د. أحمد بن حامد الغامدي
تواجه أي شخص يكتب مقال أسبوعي بشكل مستمر مشكلة (اختيار) مواضيع مناسبة ومتنوعة ومتزامنة مع الأحداث الجارية ولهذا منذ سنوات كنت أحرص خلال أسبوع الإعلان عن جوائز نوبل أن أكتب مقالات ثقافية متنوعة مرتبطة بالجائزة سواء في المجالات العلمية أو الأدبية. وبلا شك كنت أجهزة لمقال مرتبط بجائزة نوبل وما بعد جائزة نوبل ولكن مع الإعلان عن أسماء الفائزين عن جائزة نوبل يوم أمس في مجال الفيزياء واليوم في مجال الكيمياء كان لا بد من التوقف والتأمل قليلا في (مستقبل العلوم) في ضوء ظاهرة تداخل العلوم وتشابكها مع بعضها البعض.
السبب في كتابة هذه الخاطرة السريعة أن بعض من فاز خلال هذه الأيام بجائزة نوبل هم ليسوا من علماء الفيزياء ولا من علماء الكيمياء بل هم من تخصص (علوم الحاسب والبرمجة) وهم كذلك ليسوا من أصحاب (المعاطف البيضاء) المشهورة التي يلبسها العلماء في المختبرات البحثية، بل هم أشخاص من ذوي الملابس الرياضية أو أصحاب الزي الدارج (casual wear) كما هو شائع لموظفي شركات تقنية البرمجيات مثل شركة قوقل. يوم أمس فاز (عراب الذكاء الاصطناعي) عالم البرمجيات الإنجليزي جيفري هينتون بجائزة نوبل في الفيزياء بالرغم من أنه يعمل في معالم الكمبيوتر بشركة قوقل وعلى نفس النسق فاز اليوم عالم البرمجيات ومصمم ألعاب الكمبيوتر المخترع البريطاني ديمس هاسابيس على جائزة نوبل في الكيمياء بالرغم من أنه هو الآخر يعمل في شركة قوقل وليس في مختبر كيميائي لجامعة عريقة.
في الواقع منذ عقود طويلة تنتشر في دنيا العلوم ظاهرة تسمى الأبحاث متعددة التخصصات multidisciplinary وهي قائمة على التداخل والتكامل بين (حقول) علمية متعددة ومتنوعة بهدف إنتاج اكتشافات علمية أو تطوير منتجات تقنية متطورة. وفي الواقع الأبحاث متعددة التخصصات سالفة الذكر تكون في الغالب في المجالات العلمية المتقاربة مثل الفيزياء وهندسة الاتصالات أو الكيمياء والصيدلة الطبية وما شابه ذلك. لكن ما حصل اليوم من فوز اثنين من علماء الحاسب وبرمجيات الذكاء الاصطناعي (البريطاني ديمس هاسابيس والأمريكي جون جامبر) بجائزة نوبل في مجال الكيمياء وبالذات فيما يتعلق بالتعرف على تركيب وشكل البروتينات هذا يدل إلى أن التخصصات العلمية والتقنية بالفعل يمكن أن تتداخل وتتخطى كل الحدود والحواجز التي تفصل المعارف البشرية ولعل هذا هو ما يقصد به من مفهوم الدراسات العابرة للحدود المعرفية (العبرمناهجية transdiscipinary).
على كل حال أتوقع أن هذه (الحوسة) التي حصلت هذين اليومين هي بسبب الزخم الإعلامي الكبير لتقنية (الذكاء الاصطناعي) وأهميته وتنوع التطبيقات والاستخدامات المتعددة والمتنوعة في كل مجال الحياة ولهذا يبدو أن الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم أرادت أن تحتفي بهذا الفرع المعرفي في علوم الكومبيوتر على حساب علماء الفيزياء والكيمياء. ولعلي أختم الحديث عن (الحوسة) واللخبطة فيما يتعلق بالإعجاب أو الخوف والقلق من (الذكاء الاصطناعي) وتعدد وجهات النظر له بأن أشير إلى أن عالم البرمجيات جفري هينتون الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء يوم أمس أثار العام الماضي ضجة كبيرة عندما استقال من شركة قوقل وأعلن قلقه وخوفه من تقنية الذكاء الاصطناعي وأنها قد تنفلت من سيطرة البشر عليها. وفي المقابل نجد أن الاحتفاء بإسهام عالم البرمجيات الإنجليزي السير ديمس هاسابيس الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء اليوم وصل لدرجة أنه تم منحة قبل أشهر قليلة لقب سير Sir من قبل الملكة البريطاني تشارلز الثالث كنوع من التقدير له على إسهاماته العلمية في مجال الذكاء الاصطناعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق