الخميس، 12 ديسمبر 2024

( الذكاء الاصطناعي وانهيار البورصة !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1466/4/16

 الكل هذه الأيام يتحدث عن تقنية (الذكاء اصطناعي) وفي حين أن البعض يعتبرها مجرد الموجة الرابعة من الثورة الصناعية، بينما البعض يؤكد أن أهميتها لن تقل عن أهمية اختراع الكهرباء نجد أن عالم الفيزياء البريطاني المشهور ستيفين هوكينج يبالغ كثيرا عندما يقول (سيكون النجاح في إنشاء الذكاء الاصطناعي أكبر حدث في تاريخ البشرية). بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تحدث البعض أننا في زمن (العصر الذري) نسبة إلى القنبلة النووية ثم مع الوقت تحول البعض للقول بأننا في عصر الترانزستور والكمبيوتر ثم لاحقا زمن الليزر والأقمار الصناعية وبعد ذلك زمن التقنية الحيوية والهندسة الوراثية وحتى قبل سنوات قليلة كانت الهيمنة لعصر (تقنية النانو). والمقصود أن عبارة (لكل زمان: دولةٌ ورجال) يمكن تحويرها إلى مقولة (لكل زمان: تقنية وعلماء) ولهذا مع الاهتمام المتصاعد بتقنية الذكاء الاصطناعي لم يكن من المستبعد أن في السنتين الأخيرتين أن يتم التكريم المتكرر والمتلاحق لعلماء البرمجيات وتقنية الخوارزميات الذي أسهموا في تطوير الذكاء الاصطناعي. ومن ذلك أن جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء تم تجييرها ومنحها للمخترعين في مجال البرمجيات وعلوم الحاسب مثل (عراب الذكاء الاصطناعي) العالم البريطاني المشهور جيفري هبتون وأبو ( AI ) المخترع الأمريكي جون هوبفيلد.

 ونظرا لأن جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء المعلن عنها في يومي الثلاثاء والأربعاء من الأسبوع قبل الماضي تم منحهم للباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي نظرا للفائدة الهائلة لهذه التقنية للتخصصات العلمية المتنوعة لهذا كان التساؤل الذي دار بذهني هل من الممكن على نفس النسق أن تمنح جائزة نوبل في الاقتصاد هذه السنة كذلك لباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي أو برمجة الخوارزميات التي بلا شك سوف تعيد تشكيل العمليات الاقتصادية والمعاملات المالية في المستقبل القريب. في الواقع حصل في الماضي أن تم منح جائزة نوبل في الاقتصاد لباحثين من تخصصات بعيدة عن المال والأعمال فمثلا تم منح جائزة نوبل للاقتصاد لعالم النفس الأمريكي دانيال كانمان لدراساته للدوافع النفسية خلف سلوكيات المستهلك وبالتالي توصل إلى وضع نظريات مهمة حول الفرع المعرفي الجديد (علم الاقتصاد السلوكي). وبصورة مشابهة ليس شرطا أن تمنح جائزة نوبل في الاقتصاد بشكل حصري لعلماء الاقتصاد فقد نال تلك الجائزة الرفيعة علماء من مختلف التخصصات وخصوصا في مجال الرياضيات والإحصاء بل وحتى الفيزياء والهندسة ومن أشهرهم عالم الرياضيات الأمريكي جون ناش الذي حصل على نوبل في الاقتصاد لعام 1994م والذي كان مصابا بمرض انفصام الشخصية وأُنتج عن قصة حياته العجيبة فيلم سينمائي بعنوان (عقل جميل) حصد أربع جوائز أوسكار.

في ضوء ما سبق ذكره من أن جوائز نوبل لهذا السنة شهدت تداخل التخصصات العلمية والمجالات التقنية في بعضها البعض (ولعله المقصود بمفهوم transdisciplinary الذي يعرب بمصطلح: العبرمناهجية) وفي ضوء أن جائزة نوبل في الاقتصاد قد تشمل تخصصات مستعارة من علم الرياضيات أو الفيزياء أو علم النفس أو علم الاجتماع وغيرها وعلى هذا هل نحن بالفعل في زمن (الثورة الصناعية الرابعة). إذا علمنا أن (الثورة الصناعية الثالثة) هي ما كانت سابقا تسمى (ثورة المعلومات والعصر الرقمي) نجد أن أهم ما يميز الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0) عن الموجات الثلاث التي سبقتها، أنها تزيل الحدود الفاصلة بين مجالات التقنية المختلفة (التقنية الحيوية وتقنية النانو وتقنية المعلومات والتقنية الصناعية ...إلخ) مما أسهم في نهاية المطاف في دمج أجهزة الروبوتات بالذكاء الاصطناعي بتقنية إنترنت الأشياء بالحوسبة الكمومية بالهندسة الوراثية بالعلاج الجيني بغير ذلك من المجالات والتقنيات المتباعدة. من هذا وذاك أصبحنا في السنوات الأخيرة نشهد قفزات هائلة في تطور التقنية من حولنا لأنها نتاج وثمرة هذا التلاقح بين هذه المعارف التقنية الفائقة القدرة وهذا ما يفسر سبب التطور العجيب في تقنية الذكاء الاصطناعي خصوصا إذا ما ارتبطت بتقنية (البيانات الضخمة Big Data).

مستقبل الأزمات الاقتصادية في زمن الخوارزميات

في قطاع المال والأعمال مثل أسواق البورصة والأسهم أو التعاملات البنكية أو التجارة الدولية يوجد كما هائلا من البيانات والمعلومات والتقارير وبمثل هذا التدفق والفيض الهائل من البيانات تنشأ فرصة لمزيد من الازدهار الاقتصادي أو في المقابل مزيد من احتمالية وقوع الكوارث والأزمات المالية. وهنا يدخل دور تقنية الذكاء الاصطناعي المعززة بتقنية البيانات الضخمة لاستخدام خوارزميات علم البرمجة وتقنيات التعلم الذاتي لتحليل تلك البيانات الضخمة وتفسيرها ومن ثم التعرف على الأنماط التي تشكل هذه البيانات مما يؤدي في نهاية المطاف لإمكانية: إما التنبؤ الدقيق للمؤشرات الاقتصادية أو في المقابل اكتشاف مصادر الخلل والتحذير من توابع وآثار لقرارات الخاطئة.

تاريخ نشر هذا المقال هو يوم 19 من شهر أكتوبر وهو يتوافق مع تاريخ ذكرى واحدة من أسوء الكوارث المالية التي حصلت في عالم الاقتصاد حيث حدث انهيار حاد في أغلب الأسواق المالية الكبرى ولهذا أصبح يوم الإثنين التاسع عشر من شهر أكتوبر لعام 1987م يعرف بيوم (الإثنين الأسود). لقد بلغت الخسائر المالية في ذلك اليوم العصيب حوالي اثنين ترليون دولار (بالتحديد 1710 مليار دولار) وإذا علمنا أن الناتج المحلي الأمريكي السنوي في عام 1987م كان (4860 مليار دولار) فهذا يعني أنه في يوم واحد فقط خسرت الأسواق المالية العالمية ما تجمعه أمريكا من دخلها المالي القومي خلال أربعة أشهر وهذا يعطينا تصور لماذا سميت تلك الكارثة المالية العالمية القاصمة بيوم الإثنين الأسود. بقي أن نقول إن من أسباب حصول هذا الانهيار المريع في البورصات العالمية الكبرى (العديد منها خسر في ذلك اليوم أكثر من 30% من قيمته السوقية) حصول حالة هلع جماعية مفاجأة صاحبها سلوك مالي سلبي تمثل في البيع المكثف للأسهم المالية. في عام 1992م حصل عالم الاقتصاد الأمريكي غاري بيكر (أحد رواد الجيل الثالث لمدرسة شيكاغو الاقتصادية المشهورة) على جائزة نوبل في الاقتصاد لأنه خلط علم الاجتماع وعلم النفس بعلم الاقتصاد وتأثير السلوك البشري في حركة رأس المال. وهذا يعني أنه من محددات فهم حركة الأسواق المالية ضرورة معرفة السلوك النفسي للبشر المرتبط بالتعاملات المالية عند الأزمات وهذا ما دفع عالم الاقتصاد الأمريكي روبرت شيلر الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2013م بأن يشير إلى أن ما يحدث في سوق الأسهم من المبلغات في الربح الزائد (الفقاعة الاقتصادية) أو الخسارة المفاجأة (الانهيار المالي) مصدره وسببه مرتبط بالعواطف والسلوك النفسي أكثر مما يرتبط بالمنطق الاقتصادي.

وبالعودة إلى الانهيار المالي للبورصات العالمية يوم الإثنين الأسود تجدر الإشارة إلى أنه قبل ذلك بعدة أيام أي في يوم الأربعاء 14 أكتوبر من عام 1987م أصدر مجلس النواب الأمريكي قرارا بإلغاء التخفيض الضريبي كما تم في نفس ذلك اليوم إعلان وزارة التجارية الأمريكية عن وجود زيادة في العجز بالميزان التجاري الأمريكي، وحسب نظرية القطيع التي يفسر بها روبرت شيلر حركة السوق وعملية التجارة بدأ الناس في القلق والهيجان وتقليد بعضهم في الإسراع بعملية بيع الأسهم. وبالرغم من أن البورصة الأمريكية حصل لها هزة محسوسة في يومي الأربعاء والخميس قبل إجازة نهاية الأسبوع التي تسبق الإثنين الأسود إلا أن برامج الكمبيوتر المستخدمة لنمذجة النشاط الاقتصادي فشلت في إعطاء تقييم سليم وتنبؤ صائب للسلوك الاقتصادي للأفراد اثناء الأزمات ولهذا لم تقم الحكومة الأمريكية بأخذ احتياطات الدعم المالي الكافية قبل افتتاح يوم العمل الجديد في البورصة الأمريكية في صباح ذاك اليوم الأسود.

وهذا يقودنا اليوم ونحن في زمن تنامي قدرات الذكاء الاصطناعي بالذات في مجال النمذجة التنبؤية predictive modelling لتخمين السلوك الاقتصادي للمستهلك وبالتالي فهم كيفية اتخذا الأفراد للقرارات وكيفية عمل السوق مما سوف يقود في النهاية لتوقع سليم لاحتمالية حصول الأزمات الاقتصادية والانهيارات المالية قبل حدوثها. لهذا السؤال المطروح لو أن تقنية الذكاء الاصطناعي بكامل كفاءتها الحالية كانت متاحة قبل كارثة الإثنين الأسود فهل كانت تلك التقنية الرقمية نجحت في تحذير أصحاب القرار في الدول الرأسمالية عن قرب حصول الانهيار المالي. في الواقع وبسبب الخلل البنيوي المسكوت عنه في أساس العمليات المالية الربوية والرأسمالية الجشعة تكررت في العقود الماضية العديد من الأزمات الاقتصادية الكبرى مثل الأزمة المالية الآسيوية عام 1997م (حرب العملات ضد النمور الآسيوية) وأزمة الرهن العقاري 2008م (بسبب القروض الربوية عالية المخاطر) وأزمة كورونا وانهيار سوق الأسهم العالمية (الخميس الأسود 12 مارس 2020م). للأسف لم تنجح حتى الآن تقنية الذكاء الاصطناعي المعززة بتقنية البينات الضخمة من التنبؤ مسبقا بقرب وقوع أي أزمة اقتصادية كبرى فهل يمكن أن يتغير هذا الأمر في مستقبل الأيام وتنجح تقنية الذكاء الاصطناعي الموظفة في عالم المال والأعمال في التحذير المبكر من انهيار سوق النقود الرقمية (البيتكوين وأخواتها) أو التنبؤ الدقيق بكارثة التضخم المفرط hyperinflation في أسعار السلع أو التدخل قبل وقوع كارثة انهيار منظومة البنوك العالمية (global banking crash). لا شك أنه في حال حقق الذكاء الاصطناعي مثل هذا التحذير المبكر والتنبؤ الدقيق بنوعية ودرجة الأزمات الاقتصادية العلمية المستقبلية، فبلا أدنى جدال سوف يستحق علماء برمجة الحاسب وخبراء تقنية الخوارزميات أن ينالوا جائزة نوبل في الاقتصاد بجدارة مستحقة.

أما في حال استمرار فشل تقنية الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بحدوث الأزمات الاقتصادية الكبرى قبل وقوعها فالأمر سوف يكون محرجا للعلماء والمستثمرين الماليين في شركات التقنية الرقمية لأن وقتها سوف يظهر الأمر وكأن التاريخ يعيد نفسه. في عام 2000م حصل انهيارا مفاجئا وحادا في أسهم شركات التقنية التي تعمل في مجال برامج الكمبيوتر والتقنية الرقمية وهي الأزمة الاقتصادية التي عرفت باسم (انهيار شركات الدوت.كوم dot.com crash) أو التي توصف أحيانا بأنه كارثة انفجار فقاعة الإنترنت المتضخمة. فإذا كانت الشركات التي تنتج برامج النمذجة والخوارزميات التحليلية تفشل وتنهار فهل يستبعد أن تفشل البرامج والتطبيقات الرقمية التي تنتجها وفي حينها سوف تكون فضيحة مدوية للذكاء الاصطناعي لأنه في حينها قد ينكشف بأنه ليس بذكي ولا نظام خبير !! (expert system).


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق