د/ أحمد بن حامد الغامدي
يوم السبت الذي نحن فيه يتوافق مع اليوم السادس من شهر أغسطس والذي أصبح يعرف (بيوم هيروشيما) لكثرة ما ارتبط بالمأساة والكارثة المخزية التي وقعت في مثل هذا اليوم من عام 1945م عندما قام الأمريكان بالجريمة العظمى المتمثلة في إهلاك حوالي 140 ألف إنسان بعد اسقاط القنبلة الذرية عليهم. في ذلك اليوم كانت البشرية مع موعد مع الفناء الأكبر كما تمتم قبل ذلك بشهور أبو القنبلة الذرية عالم الفيزياء الأمريكي روبرت أوبنهايمر عندما شاهد تجربة أول تفجير نووي في صحراء ولاية نيو مكسيكو (أنا أصبحت الموت، محطم العالم). الأشنع من ذلك الشهادة والتعليق الذي تفوه به بول تيبيتس قائد الطائرة الأمريكية الأثيمة التي ألقت قنبلة الهلاك فقد وصف ذلك المشهد وكأنه بمثابة (ومضة مشرقة كبيرة، شاهدنا التوهج الذي انبعث لحظة الانفجار وتذوقنا طعم الرصاص).
الجدير بالذكر أن تلك الجريمة اللعينة من قبل الأمريكان بسحق وإبادة المدنيين بالقنابل المريعة في هيروشيما وناجازاكي في يومي 6 و 9 أغسطس ليست الوحيدة فقد سبقها قبل ذلك في منتصف شهر فبراير قصف مكثف للطيران الأمريكي والبريطاني على مدينة درسدن الألمانية تسبب في ثلاثة أيام فقط في مصرع حوالي ربع مليون شخص مدني بريء. وما يهمنا هنا ليس ذكر تفاصيل الفاجعة و(المأساة) ولكن ما نصبوا إليه هو (التأسّي) واستشفاف روح الأمل من غلالة ظلال الألم الكثيفة. قيل الكثير عن (المعجزة اليابانية) ونظيرتها المعجزة الألمانية وكيف نهضت تلك الأمم الأبيّة من ركام ودمار الحرب لتصبح قائدة شعوب العالم في العلوم والتقنية والنمو الاقتصادي. ولكن (الدروس والعبر) التي يمكن أن نستشفها من كارثة يوم هيروشيما كثيرة ومتعددة ويمكن توظيفها لشحذ الهمة وشحن العزيمة للأفراد والشعوب والحكومات على حدٍ سواء.
عندما تقع بك مصيبة كبرى قد تعتقد أنه لا مخرج لك منها وعندما تصيبك كارثة أخرى بعدها قد تظن أنك انتهيت حتما ولا (أمل) لك ولكن القصة التي حصلت للرجل الياباني الأعجوبة تسوتومو ياماغوتشي في يوم هيروشيما قد تبث الأمل في مثل هذا الواقع المرير بتتابع المحن والمصائب. العجيب في قصة ياماغوتشي ليس أنه عمر طويلا حتى بلغ سن 94 ولكن لأنه الشخص الوحيد في التاريخ البشري كله الذي نجا من أشد الكوارث والمصائب المتوقعة ولذا يستحق بجدارة أن تضاف قصته بأثر رجعي إلى كتاب (الفرج بعد الشدة) للتنوخي. في يوم السادس من شهر أغسطس لعام 1945م سافر الشاب المهندس ياماغوتشي من مدينته الأصلية ناجازاكي في رحلة عمل إلى مدينة هيروشيما لكي يعمل في حوض بناء السفن التابع لشركة ميتسوبيشي. وهنا حصل له البلاء (الأول) حيث عندما عاصر حصول انفجار القنبلة الذرية على هيروشيما مما تسبب في حروق شديدة في وجهه وذراعيه والجانب الأيسر من جسده. وبعد أن استفاق ياماغوتشي من الغيبوبة التي حدثت له قرر أن يعود على الفور إلى مدينته الأصلية ناجازاكي التي بها زوجته وطفله وبعد أن وصلها في اليوم التالي توجه لمستشفى المدينة للعلاج. وفي اليوم الذي يلي وصوله لناجازاكي ذهب ياماغوتشي إلى مقر عمله ليخبر مديره وزملاؤه بما حصل له في مدينة هيروشيما وتجربته في مشاهدة القنبلة الذرية وأثناء حديثه معهم حصل التفجير الثاني للقنبلة الذرية وعمّ المكتب الذي هم فيه وهج شديد واهتزت الأرض بشدة. ومن الطريف في مساق هذه المأساة أنه يشاع أن ياماغوتشي علق على هذه الأحداث المخيفة المتتالية (اعتقدت أن سحابة الفطر تتبعني من هيروشيما).
دروس يابانية في إنقاذ البشرية
الجدير بالذكر أن أفراد الشعب الياباني الذين عايشوا أهوال حادثة تفجير القنابل الذرية ونجوا من الموت يحملون اسم (هيباكوشا) وتعترف الحكومة اليابانية بوجود قوائم تضم 650 ألفا من هؤلاء الهيباكوشا الناجين من محرقة وإشعاعات القنابل الذرية وطبعا لكل واحد منهم له قصته الخاصة في التعايش مع هذه المأساة الهائلة. بالمناسبة عدة مئات إن لم يكن عدة آلاف من هؤلاء الناجين من الهيباكوشا لهم نشاط كبير داخل وخارج اليابان كدعاة للسلام ضد الحروب واستخدام أسلحة الدمار الشامل والحث على التعايش السلمي بين الشعوب وقد كان شعارهم: إنقاذ البشرية .. من خلال الدروس المستفادة من تجاربنا. البعض منهم أصبح من المشاهير كالقصة الفريدة للناجي الياباني كازوهيكو فوتاغاوا الذي يعتبر تقريبا أصغر ناجي من جحيم قنبلة يوم هيروشيما المهلكة فهو في الأصل كان جنينا في رحم أمه في تلك اللحظة في الشهر الثاني من الحمل وبالرغم من تعرض والدته للأشعة الذرية الضارة إلا أن نموه لم يتأثر. والأغرب من ذلك أن من أسباب نجاة والدته وإخوته الأكبر منه من الهلاك بسبب القنبلة أنهم انتقلوا بالصدفة من منزلهم المسلح إلى منزل جارهم الذي كان سقفه مصنوعا من القش وبهذا لم يتعرضوا لجروح خطيرة بسبب سقوط قطع الأسمنت الثقيلة عليهم أو الزجاج المتناثر. وهذا درس آخر من دروس وعبر تلك الكارثة أنه مهما كنت في أضعف حالاتك وكتب العزيز القدير لك النجاة فسوف تنجو:
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمانُ
من صور الأمل التي تستفاد من ركام قصص الألم والمعاناة التي حصلت للشعب الياباني في اليوم الهيروشيمي المشؤوم أن الشعب الياباني بالرغم من حالة الانكسار والفوضى التي حصلت له مباشرة بعد تلك الفاجعة غير المسبوقة إلا أن ذلك الشعب الصبور والعنيد بدأ مباشرة بمحلولة التعافي ولملمت الجراح لدرجة أن أول فصل دراسي لطلاب مدارس مدينة هيروشيما تم فتحه في شهر أكتوبر أي بعد شهرين فقط من الكارثة. ليس هذا وحسب بل توجد صورة شهيرة ألتقطها مراسلا حربيا أستراليا لمدينة هيروشيما بعد عدة أشهر من الكارثة تبين مجموعة من أطفال المدارس الصغار وهم يتلقون التعليم في فصل دراسي موجود في العراء المكشوف وهم محاطون بركام الدمار وآثار القتل والخراب.
وفي الختام أود أن أعرج على قصة أخرى من عجائب شعب (كوكب اليابان) الفريد والمرتبطة بشكل أو آخر بتبعات إسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما. الجميع يعلم خبر جنود سلاح الطياران الياباني في الحرب العالمية الثانية الذين كانوا يقومون بشن هجمات انتحارية على السفن الأمريكية وأطلق عليهم جنود الكاميكازي. وما يهمنا هنا هو الدرجة العالية للانضباطية وتفاني الجندي الياباني وطاعته لأوامر فكما أن البعض منهم ينفذ حرفيا خطط الهجمات الانتحارية ويحرص على الموت كان البعض الآخر منهم يتبع الأوامر العسكرية حرفيا في الحرص على الحياة وعدم الموت. بعد إسقاط القنبلة الذرية الثانية على مدينة ناجازاكي في يوم 9 من أغسطس اضطر إمبراطور الياباني إعلان الاستسلام المهين غير المشروط في يوم 14 من أغسطس وبهذا انتهت الحرب لجميع أفراد الجيش الياباني إلا جندي واحد غريب يدعى هيرو أونودا.
قبل يوم هيروشيما بحوالي سنة أُسند لضابط الاستطلاع في الجيش الياباني أونودا أمر مباشر وصريح من قبل قائدة العسكري بأن يتوجه إلى إحدى الجزر الفلبينية في مهمة عسكرية هو وثلاثة من الجنود وإنه تحت أي ظرف من الظروف (لا ينبغي عليه الاستسلام وأنه يجب أن يقاتل حتى النهاية وألا ينتحر). وعلى الرغم من خسارة اليابان للحرب إلا أن أونودا ورفاقه استمروا في حرب العصابات لسنوات طويلة ضد جنود الفلبين لدرجة أنه قتل منهم خلال السنين حوالي ثلاثين جنديا. وبعد خمس سنوات عاد أحد أولئك الجنود إلى اليابان ليكتشف أن الحرب قد انتهت وهنا ألقت الطائرات اليابانية منشورات على الجزيرة تخبر أونودا ورفيقه بأن الحرب انتهت منذ زمن بعيد ومع ذلك رفضوا تصديق تلك المنشورات وظنوا أنها مزيفة. وبعد سنوات طويلة من محاولات أقناع أنودوا بانتهاء الحرب وبالرغم من مناشدة عائلته ووالدته له بالعودة إلا أنه رفض مغادرة الجزيرة إلا بعد أن يتم إلغاء الأمر العسكري القديم الذي تلقاه من قائده الحربي. وفي عام 1974م أي بعد حوالي ثلاثين سنة من انتهاء الحرب واختفاء أوندوا في تلك الجزيرة أرسلت اليابان ذلك القائد العسكري لكي يلتقي بشكل مباشر مع أوندوا ويبلغه بانتهاء مهمته العسكرية الموكل بها. وبالفعل سلم أخير أنودوا سلاحه وذخيرته وعاد مع قائده العسكرية الرائد تانيجوشي إلى اليابان وحينها صرح ذلك الجندي العنيد والمتفاني بأنه لم يكن يفكر في شيء سوى تنفيذ الأوامر فقط.
على كل حال القصص والعبر والدروس المستفادة من مأساة يوم هيروشيما المدوّي والدامي كثيرة والله يحمينا جميع بأن لا تكون تلك المأساة متجددة ومتكررة مع وتيره القلق هذه الأيام من حالات التصعيد السياسي والعسكري بين الغرب وبين روسيا والصين للدرجة التي دفعت الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش للقول بأن العالم على بعد خطوة واحدة من الإبادة النووية !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق