الأربعاء، 11 ديسمبر 2024

( الأمراض المعدية .. ودراما شقاء الحيوان بسبب الإنسان !! )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1446/2/27

 الأسبوع الماضي ثارت ضجة عالمية سببها إعلان منظمة الصحة العالمية حالة (القلق) بسبب تزايد انتشار حالات الإصابة بمرض (جدري القرود) في عدد من الدول الإفريقية وإن كان المنظمة الصحية تراجعت خطوة للوراء عندما وصفت الوضع بأنه لم يصل بعد لدرجة الوباء. بالجملة ظهور وانتشار الأمراض الجديدة تعتبر ظاهرة اعتيادية في مسيرة البشر وهو أمر يتكرر كثيرا فعدد الأمراض التي تصيب جسم الإنسان عدد مهول جدا فحسب قاعدة بيانات الدولية لحصر الأمراض البشرية (MalaCards Database) يوجد حوالي 23 ألف مرض مختلف تصيب جسم الإنسان منها حوالي (1025 مرضا معديا).

لذا احتمالية إصابة الواحد منا بأي مرض عضوي أو جيني أو عصبي أو نفسي أو غيرها أمر وارد جدا فلماذا حالة الهلع من ظهور مرض جديد هو من ضمن آلاف الأمراض التي قد تصيب البشر. السبب في حالة الهلع المتزايدة في السنوات الأخيرة هو الخوف الهستيري لدى شرائح واسعة من المجتمع من احتمال العدوى بأي مرض ينتقل للإنسان من الحيوانات بالذات كما حصل في السنوات الماضية من ظهور أمراض ذات أسماء رنانة مثل: جنون البقر وإنفلونزا الخنازير وكورونا الإبل وداء الكَلَب وحمى الببغاء.

وحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية يوجد هنالك أكثر من 200 نوع معروف من الأمراض التي تنتقل للبشر عن طريق الحيوانات وهذا الصنف من الأمراض المعدية أتفق العلماء على تسميتها بالأمراض الحيوانية المنشأ (Zoonosis). تجدر الإشارة إلى أن دراسات استقصائية طبية متعددة توصلت إلى أن حوالي 62% من (الجراثيم) والكائنات الدقيقة الممرضة pathogens مثل البكتيريا والفيروسات والطفيليات يمكن أن تتنقل (وتقفز) بين الكائنات المختلفة ولهذا يستطيع نفس الفيروس مثلا إصابة أنواع مختلفة من الكائنات بنفس المرض. صحيح أن أكثر الأمراض شهرة التي ظهرت في العقود الأخيرة مثل الإيدز والإيبولا وكورونا هي أمراض انتقلت للإنسان من الحيوانات وصحيح أن أكثر الأمراض رعبا في التاريخ البشري مثل الطاعون الأسود وأكثرها فتكا مثل الملاريا هي أمراض تنتقل عبر الكائنات الحية.  ولكن يجب ألا نغفل حقيقة (مسكوت عنها) أنه توجد كذلك تشكيلة من الأمراض المعدية الشنيعة تكون (معكوسة reverse) بمعنى أنها تنقل من الإنسان إلى الحيوان ولهذا تسمى (Reverse Zoonosis).

الطريف في الأمر أننا ما زلنا نتذكر في بداية انتشار وباء كورونا (مرض كوفيد 19) في منتصف عام 2019م الإشاعات والأخبار المتناقلة أن بداية ظهور الوباء من مدينة ووهان الصينية كان بسبب انتقال المرض من الخفافيش إلى البشر وهذه إشاعة ثبت أنها غير دقيقة والخفافيش بريئة من تشويه السمعة ذاك. ولكن بعد ذلك بسنتين أي في عام 2021م نجد أن المنظمة العالمية لصحة الحيوانات (بالمناسبة تحتفل هذه المنظمة هذه السنة بمرور مائة سنة على نشأتها) لاحظت أن من أكثر الأمراض التي كانت تصيب الحيوانات في الفترة الأخيرة هي أصابه الكلاب وبعض الحيوانات المنزلية بمرض فيروس (كوفيد 19) مما يعني أن الإنسان تسبب في نقل عدوى وباء الكورونا لحيواناته الأليفة التي تحتك به. ليس هذا وحسب فقد رصدت تلك المنظمة العلمية أن مرض فيروس كوفيد 19 قد أنتشر في حوالي 23 نوعا مختلفا من الحيوانات المتنوعة سواء كانت حيوانات أليفة pets أو حيوانات المزارع وحدائق الحيوان أو حتى الحيوانات البرية نادرة الاحتكاك بالإنسان أصلا. في الواقع أود أن أسترجع معلومة أن عدد الأشخاص الذين توفوا بسبب الإصابة بفيروس وباء الكورونا زاد عن سبعة ملايين ضحية وأن عدد الأشخاص الذين أصيبوا بعدوى فيروس كوفيد 19 ربما وصل إلى 760 مليون مصاب كنت أنا وأسرتي منهم وكذلك مئات الآلاف وربما الملايين من هؤلاء المصابين اضطروا لدخول المستشفى لفترات متفاوتة. ما أود الوصول له أن (وباء) كورونا تسبب في العديد من المصائب والأحزان للبشر وبحكم أن عددا ضخما من الحيوانات المنزلية انتقل إليها هذا المرض عن طريق البشر فكم هو مقدار الشقاء الذي تسبب فيه الإنسان لرفيقة الحيوان أثناء جائحة كورونا.

وبالرغم من أن شراسة فيروس كوفيد 19 والتي استمرت حتى الآن لدرجة أن العديد من البشر أصيبوا في العام الماضي بنزلة برد حادة لم يعتادوا على مثلها من قبل إلا أن شراسة هذا الفيروس هي أقل بدرجة ملحوظة فيما يخص الحيوانات التي أنتقل لها المرض عن طريق الإنسان. لا توجد إحصاءات محددة عن عدد الحيوانات التي نفقت وفارقت الحياة بطريقة مباشرة بعد إصابتها بفيروس وباء الكورونا ومع ذلك فالحقيقة الصادمة أن عدد ضحايا الحيوانات التي قتلت وأعدمت بعد إصابتها بفيروس كوفيد 19 هو عدد مهول بشكل مفزع. السبب في ذلك أن الفيروسات التاجية Corona Viruses المسببة لما يسمى طبيا (المتلازمات التنفسية الحادة) المؤثرة على الجهاز التنفسي، هذه الفيروسات سهلة (التنقل والقفز) بين الإنسان والحيوان كما سبق وأن ذكرنا. فعلى سبيل المثال إحدى الدراسات الطبية أثبتت أن بعض الحيوانات الأليفة المنزلية مثل الهامستر الشبيه بالفأر بعد انتقال فيروس وباء الكورونا إليه من الإنسان استطاع هذا الحيوان اللطيف في الظاهرة في التسبب في عدوى عدة أشخاص بفيروس مرض الكورونا. وهنا أنتشر القلق في المجتمع الطبي ومجتمع تربية الماشية والحيوانات والسبب في ذلك أنه في فترة انتشار وباء كورونا في عام 2020 وعام 2021 وجد احتمال أن العدوى بالمرض تحدث ليس فقط من خلال الإنسان ولكن حتى من خلال أدنى احتكاك ببعض الحيوانات. وهنا تبدأ المرحلة الثانية والأكثر قسوة في شقاء الحيوان بسبب الإنسان بعد أن ينقل الإنسان للحيوان الأمراض المعدية ومن أعجب ما حصل في فترة الهلع الشديد من فقدان السيطرة على انتشار وباء كورونا أنه في عام 2020م اكتشفت الحكومة الدنماركية انتشار فيروس كورونا في مزارع الفرو لحيوان المنك الشبيه بحيوان القندس. ولهذا أعلنت الحكومة الدنماركية في صيف ذلك العالم أنها بدأت اتخاذ إجراءات إعدام ودفن حوالي 17 مليون حيوان من حيوانات المنك اللطيفة والتي كانت تربى في مزارع خاصة للحصول على فرائها الثمين جدا. وهذا يعيد إلى الأذهان ما حصل في السنوات السابقة من تعمد قتل ما يقارب 50 مليون طائر في فيتنام بسبب الخوف من انتشار وباء أنفلونزا الطيور وقبل ذلك بسنوات عديدة إعدام حوالي 2.5 مليون من الأبقار في بريطانيا كوسيلة للحد من انتشار مرض جنون البقر.

 دراما أمراض الحيوانات مصدر إلهام جديد للأدب

المساحات المشتركة بين الإنسان والحيوانات الأليفة والمنزلية واسعة والتلاصق بينهما مؤكد ومتكرر ولهذا لا غرابة أن تنشأ بين البشر والحيوانات المنزلية مثل القطط والكلاب والطيور ألفة ومحبة قد تصل لحالة الجزع والحزن العميق في حال وفاة ذلك الصديق الوفي للإنسان. ولذا لا يستغرب أن يقوم بعض الشعراء برثاء حيواناتهم الأليفة التي نفقت وماتت ومن ذلك الشاعر العباسي أبن العلاف الذي كتب قصيدة من 65 بيتا في رثاء قطه المفضل وهذا الأديب العملاق عباس محمود العقاد عندما مات كلبه المدلل (بيجو) كتب قصيدة مطولة من خمسين بيتا في رثائه. وعلى نفس النسق نجد كبار ومشاهير الأدب الغربي تشتهر عنهم قصائد وأعمال أدبية فريدة يعبرون فيها عن جزعهم وحزنهم لموت وفقد حيواناتهم الأليفة وخصوصا الكلاب، حيث نجد الشاعر التشيلي البارز بابلو نيوردا الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1971م ونظيره الشاعر الأمريكي أوجين أونيل الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1936م فإن كلا منهما يرثي كلبه الوفي بعد نفوقه بقصيدة شعر حزنيه.

أما في مجال الرواية فنجد أن للأديب الأمريكي جون ستاينبيك (الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1963م) رواية قصيرة تحمل عنوان (المهر الأحمر The Red Pony) هي واحدة من أكثر أعماله الأدبية ذات الزخم الدرامي. تدور هذه القصة الدراماتيكية عن قصة طفل صغير يدعى جودي يمنحه والده مهرا صغيرا أحمر اللون، ولكن نظرا لمرض هذا المهر ومعاناة بسبب أصابته بمرض في القصبة الهوائية (داء الخناق) يتابع القارئ حالة الانكسار النفسي للطفل لأنه تسبب جزئيا في تدهور مرض المهر عندما نسي أن يحكم إغلاق باب الحضيرة في ليلة باردة. في الليلة التي تسبق نفوق المهر الأحمر كان الفتى الصغير جودي يقضي الليل بطوله وهو يمسح المخاط الذي يكاد أن يسد القصبة الهوائية للمهر المحتضر وذلك بعد أن قام والد الفتى جودي بشق فتحة في القصبة الهوائية للمهر حتى يتمكن من التنفس.

في الواقع في السنوات الأخيرة بعد خفوت وباء الكورونا بدأ الأطباء البيطريون في الولايات المتحدة يلاحظون تزايدا مقلقا في حالات إصابة الكلاب المنزلية بأمراض الجهاز التنفسي التي لها ارتباط بانتقال عدوى فيروس كوفيد 19 أو فيروس مرض السارس SARS الشرس (مرض متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد) من الإنسان إلى الكلاب. وهنا يمكن أن نتخيل نوع جديد من (الحبكة الدرامية) في الروايات الأدبية فبدلا من (الثيمة الأدبية) التقليدية من أن الشاعر أو الروائي يصف مشاعر شخص أو طفل فقد حيوانه الأليف ولذا يقوم برثائه والتفجع عليه. بدلا من ذلك نجد أن من رحم المأساة يولد الإبداع كما يقال ولهذا يمكن أن تكون (عقدة الرواية) أن بطل القصة طفل صغير يصاب بمرض الكورونا ثم يتسبب لاحقا في نقل عدوى هذا المرض إلى حيوانه المدلل (الجرو الأشهب The Grizzly Puppy). ونتيجة لإصابة ذلك الجرو الأشهب الرقيق والضعيف البنية لصغر سنة بمرض الكورونا سرعان ما تتدهور حالته الصحية ويصاب بضيق في التنفس كما حصل للمهر الأحمر ومن ثم نصل إلى (ذروة أحداث) الرواية عندما يعلم الطفل الصغير أنه عندما نقل عدوى المرض إلى حيوانه الأليف تسبب في القضاء عليه وموته وبالتالي يصاب الطفل بصدمة نفسية حادة. وفي الختام لا أخفي على قارئي الكريم أن السرد القصصي والحبكة الدرامية سالفة الذكر عن (الجرو الأشهب) والتناص الأدبي بين هذا الخيال الساذج وبين رواية (المهر الأحمر) هو فقط مجرد نوع من المباسطة والمشاغبة مع الأخوة الأدباء والشعراء وهذا امتداد لحقيقة أن فكرة المقال أصلا كانت مشاغبة ومباسطة مع الأخوة الأطباء بأن لا يركزون كثيرا في النظر لأي درجة تسببت الحيوانات في شقاء الإنسان، ولكن كذلك يجب ألا نغفل كلنا لأي حد تسبب الإنسان في شقاء الحيوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق