. عندما حصل النزاع بين أبناء هارون الرشيد والقتال الدامي بين جند الأمين وعسكر المأمون تسبب ذلك في دمار هائل لمدينة بغداد لدرجة أنه رثى حالها الموحش والخراب الذي لحق بها العديد من الشعراء ومنهم الشاعر عمرو العتري وله أبيات مشهورة ذكرها ابن كثير في تاريخه:

من ذا أصابك يا بغداد بالعينِ          ألم تكوني زمانا قرة العينِ

ألم يكن فيك قومٌ كان مسكنهم          وكان قربهم زينا من الزينِ

والجدير بالذكر أن بغداد أهملت بعدما انتقل عنها الخليفة المعتصم بالله وبنى عاصمته الجديدة (سُرّ من رأى) ومن بعده ابنه الخليفة المتوكل هجر عاصمة المعتصم (ساء من رأى/ سامراء) وأنشاء دار خلافة جديدة (المتوكلية). والمقصود أن كثرة صرعات أبناء خلفاء بني العباس (حصل صراع بين أبناء الرشيد ولاحقا بين أبناء المتوكل) وتكرار انتقال دار الخلافة تسبب ذلك في هجران بل وخراب مدينة بغداد. وللدلالة على ذلك نذكر أن الرحالة العربي شمس الدين المقدسي زار مدينة بغداد في حدود عام 357 هـ وقد سجل رصده لحالة مدينة بغداد في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) وفيه يصف بغداد بأنها خراب وأنه خفّ أهلها وكان من نقصان السكان أن الجامع يعمر في الجمع ثم ختم بقولة (وهي في كل يوم إلى ورا وأخشى أنها تعود كمدينة سامراء). والغريب أن مدينة بغداد بعد الاجتياح والتدمير المغولي أخذت تتعافى وتنهض قليلا قليلا مع الزمن ومع ذلك ظلّ النصف الغربي لمدينة بغداد وهي منطقة الكرخ على الجانب الغربي لنهر دجلة، ظلت ربما لقرون وهي خراب وهذا ما رصده واستغرب منه كل من زار مدينة بغداد بعد الاجتياح المغولي مثل الرحالة ابن جبير الأندلسي  وابن بطوطة. وسبب الغرابة أن أبا جعفر المنصور عندما بدأ في بناء مدينة السلام شيدها في الأصل في منطقة الكرخ ثم لاحقا توسعت إلى الجهة الشرقية من نهر دجلة في الموقع المسمى بالرصافة فكيف تهمل أعرق منطقة في عاصمة الخلافة.

كلمة أخيرة قبل أن نغادر، أحد الأسباب الرئيسية لكتابة هذا المقال هو ما حصل مؤخرا وفي الواقع منذ شهور من تناقل كثيف لصور الدمار الرهيب والشنيع الذي أصاب مدينة غزة على يد الصهاينة مغول العصر. قد تصيب تلك المناظر المؤلمة للمنازل المهدمة والمعالم العمرانية المدمرة، البعض منا باليأس والهزيمة الشعورية بأن القضية الفلسطينية في الأراضي المحتلة تلفظ أنفاسها وأنه لا قيام ولا نهضة لقطاع غزة الذي انقطع عن العالم. صحيح أن مدينة غزة ليست مدينة كبرى ولكن لها قضية عظمى هي رمز لها وبالقطع بمشيئة الله من تحت ركام الأنقاض ورماد الحرائق سوف تنهض مدينة غزة العزة لأن المقاومة فكرة .. والفكرة لا تموت بل تنمو وتنهض وتتمدد.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق