الجمعة، 15 مارس 2024

( سياحة السجون .. إطلالة فريدة على التاريخ )

 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1445/8/28

 في السنوات الأخيرة أصبحت دولة جنوب أفريقيا تحظى بشهرة سياحية متزايدة تمثلت بتحقيقها المركز الثالثة في عدد السياح على مستوى القارة السمراء وطبعا من عوامل الجذب السياحي لها جمال طبيعتها البكر وتميزها المشهور برحلات سفاري الحيوانات في البر والبحر كما أشرنا لذلك في مقال سابق (السياحة مع أسماك القرش). ومع ذلك الزائر لمدينة كيب تاون في أقصى الجنوب من جنوب أفريقيا لن تكتمل (متعته) رحلته حتى يشاهد أجواء البؤس التي عاشها رمز النضال السياسي الخالد (نيلسون مانديلا) في غرفة زنزانته الصغيرة في سجن جزيرة روبن أمام شاطئ مدينة كيب تاون !!.   

من فوائد السفر التعرف على عادات وثقافات الشعوب فبالإضافة لاستكشاف طبيعة حياة قبائل الزولو الأفريقية لعل من المناسب للسائح لجنوب أفريقيا أن يطلع على شيء من تاريخ المعاناة والاضطهاد الذي تعرض له السكان الأصليون على يد الرجل الأبيض الأوروبي وتوجد عدة متاحف في مدينة جوهانسبورغ ومدينة كيب تاون عن فترة حكم نظام الفصل العنصري (الأبارتايد). وكما هو معلوم بسبب معارضة نيلسون مانديلا والعديد من رموز السياسة الأفارقة لحكومة بريتوريا العنصرية تعرضوا للاعتقال والسجن لسنوات طويلة كان نصيب مانديلا منها 27 سنة قضى منها 18 سنة في زنزانته الصغيرة المشهورة في سجن جزيرة روبن. ولهذا لا تكتمل أي رحلة سياحية هادفة لمدينة كيب تاون من دون التقاط الصور التذكارية من أمام زنزانة نيلسون مانديلا المغلقة وهو أمر يقوم به عدد كبير من السياح الذين يبلغ عددهم سنويا حوالي 300 ألف زائر للجزيرة السجن.

التعرف على تاريخ الدول والشعوب من خلال زيارة أبرز سجون تلك الدولة أوضح مثال لهذه الزيارات الثقافية هو ما يحصل عندما تقوم كسائح بزيارة سجن برج لندن الشهير. في الواقع برج لندن هو في الأصل قلعة تاريخية على ضفاف نهر التايمز ونظراً لحصانتها العسكرية استخدمت لفترة من الزمن كقصر ومقر سكن للأسر الحاكمة البريطانية وبحكم أن هذه القلعة ضخمة ومتعددة المرافق والأبراج لذا استخدم أحدها كسجن سياسي منذ 1100 ميلادي. قائمة الأشخاص البارزين الذين تم سجنهم عبر القرون في قبو وزنازين برج لندن تشمل المئات من الملوك والأمراء والوزراء والنبلاء وكبار رجال الدين ولهذا تاريخ الإمبراطورية البريطانية الداخلي والخارجي مرتبط بهذا السجن. يكفي أن نعلم أنه سجن فيه ثلاثة من ملوك إسكتلندا في عصور مختلفة جون الأول وإدوارد الثاني وجيمس الأول وكذلك ملك فرنسا جون الثاني، بل إن ملك بريطانية هنري السادس سجن فيه مرتين وكذلك الملك الإنجليزي اليافع إدوارد الخامس.

وفي حين أن أغلب الزوار والسياح البالغ عددهم سنويا حوالي ثلاثة ملايين زائر لبرج لندن يشغلهم هدفا واحدا هو مشاهدة تاج وصولجان الإمبراطورية البريطانية إلا أنه يفوتهم أن يشاهدوا الزنزانة التي حبست فيها إحدى أهم الملكات على الإطلاق في التاريخ البشري ألا وهي الملكة الإنجليزية إليزابيث الأولى والتي سجنت لعدة أشهر في برج لندن. الجدير بالذكر أن سجن لندن شهد كذلك سجن بعض الملكات وزوجات الملوك والأميرات وبمناسبة ذكر الملكة إليزابيث الأولى لعل من المناسب لزوار سجن برج لندن أن يعلموا أن أم تلك الملكة وهي آن بولين الزوجة الثانية للملك هنري الثامن سجنت لعدة سنوات في برج لندن وتم إعدامها فيه والموقع الذي تم فيه قطع رأسها هو اليوم معلم سياحي مميز.

ولعل فيما سبق ذكره من العلاقة الوثيقة بين سجن برج لندن وتشكيل تاريخ الإمبراطورية البريطانية يوحي للقارئ الكريم أن الزيارات الثقافية لمثل هذه المعالم السياحية الغريبة مثل السجون والمعتقلات أمر مفيد في فهم التاريخ واكتساب الدروس والعبر. فهذا مانديلا تحول من إرهابي وضال مضل وهو في زنزانته إلى رمز خالد وهو على كرسي الرئاسة والحكم وهذه الملكة إليزابيث السالفة الذكر بعد إطلاق سراحها من سجن برج لندن ثم بعد ذلك بسنوات جلست على العرش قالت (لقد سقط أناس من صف الأمراء وسجنوا في هذا القصر، أما أنا فقد انتقلت من سجينة في هذا القصر إلى ملكة لذا وجب علي أن أقر لله بالشكر وأن أكون رحيمة بالناس).

 وبالانتقال من الجزر البريطانية إلى جارتها اللدودة فرنسا فهل لو كان سجن (الباستيل) الشهير في باريس ما زال قائما ألم يكن سوف يشهد كمّا غفيرا من السياح والزوار الذين يرغبون باستكشاف أهم لحظة في تاريخ الثورة الفرنسية (اجتياح حصن الباستيل). من يزور مدينة باريس اليوم لن يجد أي أثر لسجن الباستيل ولكن عوضا عن ذلك سيجد ساحة كبيرة في نفس الموقع تسمى بكل بداهة (ساحة الباستيل). ومع استحالة الزيارة الفعلية لسجن الباستيل ربما يمكن أن نستشعر الأجواء التاريخية التي صاحبت وتلت اقتحام حصن الباستيل من خلال قراءة الرواية الشيقة (سقوط الباستيل) للأديب الفرنسي البارز ألكسندر دوماس. مرة أخرى كان سجن البالستيل الباريسي مثل سجن البرج اللندني بؤرة اعتقال الملوك وكبار شخصيات المجتمع الفرنسي ويمكن من خلال دراسة الأحداث التي عاشها رواد السجن وأسباب اعتقالهم، يمكن أن نحصل على إطلالة على تعقيدات الدسائس والمؤامرات والتقلبات السياسية. وبمناسبة ذكر الأديب المبدع ألكسندر دوماس يمكن أن نرشح كذلك رواية (الرجل ذو القناع الحديدي) والتي تدور عن حصن الباستيل وسجينة المشؤوم والمزعوم أنه الأخ التوأم للملك الفرنسي لويس الرابع عشر.

وقبل أن نغادر فرنسا لعل من المناسب أن نذكر رواية ثالثة من إبداع المبدع دوماً ألكسندر دوما في فن (أدب السجون) وعنوان هذه الرواية الإضافية هو (الكونت دي مونت كريستو) وهذه الرواية ليس فقط مستوحاة من قصة شبه حقيقة، ولكن أيضا السجن الذي يفر منه بطل الرواية البحار/الكونت هو سجن حقيقي.ونحن نتكلم هنا بالتحديد عن سجن قلعة شاتو دي إيف والمقام على جزيرة صغيرة مقابل مدينة مارسيليا على الساحل الجنوبي لفرنسا ويبلغ زوار هذا السجن/الجزيرة حوالي 100 ألف سائح سنويا. ونظرا للعزلة البحرية لتلك الجزيرة والارتفاع الشاهق لجدران القلعة أصبح سجن شاتو دي إيف مشهورا في الزمن القديم بأنه السجن الذي يستحيل الهروب منه وحتى لو تمكن أحد السجناء من تسلق الجدران ومغافلة الحراس فإنه في الغالب سوف يقتل عندما يحاول السباحة في تيارات الماء العنيفة حول تلك الجزيرة.

نفس هذا التوصيف (السجن الذي يستحيل الهروب منه) وكذلك نفس ذلك التحذير (السجين الهارب سوف يتعرض للغرق بسبب تيارات الماء الجارفة) أطلق على واحد من أشهر السجون في زمننا المعاصر (سجن ألكاتراز). يشتهر هذا السجن باسم رديف وهو (سجن الصخرة) لأنه عبارة عن قلعة حصينة مبنية على جزيرة صخرية تقع مقابل سواحل مدينة سان فرانسيسكو وكان في السابق يعتبر أحد أخطر السجون في الولايات المتحدة نظرا لأن النزلاء فيه هم في العادة من عتاة المجرمين والقتلة وزعماء العصابات الكبار مثل الشقي آل كابوني زعيم مافيا مدينة الآثام والجريمة شيكاغو. وفي حين أن سجن الباستيل أشتهر بكثرة الروايات الأدبية التي تدور أحداثها حوله كما سبق الاشارة إليه (ومن ذلك أيضا بطل رواية قصة مدينتين لتشارلز ديكنز قد سجن في الباستيل لعدة سنوات)، نجد في المقابل أن سجن ألكاتراز وبحكم وجوده في ولاية كاليفورنيا حاضنة أستوديوهات هوليوود لذا لا عجب أنه كان أكثر سجن ظهر في الأفلام السينمائية. فبالإضافة للأفلام المتعددة التي تدور عن محاولات الهروب منه أو حالات الشغب والعصيان داخل السجن لعل من الملائم الإشارة إلى أحد هذه الأفلام عن سجن ألكاتراز لارتباطه الوثيق بعنوان هذا المقال (سياحة السجون). 

تدور أحداث فلم (الصخرة The Rock) عن مجموعة من جنود البحرية الأمريكية المنشقين والذين يقتحمون سجن ألكاتراز ومن ثم يعتقلون العشرات من السياح (في الواقع يزور هذا السجن يوميا أكثر من خمسة آلاف سائح) ويأخذونهم رهائن ويحبسونهم في زنازين السجن. وتستمر الحبكة الدرامية لذلك الفلم عندما يطلب الخاطفون من الحكومة الأمريكية أن تدفع لهم فدية بمبلغ 100 مليون دولار وإلا سوف يطلقون على مدينة سان فرانسيسكو من فوق تلك الصخرة صواريخ موجهه تحتوي غاز الأعصاب المميت.

 إقامة فندقية في زنزانة خمسة نجوم

الفلم الهوليوودي السالف الذكر عن سجن ألكاتراز توجد فيه مشاهد تحويل السياح من زوار عاديين إلى نزلاء مسجونين في زنازين الحبس وبالرغم من أن هذا خيال سينمائي لكنه في الواقع كثيرا ما يقع. كوسيلة للتنشيط السياحي والاستفادة من بعض المنشئات التاريخية تقوم العديد من دول العالم بتحويل السجون المشهورة فيها إلى فنادق فخمة تحقق معادلة رفاهية الإقامة للمسافرين مع مزيج من الترفيه والتثقيف للسائحين. وبالفعل قد تكون تجربة سياحية فردية أن تكون غرفة إقامتك في الفندق هي في الأصل زنزانة في سجن سيئ السمعة بأنه كان من أخطر السجون في تلك الدولة أو بالإمكان أن تقيم في سجن اعتقل فيه شخصيات تاريخية مشهورة.

تجربة النوم خلف القضبان في زنزانة السجن يمكن تجربتها في السجن القديم للمدينة الألمانية كايسرسلاوترن القريبة نسبيا من فرانكفورت والذي تم تحويلة إلى فندق يحمل اسم (فندق ألكاتراز) كنوع من التسويق والاستفادة من شهرة سجن الصخرة في سان فرانسيسكو. وبالرغم من أن هذا الفندق الألماني فخم إلا أن الحمامات فيه ما زالت مشتركة كما هو الوضع الأصلي عندما كان يستخدم كسجن ولم يتم وضع حمامات في داخل الزنازين حتى يشعر (النزيل) في هذا الفندق أنه بالفعل يقيم في سجن. وتجدر الإشارة إلى أن عدد السجون التي تم تحويلها إلى فنادق عددها كبير على مستوى العالم ولأغلبها ميزة خاصة به فمثلا فندق يونتاس في قلب العصمة التشيكية براغ كان في الأصل سجن سري استخدم وقت الحكم الشيوعي لاعتقال وقمع المعارضين السياسيين ولذا يمكن كسائح أن تطلب أن تقيم في الزنزانة التي اعتقل فيها الأديب والمناضل فاتسلاف هافيل أول رئيس للتشيك بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

والزائر لمنطقة السلطان أحمد في وسط إسطنبول يمكن أن يحقق سياحة السجون من خلال الإقامة في فندق الفورسيزونز الفخم وذو النجوم السبعة، علما بأن المبنى الأساسي لهذا الفندق كان أحد سجون عاصمة الدولة العثمانية وحتى الآن يمكن قراءة أسماء المساجين وذكرياتهم المكتوبة على جدران غرف أو زنازين هذا الفندق المميز. ومع ذكر سجن مدينة إسطنبول وبعد هذا التطواف في التاريخ والجغرافيا والسفر لمشاهدة سجون العالم لعل الملائم في خاتمة المقال أن نعرج على استكشاف أبرز المعالم السياحية في واقعنا العربي والإسلامي ذات الصلة بالسجون. صحيح أن أشهر السجون في التاريخ العربي والإسلامي ليس لها وجود اليوم مثل سجن نبي الله يوسف في مصر أو السجن الذي اعتقل فيه الأمام أحمد بن حنبل في بغداد ومع ذلك يبقى عدد لا بأس به من تلك السجون التاريخية هي اليوم معالم سياحية بامتياز. الزائر لقلعة صلاح الدين في القاهرة يمكن أن يعيش تجربة (سياحة السجون) بزيارة (سجن القلعة) والذي افتتح للمعذبين منذ عهد الخديوي إسماعيل في عام 1876 والغريب أن أشهر من أعتقل في هذا السجن هو الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات ولكن عندما زرت هذا السجن قبل عدة سنوات كان رجل الأمن الذي يحرس الموقع حريصا على أن يريني الزنزانة الانفرادية التي اعتقل فيها الشيخ عبدالحميد كشك. وبمناسبة ذكر المشائخ والسجون من الأخطاء الشائعة الاعتقاد أن سجن القلعة في القاهرة هو السجن الذي أعتقل فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا غير صحيح فتاريخ هذا السجن حديث نسبيا. والغالب أن الامام ابن تيمية اعتقل في السجن القديم الذي كان يسمى بسجن البرج ثم نقل إلى سجن (الجب) بقلعة الجبل وهو سجن يتم ذكره كثيرا في كتاب تاريخ المقريزي (السلوك لمعرفة دول الملوك) حيث سجن فيه العديد من الأمراء وقادة الجند وهو سجن يبدو أنه تحت الأرض وقد تم هدمه زمن السلطان ابن قلاوون.

وما دام أن سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية انفتحت فهذا يقودنا ولا شك للحديث عن سجن (قلعة دمشق) وهو الموقع الذي سجن وتوفي فيه شيخ الإسلام وهو نفس المعتقل الذي سجن فيه الشايخ ناصر الدين الألباني في أوائل شبابه. وبالرغم من أن قلعة دمشق حاليا هي مزار سياحي بارز إلا أن سجن القلعة قد تم هدمه عام 1985م أثناء عملية الترميم الواسعة لقلعة صلاح الدين الدمشقية. وتكرار اسم قلعة (صلاح الدين) في القاهرة ودمشق يؤكد الظاهر القديمة طوال التاريخ البشري أنه كثيرا ما تكون القلاع المحصنة هي قصر الحكم ومعسكر الجند ومستودع السلاح بالإضافة لكونها أحيانا أحد سجون الدولة. وعلى نفس النسق ليس من المستغرب أن نعلم أن قصر (المصمك) التاريخي في الرياض هو في الأصل حصن عسكري وكان كذلك لفترة من الزمن يستخدم كمقر للحكم ومستود للسلاح والذخيرة وأيضا استخدم لفترة طويلة كسجن قبل أن يتحول أخيرا إلى مزار سياحي وتراثي بارز.

ومع تزايد الاهتمام بالمواقع التراثية والأثرية وإمكانية تحويلها لمزارات سياحية تم ترميم قلعة وادرين في منطقة تبوك والتي اشتهرت قديما بسجنها المخيف وفي نفس السياق لاستعراض المواقع المحلية المرتبطة بسياحة السجون القديمة يمكن أن نذكر سجن قصر القشلة التاريخي في مدينة حائل وسجن قلعة دارين في القطيف وسجن قصر العبيد في الهفوف وسجن جزيرة فرسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق