د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1445/7/29
قبل عشرين سنة بالتمام أي في عام 2004م نشر الدكتور عبدالله الغذامي كتاب (الثقافة التلفزيونية .. سقوط النخبة وبروز الشعبي) وأهم الأفكار التي طرحها ذلك الكتاب هو (تأسيس فهم جديد) في مجال الإعلام وذلك أن الثقافة انتقلت من نحوية اللغة إلى النحوية الجديدة (نحو الصورة). وعندما نشر الغذامي أفكاره الناقدة تلك كانت تلك الفترة هي زمن (الشاشات الفضائية) المبهرجة ولهذا بالفعل سُحب البساط في حينها من الكتاب الورقي والجريدة اليومية إلى جهاز التلفزيون وأقمار البث الفضائي.
في الواقع منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين بدأت تظهر إرهاصات (الإعلام البديل) في أشكاله الجديدة مثل القنوات الفضائية وشاشات الكمبيوتر المرتبط بشبكة الإنترنت ولهذا بالفعل بدأت ظاهرة تهميش كُتّاب الصحف ومفكري الكتب ولكن (سقوط النخبة) المفجع كما استشرفه الغذامي بلغ أشده ليس من جراء بريق شاشات التلفزيون ولكن من وميض شاشات الهواتف الذكية المتصلة بشبكات وسائل التواصل الاجتماعي. وبالمناسبة الدكتور الغذامي ظهر قبل عدة أسابيع في لقاء (تلفزيوني) شيق وثري على قنوات البث الفضائي إلا أنني أعترف أولا بأنني علمت عن هذا اللقاء فقط من خلال (قنوات) وسائل التواصل الاجتماعي مثل الواتساب وتويتر وشاهدت بعض حلقات اللقاء من خلال (قناة) اليوتيوب. اعتراف ثاني أذكره هنا عن الدكتور الغذامي أنني فقدت الاطلاع على إنتاجه الفكري وذلك بعدما توقف عن نشر مقالاته الأدبية والفكرية على صفحات جريدة الرياض ولهذا عندما انسحبت (الصحافة الورقية) من المشهد الإعلامي في مقابل وسائل الإعلام البديل، ترسخ أكثر سقوط النخبة وانزوائهم. ولا زلت أذكر بدايات قيام الغذامي بنشر مقالاته الأسبوعية في صحيفة (سبق) الإلكترونية وكيف عبر عن سعادته أنه من خلال (النشر الإلكتروني) يستطيع الوصول إلى عشرات الآلاف من القراء الذين ليس فقط يقرؤون مقالاته، ولكنهم كذلك يمكن أن يتفاعلوا معها ويكتبون تعليقاتهم الآنية تحت المقال.
الاعتراف الثالث الذي أسوقه هنا أنه قبل حوالي عشر سنوات كنت وبصورة شبه يومية أدخل على الموقع الإلكتروني لصحيفة (سبق) الرقمية لكي أتابع الأخبار العامة واقرأ مقالات كتاب الرأي، وطبعا هذه العادة أخذت تتلاشى رويدا رويدا مع مرور الأيام. ولهذا قبل عدة أسابيع ليس فقط أعدت اكتشاف عبدالله الغذامي الذي بالنسبة لي خفت حضوره الفكري في الساحة، ولكن أيضا (تنبهت) فجأة أنه ومنذ سنوات عدة لم أعد على الإطلاق أطلع على المحتوى الإخباري والفكري/الثقافي الذي تنشره (صحيفة سبق).
وهذا يقودك معي أيه القارئ العزيز إلى الاعتراف الرابع أن الباعث الحثيث لكتابة هذا المقال الذي بين يديك هو إعلان المجموعة السعودية لأبحاث والإعلام (الجهة المالكة لعشرات المنصات الإعلامية من الجرائد والمجلات) أنه ابتداءً من يوم الجمعية 19 يناير سوف يتم إلغاء النسخة الورقية من جريدة (الاقتصادية) وجريدة (الرياضية) والاكتفاء بنشرهما في المنصة الرقمية. طبعا لا جديد يمكن أن يذكر ويسطر فيما يتعلق بأن خاتمة المطاف للصحف الورقية أن تحال إلى أرفف المتاحف بعد أن تخطها بمراحل واسعة الإعلام البديل.
الجميع كان يعلم أن إيقاف (الصحافة الورقية) هي مسألة وقت ليس إلا فعلى مستوانا الإقليمي صرح الرئيس التحرير الأسبق لأبرز وأهم جريدة عربية (صحيفة الشرق الأوسط) الأستاذ عثمان العمير، صرح قبل سبع سنوات في منتدى الإعلام العربي في دبي أن الصحافة الورقية ماتت من عشر سنوات. ولو رجعنا بالتاريخ للفترة التي يقصدها عثمان العمير عندما صرح في عام 2017م بقوله (الصحافة الورقية ماتت من عشر سنوات) فسوف نجد أن هذا يقودنا إلى سنة 2007م وهي تقريبا نفس السنة التي ظهرت فيها للفضاء الرقمي (صحيفة سبق الإلكترونية). والمعنى أن (عمران) الصحافة الرقمية هو (خراب) الصحافة الورقية ولا شك، ولكن قصة الصحافة لم تنته فصولا بعد. ففي الواقع منذ عام 2010م نشر أستاذ الإعلام الأمريكي روبرت ماكينزي كتاب يحمل عنوان (موت وحياة الصحافة الأمريكية) وتلا ذلك العشرات من المقالات الصحفية التي (تنعى) الفقيدة الراحلة أي الصحافة بجميع أنواعها الرقمي منها والورقي. وقد رسخ حقيقة وجود ظاهرة (موت الصحافة) كتاب نشر قبل حوالي سنة وحمل عنوان (موت صحف الأخبار اليومية) وهو من تأليف الصحفي الأمريكي والأستاذ الجامعي في مجال الإعلام أندرو كونتي ومرة أخرى هذا الكتاب لا يقصر الحديث عن موت الصحافة الورقية فقط.
هل بدء انحسار موجة الصحافة الرقمية؟
وبعد هذا المدخل السردي المطول الذي جمع بين كتاب (الثقافة التلفزيونية) ولقاء الغذامي الأخير مع القناة الفضائية وإعادة تذكيري بصحيفة سبق الإلكترونية وأخبار إلغاء النسخة الورقية لأغلب الجرائد المحلية في سياق الحديث عن موت الصحافة، من هذا وذاك يبدو أننا نشهد منذ فترة نقطة تحول فيما يخص صحف المستقبل فهي وإن كانت رقمية إلا أننها سوف تنحى أن تكون غير (احترافية) حيث سوف يتم تحرير محتواها على يد الهواة وليس من خلال المؤسسات الصحفية. ودليلي على ذلك أن الاعتقاد القديم هو أن الصحافة الرقمية (مثل صحيفة سبق الإلكترونية) سوف تكتسح مع الزمن حصون ومعاقل الصحافة الورقية التقليدية، ولكن الواقع يعطي صورة مختلفة وهي أن (مقروئية) الصحف الإلكترونية هي الأخرى في تراجع مريع. في السابق أُعجب الدكتور عبدالله الغذامي لأن مقالاته عبر صحيفة سبق الإلكترونية يقرئها عشرات الآلاف بعد ساعات من نشرها على شبكة الانترنت ولهذا كانت صحيفة سبق (تفخر) بوضع أرقام أعداد القراء الذين يطلعون على محتواها الصحفي سواء كان خبرا أو تقريرا أو مقالا للرأي. واليوم من يزور الموقع الإلكتروني لصحيفة سبق الإلكترونية سوف يجد خدمة بيان عدد القراء لأي خبر أو مقال معطلة تماما ربما لأن الأعداد قليلة ولا تكاد تذكر كما أن الغالبية العظمى من الأخبار والمقالات لا يوجد لها إي تعليق على الإطلاق من قبل القراء على خلاف الحال أوائل سنوات ظهور صحيفة سبق.
ولو استمر الحال على نفس هذه الوتيرة فمعنى ذلك أن منصات الصحف الرقمية سوف تغلق أبوابها ومنافذها الإلكترونية بعد فترة من الزمن طالت أو قصرت، كما كان الجميع يقول بأن الصحافة الورقية سوف تطوي أوراق جرائدها طال الزمن أو قصر. وبحكم أن الصحيفة الإيطالية (جازيتا دي مانتوفا) هي أقدم جريدة في العالم حيث ظهرت عام 1664م بمعنى أنه منذ حوالي ثلاثة قرون ونصف وهي ما زالت تطبع بشكل مستمر (تحولت مؤخرا للنسخة الإلكترونية) في حين أنه على المستوى المحلي ربما نحتفل هذه السنة بمورو (مئوية) أقدم صحيفة سعودية وهي جريدة (أم القرى) التي ظهرت عام 1924 ميلادي. وبالتالي بمقارنة الصحف الورقية العتيقة والمستمرة التي تحولت إلى النسخة الإلكترونية بالصحف الرقمية التي صدرت أصلا في الفضاء الإلكتروني مثل صحيفة سبق والتي نشأت عام 2007م نعلم أن الصحافة الرقمية (للصحف المستحدثة) لا تاريخ راسخ لها وربما تتلاشى في المستقبل المنظور عندما تصبح تكلفة إصدارها لا تتوافق مع مصادر دخلها.
وهنا يجب أن نذكر بأن الصحف الورقية العريقة (مثل الواشنطن بوست والجارديان البريطانية وليموند الفرنسية والبرافدا الروسية والأهرام المصرية والرياض السعودية والأنباء الكويتية والسفير اللبنانية) بسبب رصيدها السابق من الشهرة والثقة والدعم المالي ربما يستمر بقاؤها معنا لبعض الوقت بعد أن تحولت للنشر الإلكتروني. وفي المقابل وعلى مستوى العالم لم تشتهر أي صحفية رقمية ظهرت منذ بداياتها وهي في نسختها الإلكترونية ولم تمر بمرحلة الطبعة الورقية والسبب في ذلك أن هذه الصحف الرقمية الجديدة مصممة أصلا لكي تغطي الأخبار المحلية. ولهذا نحن في المملكة قد نعرف صحيفة سبق، ولكن في الغالب ليس لنا اهتمام كاف بالصحيفة الرقمية المصرية (مدى مصر) بينما لم تصلنا شهرة أي صحيفة رقمية منذ التأسيس واسعة التداول في أمريكا أو بريطانيا على سبيل المثال.
المستقبل لصحافة المواطن وهواة صناع المحتوى
في العقود الزمنية القديمة كان ما يجذب جمهور الناس للصحف اليومية هو الحصول على آخر الأنباء مع شيء من أخبار المنوعات الخفيفة ومطالعة الكاريكاتير الساخر. وطبعا هذه الخدمة الإخبارية والترفيهية التي كان يقدمها (الإعلام القديم) هي في الغالب نفس الخدمة التي يقدمها (الإعلام البديل) من خلال قنوات ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن هذه المرة ببهرجة أكثر تشويقا في الصورة والصوت. بالفعل لقد حصل (تأسيس لفهم جديد) كما توقع قبل عشرين سنة الدكتور الغذامي في كتابه سالف الذكر (الثقافة التلفزيونية) ولكن القفزة الهائلة في (المفهوم الجديد) لا تقف عند بهرجة الصورة (النحوية الجديدة: نحو الصورة) ولكن الأهم من ذلك أن المتلقي للرسالة الإعلامية سواء كانت مقروءة أو مشاهدة تحول من الموقف السلبي إلى الدور الإيجابي فأصبح هو نفسه (صانع المحتوى).
وهذا يقودنا إلى المفاهيم الجديدة في مجال علم الإعلام وعالم المعلومات وهي أن يكون استقبال وارسال المحتوى الإعلامي (وفي القلب منه المحتوى الصحفي) متاحا للجميع وبدون قيود أو احتكار أو حجب. وهذا ما يعرف باتجاه وتيار (دمقرطة المعلومات democratization of information) ولهذا في زمن الذكاء الاصطناعي AI وعصر انترنت الأشياء IoT الأبواب مشرعة للجميع للمشاركة في انتاج الخبر الصحفي ونشره وبهذا يصبح الواحد منهم مواطن صالح لديه حس المفهوم الجديد البراق (صحافة المواطن citizen journalism) أو المواطنة الصحفية.
قبل عدة سنوات كان من بديهيات المنطق الافتراض أن عمران الصحافة الرقمية يعني خراب الصحافة الورقية وعلى نفس النسق وبشيء من بعد النظر يمكن أن نتنبأ بأن عمران (صحافة المواطن) هي في نهاية المطاف خراب للصحافة الرقمية الرسمية وليس رافد لها. الفارق الرئيس يتمثل في العمل من خارج المؤسسة (أي المنصات الصحفية الرسمية أو التجارية) ففي السابق لكي يحصل الواحد منا على خبر مهم (في السياسة والاقتصاد بالذات) كانت يتوجب أن يطالع في المساء نشرة أخبار التاسعة في التلفزيون أو أن يتصفح جرائد الصباح بمعية فنجان القهوة. والآن تغير الحال بشكل جذري وثوري وأصبحت شاشات أجهزة الجوالات الذكية هي المصدر الرئيس لتلقي الأخبار وبصورة شبه حصرية عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي وليس من خلال المواقع الإلكترونية للصحف الرقمية. الجرائد الورقية قديما كان تستخدم (لتصفح) الأخبار من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة بينما اليوم لا أحد في الغالب يدخل على الموقع الإلكتروني للجرائد الرقمية لكي يتصفح جميع الأخبار ويقرأ أغلب المقالات وإنما يقع أحيانا أن تصلك رسالة واتساب أو تغريدة تويتر عليها (رابط إلكتروني) لخبر أو تقرير أو مقال منشور في صحيفة إلكترونية وبالنقر على ذلك الرابط تقوم بزيارة واحد يتيمة لموقع الصحيفة ربما كل أسبوع مرة مثلا.
بينما تزايد التفاعل الإيجابي من الأفراد والمواطنين للمساهمة في (صحافة المواطن) والتمتع بحقوقهم (التي تكفلها دمقرطة المعلومات) في إنتاج ونشر الأخبار (غير الضارة ولا المخالفة) هذا من شأنه أن يؤدي إلى تدفق هائل في (المحتوى الإعلامي) الذي ينشره هواة الصحافة الجدد ولا يستطيع الحرس القديم من حراس البوابة الإعلامية من حجبه وصده. ولأن المصائب لا تأتي فرادى على مؤسسات الصحافة الرقمية فيوجد أمر آخر أود أن أذكره فيما يتعلق بمستقبل الصحافة الإلكترونية وهو مشكلة (الفجوات العمرية) لمستخدمي وسائل الإعلام. ما ينبغي قوله هنا أنه عبر السنوات الماضية العديد من الدراسات الجامعية والاستبيانات والاستقصاءات المسحية في مختلف دول العالم بينت أن الجيل الجديد (جيل الألفية أو جيل Z) الذي ولد بعد تفشي استخدام الإنترنت لا يستخدم إلا وسائل الإعلام الجديد (وسائل التواصل الاجتماعي) في الاطلاع على الأخبار. ومن ذلك مثلا تقرير نشر في عام 2019م في مجلة الإكونيمست البريطانية يستقصي خارطة استخدام وسائل الإعلام عبر شرائح المجتمع فوجدت المجلة أن غالبية الشباب المراهقين في بريطانيا هم أقل ألفة وتعود مع قناة البي بي سي الشهيرة بالمقارنة مع كثرة استخدامهم لموقع (اليوتيوب). وعلى عهدة تقرير الإكونيمست السالف الذكر فإنه في عام 2015م كانت نسبة الشباب العربي (فئتهم العمرية 18-24 سنة) الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لتلقي الأخبار، نسبتهم حوالي 25% بينما زادت هذه النسبة خلال ثلاث سنوات فقط أي في عام 2018م إلى حوالي 80% وهذه ولا شك أرقام ترسم مستقبلا قاتما للصحافة التقليدية حتى في ثوبها الرقمي.
وفي الختام ونحن في مطلع هذا العام الميلادي والذي يتوافق مع مئوية صدور أول جريدة سعودية في عام 1924م وفي الوقت الذي ربما بعض المؤسسات الصحفية لدينا وأقسام الصحافة في جامعتنا الوطنية، تجهز للاحتفال بهذا التاريخ المميز والعريق، إلا أنني وقفت حائرا هل واقع الصحافة لدينا يستدعي الاحتفال والابتهاج بإصدار أول صحيفة ورقية أو الابتئاس والقلق من مستقبل أول صحيفة رقمية (صحيفة سبق) التي يثار سؤال مشروع عن مدى إمكانية استمراره مع عزوف الأجيال القادمة من الصحافة التقليدية وتفضيلهم لصحافة الهواة والمواطنة الصحفية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق