الجمعة، 15 مارس 2024

( لماذا يناصروننا ؟!! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الثلاثاء 1445/8/17 مدينة كيب تاون

العلاقة بين شعب وحكومة جنوب أفريقيا وبين القضية الفلسطينية علاقة محيرة للبعض ومنطقة للبعض الآخر منا. بكل براءة قد نعتقد أن المظلومين يناصر بعضهم البعض ولهذا نحن وهم (كلنا في الهم شرقُ) وفق مقولة أحمد شوقي. ومع ذلك المظلوم قد يتحول إلى ظالم شنيع ولا يتعاطف مع الآخر بل سرعان ما يمارس على غيره نفس الظلم والقهر الذي وقع عليه قبل فترة وجيزة وهذا ما بينته بالتفصيل في مقال سابق حمل عنوان (يهود الهلوكوست .. التحول من الضحية إلى الجلاد). ولهذا تعاطف الأفارقة مع قضايانا القومية ونضالنا الحضاري مع الصهاينة له ولا شك أسباب وعوامل أخرى غير التعاطف الإنساني وإن كان من المحتمل أن القوم تذكروا من واقعنا مأساتنا الفلسطينية ما كانوا يرزحون تحته من (نكسة ونكبة) حكم نظام الفصل العنصري.
  بالجملة حركات التيار اليساري خصوصا في دول أمريكا الجنوبية ومنذ فترة الستينيات من القرن العشرين وهي تؤيد القضية الفلسطينية وتناصرها بحماس نكاية في النفوذ الرأسمالي الغربي وهذا يفسر لماذا تناصر حاليا البرازيل وتشيلي وبوليفيا القضية الفلسطينية لدرجة طرد سفراء إسرائيل من أراضيهم. كما أن هذه الدول اللاتينية والأفريقية تضررت من مناصرة دولة الكياني الصهيوني للحكومات الاستبدادية في تلك الدول ومساعدتها عسكريا لقمع شعوبها وهذا ما أشرنا لطرف منه في مقال (جنوب أفريقيا .. مثال يحتذى به).
عامل جديد اكتشفته هذه الأيام وأنا في زيارة سياحية لدولة جنوب أفريقيا أن للجالية المسلمة (وفي بعض الدول اللاتينية الجالية العربية) الممارسة للسياسية دور مؤثر في كسب حكومات وبرلمانات تلك الدول للقضايا العربية. يوم أمس قمت بزيارة جزيرة رون أمام ساحل مدينة كيب تاون وذلك بهدف مشاهدة زنزانة السجن التي حبس بها لمدة 18 سنة المناضل البارز نيلسون مانديلا. ما لفت نظري ابتداءً من محطة ميناء القوارب المسماة ببوابة نيلسون مانديلا وحتى داخل سجن جزيرة روبن الوجود المتكرر لاسم وصور مناضل ورفيق لمنديلا يدعى (أحمد كاثرادا).
هذا المناضل مسلم الديانة ومن أصول هندية وهو يحمل جنسية جنوب أفريقيا ولذا من أوائل مرحلة شبابه شارك في حركة النضال ضد نظام الفصل العنصري (الأبرتايد) وفي نفس القضية التي حكم فيها على نيلسون مانديلا بالسجن المؤبد حكم كذلك بالسجن المؤبد على أحمد كاثرادا وتم إيداعه في نفس الفترة مع مانديلا في سجن جزيرة روبن علما بأنه قضى هو ومنديلا في سجن جزيرة روبن 18 سنة ومجموع السنوات التي قضها مانديلا في السجون المتعددة كانت 27 سنة بينما نصيب أحمد كاثرادا كان أن وصلت سنوات سجنه إلى 26 سنة.
من أوجهه التشابه الإضافية بين مانديلا وبين أحمد كاثرادا أنهما اعتقلا سويا لأول مرة في عام 1963 وهما يختبئان في مقرهما السري في مدينة جوهانسبورغ مع بقية قيادات الصف الأول للمؤتمر الوطني الأفريقي الحزب الحاكم حاليا (ANC). وعندما وصلنا إلى سجن جزيرة روبن وبمجرد الدخول من البوابة كان أول ما نبهنا عليه المرشد السياحي وجود مسجد صغير في داخل السجن وهذا يدل على مقاومة العديد من المسلمين لاستبداد الاستعمار الإنجليزي منذ قرون ولهذا شاهد الأفارقة كيف كان يتم تجميع المقاومين من رجال الدين المسلمين من بعض المستعمرات البريطانية. لهذا منذ عقود وربما منذ قرون والسود في جنوب أفريقيا يعلمون بأن الشرفاء من المسلمين هم شركاؤهم في النضال ولهذا من أسباب نصرهم لنا الآن أن شرائح منا سبق وأن شاركت معهم مقاومتهم للاحتلال الإنجليزي وناضلوا معهم لإزالة ظلم الحكم العنصري.
ومن الموافقات كذلك أن أول ما يشاهده الداخل لسجن جزيرة روبن على يمينة بعد أن يعبر من تحت البوابة الكبيرة توجد لوحة كبيرة تشمل صورة أخرى المعتقلين السياسيين الذي أفرج عنهم من ذلك السجن. وفي أسفل تلك الصورة ترد العبارة التالية التي قاله السجين السابق أحمد كاثرادا (نريد أن يعكس سجن جزيرة روبن انتصار الحرية والكرامة الإنسانية ضد القهر والإذلال ). وفي الواقع وجود ذلك المسجد وتلك اللوحة التي تحتوي عبارات أحمد كاثرادا تذكر الأفارقة قبل غيرهم بارتباط نضالهم بالإسلام والمسلمين.
عندما توفي المناضل المسلم أحمد كاثرادا في عام 2017م أمر رئيس وزراء أفريقيا الجنوبية بأن ينكس علم البلاد وأن توقف جلسات البرلمان حدادا عليه وعندما أراد الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يزور هو وأسرته سجن جزيرة روبن لم تجد حكومة جنوب أفريقيا من تفخر به لكي يكون مصاحبا للرئيس الأمريكي في زيارته تلك إلا المناضل أحمد كاثرادا. ومن هنا أكرر بأن وجود العرب والمسلمين ذوي النشاط السياسي في بعض البلدان الأجنبية كان ذاك مما ساعد في مزيد من النصرة لقضايانا العربية. بدليل أن أحمد كاثرادا عندما حكم بالسجن مدى الحياة على المناضل الفلسطيني مروان البرغوثي توجه أحمد كاثرادا عام 2013م إلى سجن جزيرة روبن وأعلن من هنالك معارضته لهذا الحكم وقد قامت حكومة جنوب أفريقيا بدعمه في هذا المسعى.
في صالة الميناء الصغير الذي تنطلق من القوارب والعبّارات التي تنقل السياح من مدينة كيب تاون إلى سجن جزيرة روبن لفت انتباهي مرة أخرى وجود لوحة كبيرة تحتوي عبارة سطرها أحد المناضلين من رفقاء مانديلا وتقول تلك العبارة (لم نكن وحدنا في كفاحنا، بل كان شعب العالم المحترم يقف إلى جانبنا). واليوم حان وقت تسديد الدين ولهذا شعب وحكومة جنوب أفريقيا لم تتخل عن الشعب الفلسطيني ولم تتركه وحده في كفاحه، بل ذلك الشعب الأفريقي المحترم يقف إلى جانب أهل فلسطين.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق