الخميس، 12 ديسمبر 2024

( موجة إعادة إحياء كراهية اليهود ومعادة السامية )

 

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت   1446/4/2

 باستثناء الولايات المتحدة لا توجد جالية يهودية تفوق الجالية اليهودية البريطانية في تأثيرها السياسي والاقتصادي والفكري وبالرغم من أن لتلك الجالية العبرية تاريخ متأصل في الجزر البريطانية إلا أنه عندما قام أديب الإنجليزية الأوحد وليام شيكسبير بتأليف مسرحة تاجر البندقية عن اليهودي الجشع شايلوك لم يكن قد سبق له على الإطلاق أن شاهد في حياته كلها أي يهودي وذلك لأن بريطانيا ظلت لأكثر من أربعة قرون وهي خالية تماما من اليهود !!. والسبب في ذلك أنه في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي وبالتحديد في عام 1290م أصدر الملك الإنجليزي إدوارد الأول قرارا يقضي بطرد كل اليهود من بريطانيا ليس هذا وحسب بل إن قرار الطرد تم اختياره في توقيت ذي دلالة لأنه تم في يوم صيام اليهود السنوي بمناسبة ذكرى خراب هيكل سليمان على يد البابليين. الجدير بالذكر أن الملك إدوارد الأول وهو يصدر قرار الطرد لليهود من بريطانيا كان يجهز نفسه وجيشه لقيادة الحملة الصليبية الثامنة ولهذا ربما شعر بأنه من الملائم وهو في طريقة إلى إنقاذ القدس من يد المسلمين أن يكرر ما حدث في الحملة الصليبية الأولى التي ابتدأت باضطهاد وقتل وتشريد اليهود من ألمانيا وعندما وصلت للقدس وسقطت في أيديهم عام 1096 تم تصفية وطرد جميع اليهود من أرض فلسطين.

طوال تاريخ الديانة المسيحية كانت العقيدة الراسخة لديهم أن اليهود هم (قتلة المسيح Christ killers) أي معبودهم الذي يعتقدون أنه ابن الإله وهو ثالث ثلاثة وهذا الموقف الديني واللاهوتي المعادي والكارهة لليهود يفسر لماذا امتد أثم وخطيئة قتل المسيح في نظر النصارى ليس فقط على اليهود في زمن المسيح ولكن لجميع الأجيال المتعاقبة من أبناء اليهود. وبناءً على مسبق تعرض اليهود عبر التاريخ للاضطهاد والتشريد والاحتقار كما قال سبحانه وتعالى (ضربت عليهم الذلة والمسكنة) وهو ما أسفر عن وقوع المذابح ضد اليهود في زمن الحروب الصليبية ولاحقا طرد اليهود من أغلب الدول الأوروبية وتعرضوا لويلات محاكم التفتيش الإسبانية والبرتغالية وأخيرا تمت إبادتهم في محرقة النازية.

وبمناسبة ذكر محرقة الهولوكوست النازية ضد العرق اليهودي تجدر الإشارة إلى أن عملية تجميع اليهود في معسكرات الاعتقال ثم تصفيتهم لاحقا من خلال أفران الغاز تعرف في كتب التاريخ باسم (الحل النهائي Final Solution) وهذه التسمية لعملية تصفية اليهود اختيرت بعناية (كإجابة) لمصدر قلق كان مطروحا لقرون طويلة في دوائر الحكم الأوروبية وهو ما كان يعرف بـ (المسألة اليهودية Jewish question). وبالجملة يقصد بمفهوم المسألة اليهودية أو المشكلة اليهودية هو الوضع القانوني والسياسي والمدني للأقلية اليهودية في المجتمعات الأوروبية والأسلوب الأمثل لإذابة اليهود واستيعابهم في نسيج المجتمع أو التخلص منهم بتوفير وطن بديل لهم أو حتى بإجبارهم على ترك الديانة اليهودية وطبعا كان في نهاية المطاف من ضمن الحلول تفعيل (الحل النهائي) النازي باعتقال وطرد وتصفية جميع اليهود. والغريب في الأمر أن (المشكلة اليهودية) وصلت حتى إلى الولايات المتحدة وهذه نقطة مجهولة من التاريخ حيث حصل طرد لطوائف من اليهود وذلك في عام 1862م أي في عزّ سنوات الحرب الأهلية الأمريكية. بسبب الخبث والطمع المعروف لليهود لذا انخرطوا في المتاجرة بالسوق السوداء لتصريف منتجات القطن التي تصدرها الولايات الجنوبية الانفصالية ولهذا قام الجنرال يوليسيس جرانت القائد العالم للجيش الأمريكي (ولاحقا الرئيس 18 للولايات المتحدة) بطرد اليهود من بعض الولايات الأمريكية الجنوبية مثل تينيسي ومسيسيبي وكنتاكي.

 ( وجعلناكم أكثر نفيرا )

الاستعراض المختزل السابق يعطي إضاءة خاطفة على أبعاد المشكلة اليهودية عبر التاريخ والجغرافيا وأن مشاعر الكراهية ضد اليهود كانت شائعة لدى أغلب شعوب الأرض الذين ترسخت لديهم الصورة النمطية عن اليهودي بأنه: قبيح وجشع وبخيل. ومع ذلك لأمر شاءه الله سبحانه وتعالى تغيرت حالة اليهود في أغلب المجتمعات الغربية وأصبحت لهم المكانة والنفوذ والثراء. من عجائب القدر أن من أسباب التغير الجوهري في النظرة لليهود في المجتمعات الغربية ضهور حركة الإصلاح الدينية المسيحية المعروفة باسم (البروتستانتية) حيث نجد أن الأب الروحي لها الراهب الألماني مارتن لوثر أظهر في بداية الأمر تعاطف غريب مع (قتلة المسيح). في عام 1523م أصدر مارتن لوثر كتيبا صغيرا بعنوان (يسوع ولد يهوديا) كان من أغرب ما ذكر فيه قوله (إن اليهود هم أبناء الله وإن المسيحيين هم الغرباء الذين عليهم بأن يرضوا بأن يكونوا كالكلاب التي تأكل ما يسقط من مائدة الأسياد !!).

تغير سلوكي حاد وزلزال ديني كبير حدث بعد ظهور البروتستانتية المسيحية ونظرتها المتسامحة نحو اليهودية ويبدو أن الأحداث السياسية المفصلية أو التغيرات الدينية الجوهرية قد يكون من توابعها إما مزيد تسامح (أو مزيد اضطهاد) للأقليات العرقية أو الدينية. وبالرجوع لتاريخ اليهود في فرنسا نجد أنه خلال القرن الثاني عشر الميلادي وحتى القرن الرابع عشر قام ستة من ملوك فرنسا (فيليب الثاني ولويس التاسع وفيليب الرابع وتشارلز الرابع وتشارلز الخامس وتشارلز السادس) وفي أزمان مختلفة ولأسباب متعددة بطرد اليهود من الديار الفرنساوية. ومع ذلك خلال الشهور الأولى من اندلاع الثورة الفرنسية في عام 1791م صدر قانون يمنح اليهود الذين يعيشون في فرنسا (حقوق) المواطنة الكاملة ولذا يبدو أن اليهود هم أكثر من استفاد من شعار الثورة الفرنسية: حرية، (مساواة)، أخوة. سبق وأن أشرنا إلى أن الملك الإنجليزي إدوارد الأول أجلى ونفى اليهود من بريطانيا عام 1290م وأستمر أمر مرسوم الحكم هذا نافذا حتى عام 1655م حيث نجد أنه بعد انتهاء الحرب الأهلية الإنجليزية وتمكن القائد العسكري أوليفر كروميل من إسقاط الملكية الإنجليزية وإعدام الملك تشارلز الأول، نجد أنه في هذا الخضم السياسي المتلاطم يسمح فجأة وبشكل غريب بعودة اليهود إلى الجزر البريطانية لتبدأ في بريطانيا وبعدها في فرنسا ظاهرة التسامح ولاحقا التمكين لليهود بفضل (الحبل من الناس) كما ورد في آيات الذكر الحكيم.

ومن التوصيف الذي ذكره القرآن الكريم عن اليهود وقتالهم وعداوتهم لغيرهم قوله سبحانه وتعالى (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) وللمفسرين أقوال متعددة في تفسير كلمة (نفيرا) من ضمن ذلك قولهم إن النفير يقصد به هو من ينفر من الأشخاص مع المرء لنصرته ومؤازرته من عشيرته وقومه وأقول قد يكون المعنى عاما وهو أي شخص أو قوم يناصرون ويؤازرون اليهود وينفرون معهم لمساعدتهم ونجدتهم. وهذا يقودنا إلى أنه وبعد تاريخ طويل يمتد لأكثر من ثلاثة آلاف سنة من اضطهاد اليهود نجد أنه في 150 سنة الأخيرة حدث تغير ملموس لمعاملة اليهود في الغرب يمكن اختصاره في مفهومين جديدين ظهرا في نهاية القرن التاسع عشر هما: مفهوم الصهيونية ومفهوم معاداة السامية.

بعد السماح بعودة اليهود لأغلب الدول الأوروبية بعد أن طردوا منها وبعد تحسن الوضع القانوني لإقامتهم تزايد النقاش منذ بداية القرن التاسع عشر لمشكلة (المسألة اليهودية) سالفة الذكر ولهذا قام العديد من الفكرين والسياسيين والاقتصاديين بالإدلاء بدلوهم في هذا الجدال وكان منهم على سبيل المثال الفيلسوف الاقتصادي الألماني كارل ماركس الذي أخرج عام 1844م كتابا خاصا بعنوان (حول المسألة اليهودية). الغريب في الأمر أن بعض الأفكار الفلسفية الاقتصادية والاشتراكية لكارل ماركس طرحها قبله فيلسوف اقتصادي فرنسي يدعى شارل فورييه والذي سبقه كذلك باهتمامه بوضع حلول للمسألة اليهودية لدرجة أنه منذ عام 1836م وضع الحل الدراماتيكي والراديكالي الصارخ: إعادة اليهود إلى أرض فلسطين. ربما لم يكن الفرنسي المسيحي والاشتراكي شارل فورييه هو أول (صهيوني) في التاريخ حيث إن فكرة واقتراح إعادة اليهود إلى القدس تكرر طرحها قبل ذلك، ولكن الدور الحاسم لفورييه أنه بذل جهدا كبيرا لتنفيذ تلك الفكرة الخبيثة من خلال إقناع البارون اليهودي الألماني إدموند روتشيلد بتمويل عملية الترحيل وأنشاء المستوطنات اليهودية في فلسطين.

(الخلاص) ربما هي الكلمة السحرية لظهور الأطروحة الصهيونية فمنذ القرن السابع عشر ظهرت تيارات داخل المسيحية البروتستانتية في بريطانيا والتي تتبع منهج حرفية الكتاب المقدس لذا طرحت فكرة أنه لعودة المسيح (المخلص) لا بد من انتهاء الشتات اليهودي diaspora وإعادة تجميع اليهود في فلسطين. وفي حين رفض أغلب حاخامات اليهود في منتصف القرن التاسع عشر هذه الخطة (الصهيونية) لإعادة اليهود وعقدوا عدة مؤتمرات لهم في ألمانيا وأمريكا لمحاربتها نجد أن اليهود العلمانيين تحمسوا لها كنوع من (تخليص) اليهود من حياة الاضطهاد النسبي في الدول الأوروبية. وفي ذات المساق تحمس بعض رجال السياسة والفكر من الغربيين لأطروحات الصهيونية كحل نهائي (للخلاص) من مشاكل اليهود والمسألة اليهودية.

من الغريب أن كراهية اليهود أفرزت بشكل أو آخر خلاص اليهود بظهور الحركة الصهيونية التي فتحت لهم طريقة العودة إلى أرض فلسطين، وعلى نفس النسق نجد أن موجة (معاداة اليهود) أفرزت مع الزمن مصطلح وقوانين (معاداة السامية). في الواقع في عام 1879م أسس صحفي ألماني يدعى فيلهلم مار تجمع يدعى (رابطة معاداة السامية League of antisemites) وبعد ذلك بعشر سنوات نقل التجربة إلى فرنسا الصحفي إدوارد دريمون والذي أنشأ (الرابطة القومية الفرنسية لمعاداة السامية) وكان قبل ذلك قد نشر كتابا يحذر فيه من تنامي الوجود اليهودي في بلاده وسماه (فرنسا اليهودية). وهذا يعني أن مصطلح (معاداة السامية) كان في الأصل عندما يطلق يقصد به رفض اليهود كشعب ورفض تأثيرهم على المجتمع الأوروبي، ولكن مع الزمن أستخدم هذا المصطلح ليعطي مفهوم معاكس: رفض من يرفض اليهود. وكما هو معلوم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية استغل اليهود جريمة المحرقة النازية لإقناع المشرعين في الدول الغربية بإصدار قوانين تجرم معاداة السامية وأشدّ تلك القوانين هي تلك التي صدرت في ألمانيا بينما اتهام أي ناشط سياسي في أمريكا بشبه معادة السامية هو أمر كاف وكفيل بإنهاء مستقبله السياسي.

 (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب)

العصر الذهبي لتمتع الصهاينة بالحماية الكاملة من جرائمهم تحت غطاء قوانين معاداة السامية أستمر لفترة نصف قرن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن الأمر تغير بشكل ملموس بعد اندلاع أحداث الانتفاضة الأولى للشعب الفلسطيني (ثورة الحجارة) التي بدأت من قطاع غزة. لا يمكن إغفال أن إثارة العداء ضد اليهود في نهاية القرن التاسع عشر ساهمت فيها (وسائل الإعلام) ممثلة بالصحافة كما هو الحال مع أثر الصحفي الألماني ماير والصحفي الفرنسي دريمون السالفي الذكر. وعلى نفس الدرجة نجد أنه في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين ومع ظهور بدايات البث الفضائي بدأت تصل إلى الشعوب الأوروبية والمجتمع الأمريكي بعض صور القمع الشنيعة للصهاينة ضد أطفال الحجارة. ولهذا منذ تلك اللحظة بدأت الموجة الجديدة من معاداة السامية وحصل نوع لإعادة إحياء كراهية اليهود في العالم أجمع أُستهلت بصورة عامة بواسطة التيارات اليسارية في أوروبا وأمريكيا الجنوبية.

في عام 1913 أقيمت في مدينة نيويورك رابطة يهودية تعرف باسم (رابطة مكافحة التشهير ADL) هدفها الأساسي مواجهة التعصب ضد اليهود في أمريكا وما يهمنا هنا تصريح رئيس هذه الرابطة قبل عدة أشهر بأنه بعد حادثة السابع من أكتوبر (التي تحل ذكراها السنوية الأولى بعد غد الإثنين) وهجوم حركة حماس المباغت على إسرائيل أن هذا الحدث: (أعقبه تسونامي من الكراهية ضد المجموعات اليهودية في كل أنحاء العالم). وبالرغم من الحماية النسبية لأفراد الطائفة اليهودية في أمريكا بالذات إلا أن رابطة مكافحة التشهير رصدت خلال عام 2023 وقوع 8873 حادثة معادية للسامية في الولايات المتحدة فقط. وفي نفس السياق نجد أحد أساتذة جامعة تل أبيب المتعاون مع رابطة ADL السالفة الذكر يكتب في أحد تقاريرها (إذا استمر الاتجاه الحالي ستنتهي إمكانية عيش حياة يهودية في الغرب) ويضرب لذلك أمثلة أن اليهودي في الغرب في مستقبل الأيام ربما يحتاج أن يخفي يهوديته لذا لن يضع نجمة داود على ملابسة ولن يتحدث بشكل علني أمام الآخرين باللغة العبرية ولن يرتاد المعابد أو الكنيس اليهودي ولن يرسل أطفاله للمدارس اليهودية.

الجدير بالذكر أنه قبل شهرين فقط أي في شهر أغسطس الماضي أعلن وزير الشتات الإسرائيلي أن وزارة الإعلام العبرية سوف تطلق برنامجا خاصا يهدف لرصد ومتابعة تزايد مستوى معاداة السامية في مختلف بلدان العالم وهذا يؤكد أن ظاهرة (معاداة السامية الجديدة New antisemitism) التي رُصدت منذ نهاية القرن العشرين هي ظاهرة حقيقة وباقية وتتمدد. لفترة من الزمن أعتقد صهاينة اليهود بأنهم بالفعل سيطروا على العالم وأنه لا يجرؤ أحد على انتقادهم فضلا عن معارضتهم، ولكن بسبب أفعال الشرذمة الخبيثة من (بعض) أبناء اليهود سوف تبقى دائما عبر الزمن الصورة النمطية لليهود سلبية ومكروهة تصديقا لقول الله سبحانه وتعالى (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب).


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق