الأربعاء، 11 ديسمبر 2024

( ناطحات السحاب بين هونغ كونغ وبرلين واختلاف الثقافات )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1446/2/6

 قمة التقدم المدني لليابان هي مدينة طوكيو بينما درة الرقي الحضاري للصين يتمثل في المدينة شبه المستقلة هونغ كونغ ومدينة شنغهاي، ولكن خلال الأيام الماضية وبالانتقال من طوكيو إلى هونغ كونغ ترسخ لي ملحوظة التباين الواضح بين البلدين من ناحية (الطراز المعماري والتخطيط العمراني). ففي حين أن هونغ كونغ أشبه بغابة من ناطحات السحاب المتشابكة يقارب عددها 600 ناطحة سحاب (المباني المرتفعة الأخرى في هونغ كونغ يزيد عددها عن ثمانية آلاف !!) بينما في المقابل نجد أن العاصمة اليابانية تفتقد ليس فقط لناطحات السحاب الشاهقة الطول mega-tall (أطول مبنى في اليابان ارتفاعه فقط 330 مترا) ولكن أيضا لا يوجد تجمع ملحوظ لناطحات السحاب في مختلف أرجاء طوكيو باستثناء تجمع ناطحات السحاب الموجودة في منطقة الحي المالي.

التفسير المنطقي والمباشر لانعدام ناطحات السحاب فائقة الطول في مدينة طوكيو بالمقارنة مع هونغ كونغ راجع بكل تأكيد لأن الجزر اليابانية تقع أصلا في منطقة زلازل نشطة ولذلك من الحكمة ألا يبنى بها ناطحات سحاب تكون عرضة للخطر. ومع ذلك قد يذهل القارئ الكريم عندما يعلم أنه مع مخاطر الزلازل في اليابان إلا أن منطقة طوكيو الكبرى (التي يقطنها حوالي 40 مليون نسمة) تحتوي على حوالي 200 ناطحة سحاب في حين أن جزيرة مانهاتن في نيويورك والتي كانت عبر التاريخ المعاصر تعد وتعتبر جنة وبؤرة تجمع ناطحات السحاب لا يوجد بها إلا 317 ناطحة سحاب فقط.

ما أود الوصول له هو حسب ما يظهر في عنوان المقال بأنه يوجد اختلاف جذري في ثقافة وفلسفة بناء ناطحات السحاب بين الدول الآسيوية والدول الغربية وإلى حد ما دول أمريكا الشمالية. تشير الإحصائيات إلى أن عدد ناطحات السحاب في القارة الآسيوية ربما يبلغ عددها 7500 ناطحة سحاب وهو ما نسبة 80% من المباني الشاهقة في العالم في حين أن عدد ناطحات السحاب في كامل القارة الأوروبية لا يزيد كثيرا عن 400 ناطحة سحاب وهو أقل من عدد ناطحات السحاب في مدينة دبي وحدها والتي بها 420 برجا شاهقا. وفي نفس السياق سوف نجد أن قائمة أطول 25 مبنى في العالم منها 23 ناطحة سحاب في قارة آسيا واثنتين في الولايات المتحدة وهذا يعني أن القارة العجوز الأوروبية ليس لها أي رصيد على الإطلاق في مسابقة أطول مبنى في العالم.

فيما يخص السياحة والسفر لي عادة قديمة تتمثل في القيام بتوثيق أسماء جميع الدول والمدن العالمية التي شاهدتها وتاريخ زيارتي لها ولذا أعلم عن يقين أنني زرت ولله الحمد 119 مدينة دولية كان منها 64 مدينة أوروبية ومن مشاهداتي المتعددة في القارة العجوز لا توجد مدينة أوروبية تستطيع أن تفخر بتميز وروعة خط الأفق العمراني لها urban skyline إلا مدينة فرانكفورت الألمانية. ونظرا لأن مدينة فرانكفورت هي عاصمة المال والأعمال في ألمانيا وحاضنة البنك المركزي الأوروبي ومقر ثاني أهم بورصة مالية أوروبية لذا لا غرابة أن تحتوي على عشرات المباني الشاهقة لكبرى المصارف والشركات الدولية ولهذا أصبح انعكاس ظلال أبراج الحي المالي على مياه نهر ماين في الليل له منظر مذهل. وبالمناسبة ففي بقية المدن الأوروبية الكبرى نجد تجمعات صغيرة نسبيا لناطحات السحاب خصوصا في منطقة الحي المالي لمدينة لندن وباريس وفيينا وموسكو، ولكن هذه المناطق في الغالب تقع في ضواحي وأطراف تلك المدن وليس في مركز المدينة كما جرت العادة في ظاهرة نقاط تجمع ناطحات السحاب.

 في المقابل نجد أن بعض المدن الأوروبية العريقة وخصوصا المواقع التاريخية الإيطالية مثل روما وفلورنسا أو العاصمة اليونانية أثينا تخلو تماما مراكز تلك المدن من أي أبراج سكنية مرتفعة فضلا عن ناطحات السحاب وهي الظاهرة التي نجدها كذلك تقريبا في العاصمة الإسبانية مدريد.  طبعا التبرير الذي يساق في تفسير (منع) بناء أي مبنى شاهق في هذه المدن أن سبب ذلك راجع لعراقتها التاريخية فالمدن الإيطالية هي مهد عصر النهضة والمباني حول تلة الأكروبوليس في وسط أثينا هي تجسيد للحضارة الإغريقية في حين أن مباني مدينة مدريد القديمة هي من الموروث التاريخي للإمبراطورية الإسبانية ذات التأثير الثقافي والديني الهائل على دول أمريكا اللاتينية. يقال إن المواقع والمنازل والآثار ذات الأهمية التاريخية في مدينة روما وحدها تبلغ حوالي 25 ألف موقع ولهذا في حال الرغبة في بناء ناطحات سحاب في تلك المدينة فإن ذلك يعني إزالة وتدمير عدد كبير من هذه الآثار التاريخية. وقد تكون هذه حجة مقبولة في تفسير التحفظ الكبير لدى الأوروبيين في عدم الرغبة في التوسع في بناء ناطحات السحاب ومع ذلك تشير التوقعات إلى أنه خلال الحرب العالمية الثانية تم تقريبا تدمير أو تخريب ما نسبته 20% من المباني التاريخية في المدن الأوروبية، بل إن بعض المدن تم سحقها وتسويتها بالأرض مثل مدينة دريسدن الألمانية وكوفنتري الإنجليزية وروتردام الهولندية ولينينغراد الروسية. من الناحية المبدئية كان التدمير الشامل لهذه المدن فرصة (وإن كانت موجعة وقاسية) لكي يتم إعادة تخطيط هذه المدن على الطراز الحديث ومن ثم بناء مبان عصرية شاهقة محل ركام الحرب، لكن فيما يتعلق بمدينة دريسدن وبحكم أنها عاصمة ولاية ساكسونيا العريقة تاريخيا وكنوع من العناد ومحاولة للانتقام للكرامة القومية تم إعادة مبانيها التاريخية باستخدام أجزاء كثيرة من نفس أحجار الركام المتهدم وبالتالي وسط تلك المدينة حافظ تقريبا على طابعه العام القديم قبل القصف الجوي البربري البريطاني والأمريكي. وبالجملة بسبب الوضع الاقتصادي المتردي لأغلب الدول الأوروبية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن من الأولويات على الإطلاق بناء أبراج معمارية شاهقة في تلك المدن بالرغم من الرخاء الاقتصادي النسبي لمدينة كوفنتري مع ازدهار صناعة السيارات فيها وكذلك مدينة روتردام الهولندية الملقبة ببوابة أوروبا بسبب أمتلكها لأحد أكبر الموانئ البحرية في العالم.

منذ عقود طويلة ودولة ألمانيا هي الأقوى اقتصاديا في القارة الأوروبية، والدول مثل الأشخاص لديهم متلازمة نفسية تتعلق بالتباهي واستعراض القوة السياسية والاقتصادية ومن ذلك بناء القصور الرئاسية الباذخة والمباني والأبراج الشاهقة. ومع ذلك نجد أن مدينة برلين حاليا لا يوجد بها ولا حتى ناطحة سحاب واحدة (في الزمن الحديث اتفق المعماريون على تعريف ناطحة السحاب بأنها أي مبنى يزيد طوله عن 150 مترا). وبحكم أنه نتيجة لتعرض مدينة برلين خلال الحرب العالمية الثانية لأكثر من 300 غارة جوية فيقال إن نصف المنازل في برلين قد دمرت وأن مجموع المناطق فيها الي تحولت إلى ركام يبلغ 16 كيلومترا مربعا. وعليه أغلب المباني والمنشآت في مدينة برلين حديثة نسبيا وليس لها تلك الهالة التاريخية مثل روما وفلورنسا فلماذا لم يقم الألمان بهدمها وإنشاء ناطحات سحاب تعكس التفوق المالي والتقني والصناعي للرايخ الألماني. البعض يحاول أن يعلل هذا النقص الفاضح في وجود مبان شاهقة في عاصمة الدولة الأغنى في أوروبا بأن طبيعة التربة في مدينة برلين لا تساعد على بناء ناطحات سحاب لأنها تربة رملية وهذا نكتة سمجة لأن التقنية والعلم تصنع المستحيلات فهذه مدينة دبي ذات التربة الرملية بها عدد ناطحات سحاب يفوق ما هو موجود في أوروبا كلها.

في الفترة الأخيرة بدأ الإعلان المتزايد عن التفكير في بناء مدن مصغرة تطفو فوق الماء وكذلك ناطحات سحاب جزء منها تحت سطح البحر والجزء مرتفع في السماء وبعيدا عن مباني المستقبل الغريبة هذه، نعود بالحديث إلى المدن الأوروبية العريقة التي تفتقر للمباني الشاهقة مثل مدينة البندقية الإيطالية والعاصمة الهولندية أمستردام والعاصمة السويدية ستوكهولم ومرة أخرى نجد التعليل أن هذه المدن العريقة هي في الواقع مدن قنوات مائية وجزر صغيرة متقاربة ومرتبطة ببعض ولهذا يصعب بناء ناطحات سحاب على تربتها الطينية اللزجة. قد يكون الرد على هذا الكسل في عدم الحماس لفكرة بناء ناطحات السحاب الأرض الطينية الإشارة إلى أن مدينة شنغهاي الصينية إحدى أشهر المدن في العالم بناطحات السحاب الأطول والأجمل (بها 192 ناطحة سحاب إحداها شبيه جدا ببرج المملكة) هي مبنية على الضفاف الطينية لنهر هوانغبو المتدفق. بل الأغرب من ذلك أن أطول ناطحة سحاب في القارة الأوروبية هي تلك المقامة في مدينة سانت بطرسبرج الروسية التي تتكون من 87 طابقا وترتفع في السماء إلى 462 مترا وبقي أن نقول إن مدينة سانت بطرسبرج كما هي معلوم مدينة قنوات مائية وأرضها طينية.

مشكلة الأرض الطينية والقنوات المائية ليس فقط هي ما قد تعيق بناء وتشييد ناطحات السحاب فمثلا مدينة يوكوهاما اليابانية قد تكون ثاني مدينة بعد العاصمة طوكيو تعرضا للزلازل المدمرة ومع ذلك عدد ناطحات السحاب المبنية بالفعل أو تحت الإنشاء يقارب عدد ناطحات السحاب في المنطقة المالية بمدينة لندن. ومدينة الزلازل الأمريكية سان فرانسيسكو القريبة من صدع سان أندرياس والذي يعتبر بؤرة الزلازل في أمريكا الشمالية ومع ذلك تلك المدينة المجزأة الأطراف بها حوالي 30 ناطحة سحاب شاهقة.

 بناء ناطحات السحاب بين الحاجة والبذخ

المقصود من السرد السابق لأماكن تواجد ناطحات السحاب في مواقع جغرافية وجيولوجية صعبة التضاريس بيان حالة التناقضات غير المنطقية فيما يتعلق بظاهرة بناء ناطحات السحاب في مختلف دول العالم. بل الأغرب من ذلك أن يوجد تفاوتا في تقبل ظاهرة بناء ناطحات السحاب حتى للأسباب الداعية لها أصلا ومن ذلك أن البعض يبرر الكثرة الطاغية لأعداد ناطحات السحاب في القارة الآسيوية بسبب الكثافة العالية للسكان في البلدان الآسيوية ولهذا كان الحل العملي والمنطقي عند شح الأرضي المتوفرة للبناء أن يتم التوسع في إنشاء ناطحات السحاب. ومع ذلك هذا الحل المنطقي غائب تماما عن العاصمة الهندية نيودلهي فبالرغم من أن الهند حاليا هي أكثر دولة في العالم فيما يتعلق بعدد السكان (قبل عدة شهور تخطت الهند الصين ونالت ذلك اللقب) وهي كذلك خامس أكبر دولة في العالم من ناحية القوة الاقتصادية وبالرغم من أن عدد سكان العاصمة نيو دلهي يبلغ حوالي 34 مليون نسمة ومع ذلك لا توجد بها أي ناطحة سحاب واحدة وفي الواقع أطول مبنى فيها هو برج التلفزيون وعمارة سكنية يصل طولها فقط لحوالي 60 مترا.

ذكرنا أن من المسوغات المنطقية لبناء ناطحات السحاب أن تكون الدولة أو الشركات أو الأفراد على درجة عالية من الثراء ولهذا من الغريب أن تكون عاصمة الهند دون ناطحات السحاب وهي حاليا قوة اقتصادية عالمية هائلة وفي المقابل نجد أن من التناقضات الملموسة أن تقوم جمهورية مصر العربية وهي في أزمة اقتصادية خانقة ببناء أطول ناطحة سحاب في قارة أفريقيا. ناطحة السحاب المصرية في العاصمة الإدارية تحمل اسم (البرج الأيقوني) ومن المتوقع أن ترتفع لمسافة شاهقة تلامس 400 مترا وبالمقارنة فإن أطول ناطحة سحاب في الرياض (برج صندوق الاستثمارات العامة) طولها 385 مترا. والأغرب من ذلك أنه الآن يتم إنشاء ناطحة سحاب في بلد فقير هو بنغلاديش والتي تشهد عاصمتها دكا تشييد ناطحة سحاب من المتوقع أن يصل طولها الكلي حوالي 473 متر وهي كذلك سوف تحظى باسم مميز (برج الإرث Legacy Tower).

وعلى ذكر الإرث والتراث والافتخار به نختم بمفارقة طريفة فيما يتعلق بمنع بناء ناطحات السحاب في العواصم الأوروبية بسبب كثافة المباني التراثية ذات التاريخ العريق فيها ومحاولة ليس فقط الحد من إزالة المعالم التاريخية، ولكن كذلك سن القوانين التي تمنع بناء أبراج شاهقة تحجب مشاهدة تلك المعالم التاريخية. يفتخر الإنجليز بإرثهم الحضاري المتمثل في كاتدرائية القديس بولس في لندن والتي بسبب مبناها الضخم والمرتفع لذا يمكن مشاهدتها من مسافات بعيدة من جميع أحياء وشوارع لندن ولهذا قامت بلدية لندن بتحديد ثمانية ممرات بصرية عبر المدينة التي ينبغي ألا يشيد بها أي مبان تتسبب في إعاقة مشاهدة تلك الكاتدرائية. ولهذا العديد من ناطحات السحاب الحديثة التي بنيت في مدينة لندن تم تغيير تصميمها الأساسي حتى يتوافق مع قانون منع حجب مشاهدة كاتدرائية القديس بولس، ولكن المشكلة أن إحدى ناطحات السحاب اللندنية تم تخفيض طولها وتغير شكل قمتها حتى لا تحجب المنظور البصري مما أفرز في النهاية ناطحة سحاب قبيحة الشكل أصبحت تسمى من باب السخرية بـ (مبنى الووكي توكي walkie talkie) تشبيها لها بجهاز الاتصال اللاسلكي القديم. التناقض هنا أن بلدية لندن وهي تحرص على أحقية سكان وسط العاصمة بالتمتع بجمال المنظر العمراني والتاريخي والديني للكاتدرائية إلا أن تلك البلدية تسببت بشكل غير مقصود في اضطرار المهندسين المعماريين لتصميم وتشييد ناطحات سحاب قبيحة وشاذة المنظر وهي وإن لم تكن مثالا على (العمارة المتوحشة) كما يشعر بعض اللندنيين فهي بالقطع مثل لتيار وموجة (العمارة القبيحة).


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق