الجمعة، 15 مارس 2024

( تمرد تكساس ونكسة حلم القرن 21 الأمريكي )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1445/7/22

 بعد سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي ومع نهاية حرب الخليج الثانية التي استعرضت فيها الولايات المتحدة لأول مرة ترسانتها العسكرية من الأسلحة الذكية وقدرتها على سحق الجيش العراقي في حرب المئة ساعة، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب في عام 1990م عن تدشين ما عرف باسم (النظام العالمي الجديد). وبعيدا عن سخافة الطرح الذي كان يهذر به في عام 1992م عالم الاقتصاد الأمريكي فرانسيس فوكوياما من أن (نهاية التاريخ) حلت بظهور الرجل الأخير المنتصر في الحرب الباردة والسيطرة النهائية للرأسمالية على مسيرة البشرية، بعيدا عن هذا الهراء والتسطيح الفكري نجد أنه بالفعل توقع البعض أن الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية سوف تستمر لوقت طويل.

وفي هذه الأجواء المتفائلة بمستقبل الحلم الأمريكي ظهرت النبوءة التي تقول بأن (القرن 21 سوف يكون قرناً أمريكيا) وهذا في الواقع كان هو عنوان الكتاب الذي أصدره عالم السياسية الفرنسي ألأفريدو فالادا وطرح فكرته لأول مرة في عام 1993 ميلادي. وفي نشوة (تفرد) الولايات المتحدة بدورها القيادي في إدارة العالم في نهاية التسعينيات من القرن العشرين ومع مطلع القرن الجديد تناول وتداول العديد بشغف وفضول كتاب (المئة عام القادمة The Next 100 Years) للكاتب السياسي الأمريكي المعروف جورج فريدمان والذي من أبرز توقعاته بأن القرن 21 سوف يكون قرنا أمريكيا بامتياز. كما ظهرت أصوات وأفكار تتبنى فكرة أن الولايات المتحدة خلال هذا القرن الحالي سوف تكون هي القطب الأوحد unipolar المتحكم في السياسة الدولية لأنها بكل بساطة هي وهي فقط القوة العظمى والوحيدة المسيطرة على العالم.

ومع تزايد هيمنة الولايات المتحدة على بقية شعوب ودول العالم الذي وصل لتدخلها العسكري (بعد انتهاء الحرب الباردة) بشكل أو آخر في حوالي 40 دولة ولهذا أصبحت أمريكيا بحق هي الصورة الصارخة والقبيحة لـ (الإمبريالية). صحيح أن الولايات المتحدة لم تقم بشكل فج وصريح (باستعمار) أي دولة مستقلة، ولكن تعاظم الشعور بالمهابة والسطوة لقادة أمريكا جعل العديد من المفكرين يصفون الولايات المتحدة بأنها في الواقع في مرحلة تشكيل (الإمبراطورية الأمريكية). ومرة أخرى كان لبعض عناوين الكتب دور في نشر هذا المفهوم وإن كان بعض المفكرين تبنى تسمية (الإمبراطورية الأمريكية) من باب النقد وليس الموافقة عليها كما نجد ذلك في كتاب (الإمبراطورية الأمريكية) للصحفي الفرنسي كلود جوليان. الاستعمال السلبي لمفهوم الإمبراطورية الأمريكية نجده بشكل أوضح في النقد والتشريح في كتاب (الصنم .. صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية) للمؤرخ الأسكتلندي نيل فيرغسون والذي نجده ليس فقط يتوقع احتمالية (سقوط) الإمبراطورية الأمريكية، بل أنه يتوقع أبعد من ذلك وأن نهاية الإمبراطورية الأمريكية لن تكون سلمية.

من مجمل ما سبق نستشف أنه خلال عقدين من الزمان فقط تحول المفكرون والمحللون وبعض رجال السياسة من التبشير بسيطرة وهيمنة ماما أمريكيا لمدة قرن إضافي من الزمن إلى طرح فكرة أنها غالبا سوف تتزحزح عن عرش القيادة المطلقة للعالم. سبب التراجع المحتمل للسيطرة الأمريكية في منتصف هذا القرن راجعا بدرجة أكيدة إلى حصول تنام لعملية (المنافسة) المستمرة منذ عقود طويلة بين أمريكا وبين القوى العظمى الأخرى الصينية والروسية والأوروبية. بالمناسبة لتوضيح دور (المنافسة) في تشكيل مستقبل التاريخ والسياسية بل وحتى الاقتصاد ربما من الملائم التذكير بكتاب آخر فريد وثري للمؤرخ الاقتصادي نيل فيرغسون السالف الذكر وهو كتاب (الحضارة .. كيف هيمنت حضارة الغرب على الشرق والغرب Civilization: The West and the Rest) وفيه يذكر فيرغسون أن من أهم العوامل (أو ما أطلق عليها التسمية الغربية: التطبيقات القاتلة) التي ضمنت تفوق الغرب، كان السبب الأول منها عامل: (المنافسة competition).

عندما يحصل (سباق) وتنافس بين الحضارات والدول فمن المنطق أن البقاء للأصلح والأكثر لياقة بدنية (survival of the fittest) وهذا يفتح لنا المجال فيما تبقى من المقال لإعطاء لمحة سريعة للإشارة لماذا الولايات المتحدة في المستقبل القريب لن تكون في (لياقة fitness) سياسية واقتصادية ومجتمعية كافية لتجعلها تستطيع (البقاء) على قمة عرش قيادة العالم فيما تبقى من القرن الواحد والعشرين.

 العدّاء الأمريكي غير لائق للسباق الدولي

أحد أبرز الأخبار العالمية التي كثر الحديث عنها الأسبوع الماضي هو حقيقة (التمرد) من قبل حاكم ولاية تكساس ضد إدارة الرئيس الأمريكي بايدن وهل هذا بالفعل قد يقود إلى حرب أهلية أمريكية جديدة ربما ينتج عنها انفصال واستقلال ولاية تكساس وغيرها من الولايات الأمريكية (غير) المتحدة. من وجهة نظري الشخصية فإن (شبح) الحرب الأهلية الأمريكية غير وارد على الإطلاق كما أن (سيناريو) الانقلاب العسكري في بعض الولايات الأمريكية (المشاكسة) هو سيناريو خيالي غير واقعي. ومع ذلك ما يهمنا هنا أن إعلان حُكام حوالي 25 ولاية أمريكية مساندتهم لحاكم ولاية تكساس ضد الحكومة المركزية في واشنطون هو بلا جدال (مؤشر) خطير على أن البنية السياسية والمجتمعية داخل الكيان الأمريكي في وضع متأزم وحرج. في الواقع كثيرا ما يتم التشبيه والمقارنة بين الإمبراطورية الرومانية القديمة وبين الإمبراطورية الأمريكية الحالية ولهذا كما خفف وقلّل المفكر والمؤرخ الإنجليزي البارز إدوارد غيبون من دور الأعداء في إسقاط الإمبراطورية الرومانية وركّز أكثر في كتابه (انهيار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها) على العوامل الداخلية وأن انحدار الإمبراطورية سيأتي من داخلها، فهذا ما يبدو بالضبط هو مستقبل الولايات المتحدة.

صحيح أن غيبون اهتم بتوسع في دراسة العوامل الداخلية مثل الفساد وتأثير الدين الجديد أي المسيحية في خلخلة أركان الإمبراطورية الرومانية، ولكن نجد في واقعنا المعاصر أن أمريكا في أزمة داخلية كبرى جراء العوامل الداخلية السياسية والاقتصادية بالذات. تمرد تكساس يدعمه لفيف من حكام الولايات المنتسبين للحزب الجمهوري وتلك مغامرة سياسية خطرة في زمن الانتخابات لأنه لو وصل المرشح الجمهوري دونالد ترامب لسدة الحكم مرة ثانية وهو في الأصل مقام عليه حاليا العديد من القضايا القانونية في المحاكم المختلفة فبالتأكد سوف يسعى الديمقراطيون والدولة العميقة المعادية له بإثارة القلاقل عليه مما يزيد في الانقسام والاحتقان داخل المجتمع الأمريكي المزعزع والمنشطر.

أما فيما يتعلق بأزمة الاقتصاد فيكفي أن نقول بأن الدَّين العام الأمريكي بلغ حاليا رقما فلكيا هائلا يصل لحوالي 33 ترليون دولار (أي 33 مليون مليون دولار) وإذا أهملنا مؤقتا أن هذا أكبر وأخطر دين حصل في التاريخ ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أنه قبل عشر سنوات أي في عام 2014م كان مقدار هذا الدّين حوالي 17 ترليون دولار وهذا يعني أن الدّين الأمريكي يتزايد بمقدار الضعف وأكثر في سنوات معدودة. وإذا أخذنا في عين الاعتبار أن الدّين العام الأمريكي يتخطى حاليا مقدار الناتج المحلي الأمريكي GDP (بلغ في عام 2023م حوالي 26 ترليون دولار) وبعيدا عن لغة الأرقام التي قد تكون مبهمة للبعض منا يكفي أن نذكر بأن الانهيار المالي لاقتصاد الأمريكي في عام 2008م وأن معدل التضخم وصل قبل فترة لسقف 9% (أعلى معدل منذ 40 سنة)، بالإضافة إلى عجز الميزان التجاري وتباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة الضرائب وكل هذه مؤشرات تدل على أن الاقتصاد الأمريكي يمر بأزمة صادمة وخطيرة.

المشاكل الاقتصادية السابقة بالإضافة إلى الطامة الكبرى المتمثلة في وجود عجز في الميزانية الأمريكية بحوالي 2 ترليون دولار من أصل ميزانية الولايات المتحدة السنوية البالغة حوالي 6 ترليون دولار. خطورة وجود عجز في الميزانية بحوالي الثلث أخطر ما يظهر في تقلص ميزانية الجيش الأمريكي في زمن تزداد فيه شراسة الدب الروسي في أوكرانيا ومشاكسة التنين الصيني الذي يشن حربا اقتصادية شاملة قد تتطور إلى مناوشات لفرض السيطرة على جزيرة تايوان ومضايقة لبقية حلفاء أمريكا في منطقة بحر الصين مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين. وبهذه المناسبة ينبغي ألا نغفل ضغط المجهود الحربي للجيش الأمريكي (نتيجة لانخراطه في الحرب الأوكرانية ودعم الكيان الصهيوني ومناكفته لإيران وأذنابها) على الميزانية المالية الأمريكية، سوف يقود في نهاية المطاف إلى (فخ) التمدد العسكري المفرط. وكما هو معلوم حذر المؤرخ البريطاني بول كينيدي في كتابه ذائع الصيت (صعود وسقوط القوى العظمى: التغير الاقتصادي والنزاع العسكري) من أن التمدد العسكري والإنفاق المفرط في سباق التسلح يستهلك (المتانة الاقتصادية) وهذا من شأنه في نهاية المطاف التسبب في أفول سيطرة القوى العظمى وربما سقوطها كما حصل مع الاتحاد السوفيتي. وبمختصر العبارة مع نمو النفقات العسكرية والأعباء المالية للدفاع والأمن، هذا من شأنه تقليل الاستثمارات في النمو الاقتصادي ومن ثم بداية النهاية للقوى العظمى والدول الكبرى.

 (الجغرافيا) لا تناسب مستقبل (تاريخ) أمريكا !!

في الواقع ينبغي الإشارة إلى أن مشكلة الموازنة بين الاقتصاد وتوسع النفوذ العسكري تتفاقم أكثر في حالة أمريكا لأن قواعدها الحربية والمالية هي على أرض العالم الجديد وليس القديم. وما أود الوصول إليه أنه عبر التاريخ كانت أغلب (الإمبراطوريات) الكبرى تتواجد في العالم القديم وتتميز غالبا بمساحة جغرافية كبيرة وبعدد سكان هائل وبالجملة كانت تلك الإمبراطوريات (البرية) تستمر لقرون عدة كما هو حال الإمبراطورية الرومانية والصينية والخلافة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية. ولكن اختلف الوضع في القرون الأخيرة مع ظهور (الإمبراطوريات البحرية) التي تعتمد قوتها القاهرة على وجود اسطول بحري ضخم كما هو واقع الامبراطوريات الاسبانية والبرتغالية والانجليزية والهولندية، ولكن كما هو معلوم سرعان ما تلاشت هيمنة هذه الامبراطوريات مع الزمن.

وبالعودة إلى (مدرسة الاضمحلال) التي تزعمها بول كينيدي وأن الإنفاق العسكري يرهق ويخنق الاقتصاد لذا نجد تلك الامبراطوريات في غرب أوروبا أو أمريكا في العالم الجديد تضطر إلى بناء أساطيل هائلة وانشاء المئات من القواعد العسكرية في مستعمراتها وهذا مع الزمن يرهق ويخنق ويحرق الاقتصاد. ولهذا البعض بدلا من تشبيه الإمبراطورية الأمريكية بالإمبراطورية الرومانية يجادلون بأنه من الأفضل والأدق تشبيهها بالإمبراطورية الاسبانية والامبراطورية الإنجليزية وكلاهما كانت واسعة الثراء المالي جدا ولها أساطيل ضخمة إلا أنهما اصابهما الاضمحلال والزوال مع مرور الزمن.

وبالإذن من الصحفي البريطاني تيم مارشال سوف أستعير عنوان كتابه الشائق والثري بالمعلومات (سجناء الجغرافيا) والذي يناقش الأثار السلبية وأحيانا الإيجابية للمواقع الجغرافية على الخارطة لبعض الدول، ولهذا أقول إن مستقبل أمريكيا (السلبي) مرتبط بكونها دولة عظمى تعيش على طرف العالم وخلف المحيطات. من الناحية الدفاعية تعتبر أمريكا عصية على الغزو وشبة آمنة من الأعداء ولكن لكي تستطيع الاستمرار على السيطرة على العالم كقوة عظمى وحيدة ومنفردة في القرن الواحد والعشرين يبدو أن هذا أمر يتطلب الصرف الضخم جدا جدا على الاساطيل البحرية وسلاح الطيران الحربي. وهذا يعزز فكرة أنه من الناحية الجغرافية ربما تكون أمريكا في الموقع الجغرافي الخطأ للسيطرة على العالم بالمقارنة مثلا مع موقع أوراسيا الواصل بين أوروبا وآسيا أو حتى موقع الشرق الوسط (أرض الحضارات). تقول الأسطورة أن الإسكندر المقدوني عندما استشار معلمه الفيلسوف الإغريقي أرسطو عن كيفية حكم إمبراطورية ضخمة فيقال إن أرسطو وضع في الأرض قطعة جلد كبيرة وجافة وطلب من الإسكندر أن يضع قدمه على طرفها فارتفع الطرف المقابل. وعندما كرر الأمر بالدعس على الطرف الآخر ارتفع الطرف المقابل له وهنا كانت نصيحة أرسطو للحكام ألا تكون عاصمة حكمها في الأطراف وإنما في قبل مملكتهم.

على كل حال تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة وبدافع من رغبتها المحمومة في الاستمرار لقرن إضافي في السيطرة على دفة قيادة العالم هي تخالف (سياسية العزلة) التي التزمت بها لعدة قرون. لقد كان قادة المجتمع الأمريكي يحافظون بأمانة عبر السنين على تطبيق النصيحة الأخيرة للرئيس الأمريكي جورج واشنطن عندما تقاعد من منصبه ووضع لهم الخطوط العريضة للسياسة الخارجية بأن يكونوا على الحياد فلا (كراهية راسخة ومستمرة ضد دولة معينة ولا ارتباط عاطفي بأمه أخرى). ولهذا حتى عام 1941م حاولت أمريكا أن تبتعد عن مشاكل مسرح السياسة الدولي ولم تنخرط في تحالفات عسكرية مع أوروبا حتى حصل هجوم اليابان على قاعدتها العسكرية في بيرل هابر في وسط المحيط الهادي.

فهل مع الزمن تعود الأصوات الداعية داخل الكونجرس الأمريكي لإحياء سياسة عدم التدخل والحياد (لجنة أمريكا أولاً) والانكفاء على مشاكل المجتمع الأمريكي الداخلية بدلا من صرف الأموال على المجهود الحربي فيما وراء المحيطات. وعلى ذكر مشاكل المجتمع الأمريكي التي يمكن أن تعزز لاحتمالية تراخي قدرة الولايات المتحدة على البقاء على عرش حكومة العالم لا يتسع المقال لذكر بعض تفاصيل العقبات الأخرى الخطيرة مثل المشاكل الاجتماعية (العنصرية والهجرة غير الشرعية) أو الأمنية (انتشار الجريمة والمخدرات والعنف وعمليات القتل الجماعي بالأسلحة والإرهاب والتجسس) أو الأخلاقية (انتشار المثلية والنسوية وتفكك الأسرة) أو الدينية (انتشار الإلحاد أو التطرف الديني اليميني) أو الصحية (ضعف الخدمات الطبيبة وتوابع وباء كورونا) أو التعليمية (تقهقر جودة التعليم) أو البيئية (الاحتباس الحراري والتلوث) وغير ذلك من المشاكل التقنية ونقص الطاقة.

 من هذا وذاك وفي الختام أتوقع أن الولايات المتحدة والعلم عند الله سوف تستمر لفترة طويلة وهي واحدة من أقوى الدول في العالم لكن لا أتوقع أن تحظى بالسيطرة المنفردة على العالم. وأنا أتفق تماما مع عالم السياسة ديفيد مايسون في عنوان كتابه الذي نشره في عام 2008م (نهاية القرن الأمريكي) وبالرغم من هذا العنوان الجازم في حسم هذا النقاش إلا أن الأمر قابل تماما للجدل. وبالرغم من كل ما حشدناه هنا من نقاط الضعف وخطوط الصدع في قوة أمريكا إلا أن جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد والمساعد السابق لوزير الدفاع الأمريكي يرد كل ذلك ويؤلف كتابا مختصرا بعنوان استنكاري (هل انتهى القرن الأمريكي ؟) يقرر فيه أن المستقبل ما زال بكل وضوح للعم سام !!.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق