السبت 1445/7/8
بمحض الصدفة البحتة بدأت يوم الخميس الماضي في قراءة رواية (حياة وزمن مايكل كي) للأديب الجنوب أفريقي جون كويتزي والتي أصدرها عام 1983م وحققت له الشهرة العالمية بالحصول على جائزة البوكر ولاحقا على جائزة نوبل في الأدب لعام 2003 ميلادي. وكما هو معلوم للقاصي والداني يوم الخميس الماضي شهد الحدث الأبرز الذي خلد اسم دولة جنوب أفريقيا في سجل الشرف عندما تم البدء في إجراءات محاكمة الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية استنادا إلى لائحة الدعوى التي اتهمت فيها جنوب أفريقيا العدو الإسرائيلي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
في الحقيقة سبق أن قرأت بعض الروايات المبدعة جدا لأديب المذهل جون كويتزي ولكن ما فاجأني تماما أن تلك الرواية الجديدة التي أقرؤها هذه الأيام تدور أحداثها في عز سنوات الحرب الأهلية في دولة جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري (الأبارتايد) والتي مزقت المجتمع في تلك الدولة النائية وحطمت الاقتصاد لدرجة المجاعة ومرغت في التراب سمعة نظام الحكم الأبيض العنصري. في مطلع تلك الرواية (حياة وزمن مايكل كي) يصف كويتزي بأسلوبه الأدبي المؤثر حالة الخوف والفوضى والشقاء التي يعيشها كامل الشعب الجنوب أفريقي جراء تبعات سياسية التمييز العنصري من قبل أبيض ضد السود. ولهذا في حين كان الغالبية العظمى منا يوم الخميس الماضي في حالة إعجاب وامتنان بالغ للموقف النبيل من حكومة وشعب جنوب أفريقيا ضد مأساة إخوتنا في فلسطين، كنت بالإضافة لذلك أعجب وأتأمل كيف تحول حال ومائل ذلك الشعب من قاع التخلف والانشقاق قبل أربعين سنة (زمن الرواية وزمن الأبارتايد) إلى قمة الرقي والوعي السياسي زمن مانديلا وزمن جرجرت إسرائيل إلى محكمة التاريخ ومحكمة شعوب العالم.
وكما تغير الوضع في المجتمع الجنوب أفريقي وتغير الحال من (القاع إلى القمة) فكذلك تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين حكومة الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي وحكومة التمييز العنصري الجنوب أفريقي انقلبت موازينها وتحولت من (القمة إلى القاع) هذه المرة. وذلك أنه في غابر الزمن كانت إسرائيل وجنوب أفريقيا توصفان بأنهما (إخوة في السلاح) وكانت العلاقة بينهما وثيقة جدا لدرجة أنه في حوالي عام 1975م عرضت إسرائيل أن تبيع لجنوب أفريقيا صواريخ نووية. بعد حرب عام 1973م بين العرب والصهاينة قامت حوالي عشرين دولة أفريقية بقطع علاقتها مع العدو الإسرائيلي بينما في المقابل نجد أن حكومة الأقلية البيضاء في دولة جنوب أفريقيا تقوم بتزويد إسرائيل بطائرات الميراج والدبابات والصواريخ. وبالرغم من أن إسرائيل كانت تحتوي على مصنع لطائرات الميراج الفرنسية وكذلك بالرغم من إن فرنسا أم الشرور هي من قامت ببناء مفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي في صحراء النقب، بالرغم من كل هذا الدعم العسكري الفرنسي للكيان الصهيوني في تلك الفترة إلا أنه في عام 1975م كانت دولة جنوب أفريقيا وبصادرات عسكرية سنوية تبلغ حوالي 600 مليون دولار (وهو مبلغا ضخما بمقاييس تلك الفترة)، هي ثالث شريك تجاري مع إسرائيل بعد أمريكا وبريطانيا وقبل فرنسا.
ما أود الوصول له أن رجال السياسة وجنرالات العسكر والمحللين الاقتصاديين في عام 1975م رصدوا بشكل واضح العلاقة الوثيقة والمتشعبة بين إسرائيل وجنوب أفريقيا ذات الحكومة البيضاء ولهذا ليس من المستغرب لشخص في قامة المفكر الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيري الذي وظّف مجهوده الفكري والبحثي طول حياته لفضح ودراسة الصهيونية، ليس مستغربا أن يكون أحد أوائل الكتب التي ألفها في شبابه كتابا وثائقيا نشر في عام 1976م باللغة الإنجليزية وحمل عنوان (إسرائيل وجنوب أفريقيا .. تطور العلاقة بينهما).
وفي نفس تلك السنة أي عام 1976م وبعد أن تولى شمعون بيريز منصب وزير الدفاع في حكومة الاحتلال الصهيوني قام بزيارة إلى مدينة بريتوريا العاصمة الإدارية لدولة جنوب أفريقيا وهناك أبلغ شمعون بيريز مضيفيه البيض العنصريين بأن التعاون العسكري معهم خصوصا بعد حرب 1973م لا يقوم على المصلحة المشترك فحسب، بل يقوم أيضا على (كراهيتنا للظلم ورفضنا الرضوخ له). ولك أن تعجب أيه القارئ العزيز ما هو الظلم الذي وقع على الصهاينة المحتلين لأرض فلسطين فضلا عن الظلم الذي وقع على النظام العنصري البغيض المهيمن على الشعب الإفريقي المضطهد. بعد سقوط نظام الفصل العنصري تم تشكيل لجنة مميزة وفريدة في التاريخ السياسي المعاصر اسمها (لجنة الحقيقة والمصالحة) وتوصلت تحقيقاتها بأنه خلال فترة حكم نظام الأبارتايد العنصري تم قتل حوالي 21 ألفا من الأفارقة السود هذا فضلا عن عشرات الآلاف من المصابين وأمثالهم من المسجونين والمعتقلين. هذا القتل والإعدام والقمع (أو بمختصر العبارة: الظلم) الذي طال الأفارقة السود وقع عليهم من وحدات حكومية تسمى (فرق الموت death squads) والتي كانت توصف كذلك بـ (القوة الثالثة) لأنها ثالث جهة مسلحة بعد الجيش والشرطة وهي من تسبب في إشاعة أجواء الخوف والرعب في المجتمع الجنوب أفريقي.
الظلم مؤذن بخراب العمران
سبق أن ذكرت أنني هذا الأسبوع وقع وأن صدمت أثناء قراءتي لرواية (حياة وزمن مايكل كي) لجون كويتزي بأجواء الرعب والتمزق والاحتراب التي عاشها المجتمع الجنوب أفريقي أثناء حكم نظام الأبارتايد في الستينيات والسبعينيات كما تصفه تلك الرواية البديعة. بقي أن أقول إن تلك الرواية تدور أحداثها حول مدينة كيب تاون والتي هي في واقعها أفضل بكثير من حالة الفوضى العارمة في مدينة جوهانسبرج والتي كانت في يوم ما توصف بأنها من أخطر المدن في العالم وربما ذلك بسبب وجود حي وضاحية الفقر والجريمة والقمع (حي سويتو). تلك المنطقة السكنية تقع في جنوب مدينة جوهانسبرج وهي مكتظة بأكثر من مليون شخص من الأفارقة السود الذين كانوا يعاملون معاملة العبيد من قبل شركات مناجم الماس ولهذا الأوضاع الإنسانية والمخاوف الأمينة والانقسام المجتمعي في مدينة جوهانسبرج كانت أسوء بكثير من مدينة كيب تاون ولهذا لا عجب أن متحف (الفصل العنصري ونظام الأبارتايد) موجود في مدينة جوهانسبيرغ بالذات.
ونتيجة لحالة الظلم الشنيعة في ذلك المجتمع حصل الأمر المحتوم وهو (اندلاع الثورة) ومن غير المستغرب أن نعلم أن شرارة وزخم الثورة بدأ في حي سويتو السالف الذكر وكان ذلك في عام 1976م عندما توسعت (ثورة سويتو) لتشمل جميع أنحاء جنوب أفريقيا وذلك لمحاولة إسقاط حكم الأقلية البيضاء الغاشم. وهنا هرع وزير الدفاع الإسرائيلي شمعون بيريز إلى دولة جنوب أفريقيا لمدها بالسلاح ويعرض عليها شراء القنبلة النووية لكي تقاوم (الظلم) المزعوم الواقع على البيض من قبل السود. ومع ذلك كانت لعنة (الظلم) الذي أوقعه البيض على السود شنيعا مما تسبب في تسميم المجتمع ونشر العداء وفقدان الأمن وهذا بدوره قاد إلى تجريف الاقتصاد. تشير البيانات الاقتصادية إلى أن النتاج المحلي الإجمالي للفرد (وهو مؤشر لمدى قوة اقتصاد الدول) في دولة جنوب أفريقيا بدأ بالتدهور الحاد والسريع منذ عام 1974م ليصل إلى حوالي نصف قيمته عام 1993م أي قبل سنة واحدة فقط من سقوط حكومة بريتوريا العنصرية. ولهذا بالفعل (الظلم مؤذن بخراب العمران) كما استنبط ذلك العبقري الحكيم ابن خلدون بعد استقرائه لتاريخ الأمم والدول.
في الفصل الثالث والأربعون من كتاب مقدمة ابن خلدون يُسطر ذلك الحكيم مقولته المشهورة (أعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب).
وبصورة ما يمكن أن نسقط مقولة ابن خلدون على الواقع في المجتمع الجنوب إفريقي فنتيجة للظلم والقهر من قبل البيض نحو السود قاد ذلك (لخراب العمران) وانهيار الاقتصاد في دولة النظام العنصري. وأصبح الرجل الأسود الذي يقمع تحت عدوان انتهاب ماله ومصادرة حريته يحاول أن يثور على ذلك ويقاومه من خلال (انقباض الرعايا في السعي في الاكتساب) ولهذا كثرت المقاطعة من قبل السود ضد تجارة البيض وكذلك انتشرت الإضرابات النقابية واحتلال المصانع بل والتخريب المتعمد للممتلكات والمرافق العامة. وبالإذن من القارئ الكريم سوف أعود لرواية (حياة وزمان مايكل كي) والتي منذ الصفحات الأولى تعطي تصوير أدبي يحبس الأنفاس لحالة الفوضى والتخريب والسرقة التي حصلت في منطقة راقية من مدينة كيب تاون يسكنها البيض فقط.
في زمن القهر والظلم والعدوان كما حصل قديما تحت حكم الأنظمة الشمولية في الدول الشيوعية سرعان ما يفقد أفراد الشعب رغبتهم في العمل وتنقبض الرعية عن السعي في الاكتساب ولهذا قبل سقوط الشيوعية كانت كل دول الكتلة الشرقية تقع تحت وضع اقتصادي مفلس. وكما ربط ابن خلدون بين الظلم وخراب العمران نجد أن رائد النهضة العربية المفكر الثائر عبدالرحن الكواكبي في كتابه البارز (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ينبه هو الآخر على الأثر السلبي للظلم والاستبداد على الرخاء الاقتصادي لدرجة أن الاستبداد لو انتسب لقال: (وطني الخراب). وتعليل الكواكبي لضعف الدافعية في تعمير البلدان هو قريب من تعليل ابن خلدون لكن بدلا من عبارة (انقباض الرعايا في السعي في الاكتساب) يقول الكواكبي: وحيث أن المال لا يجمع إلا بالمشقة فلا تختار النفوس أن تتعب وهي تعلم أنها عرضة للسلب في أي لحظة.
وفي الختام، ما أود الوصول له هو أن قصة دولة جنوب أفريقيا وتحولها من ظلم نظام الفصل العنصري إلى العدالة النسبية تحت الحكم الديمقراطي الحالي جعل الأمة والشعب في جنوب أفريقيا تتقدم في وعيها لدرجة أن تناصر القضية الفلسطينية. كما تسبب ذلك التحول في حصول ظاهرة المعجزة الاقتصادية لدولة جنوب أفريقيا لدرجة أنها حاليا تزاحم دولة نيجيريا البترولية على صدارة أقوى اقتصاد في القارة السمراء كما أن دولة جنوب أفريقيا هي حاليا ضمن مجموعة الدول الثلاثين الأقوى اقتصادا في العالم. ويضاف إلى ذلك أن أي زائر لمدن كيب تاون أو جوهانسبرغ أو ديربان في جنوب أفريقيا سوف يذهل من التقدم العمران وكثرة المباني الشاهقة بتلك المدن وبالأخص منشأتها وملاعبها الرياضية الأيقونية التصميم المعماري. بالمناسبة يجب الإشادة بنجاح دولة جنوب أفريقيا في استضافة بطولة كأس العالم 2010 بينما في زمن حكومة بريتوريا العنصرية البيضاء تم طرد جنوب أفريقيا من بطولة الألعاب الأولمبية منذ دورة طوكيو 1964م وحتى دورة سيئول 1988م وكذلك الإشادة بالريادة السياسية لجنوب أفريقيا وثقلها البارز في الاتحاد الأفريقي وهي حاليا من تترأس مجموعة البريكس بينما سابق في زمن حكم نظام الأبارتايد حصلت مقاطعة دولية شاملة لجنوب أفريقيا وصلت لدرجة أن يتم تعليق عضوية جنوب أفريقيا في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة.
عنوان المقال الحالي (جنوب أفريقيا .. مثال يحتذى به) ويقصد بذلك أن تلك الدولة الفريدة هي مثال يحتذى بها حاليا في الوعي السياسي في نصرة المظلوم وتبني القضية الفلسطينية، ومثال يحتذى به في إحلال السلم الداخلي وتجانس المجتمع بعد تطبيق سياسية (المكاشفة والمصالحة)، ومثال يحتذى به في الإصلاح الاقتصادي والتحول من الانهيار إلى الازدهار. كما أن جنوب أفريقيا مثالا يحتذى به في فهم تغيرات السياسة الدولية وكيف تتحول الحكومات (وليس الشعوب) من أعداء إلى أصدقاء أو العكس، كما أنها مثالا يحتذى به في أن العديد من شرائح المجتمع المهمشة إذا أعطيت الفرصة الكاملة يمكن أن تنجح بشكل مذهل. وأخيرا ذلك البلد البعيد النائي في أقصى جنوب المعمورة أصبح مثال يحتذى به لجميع شعوب الأرض في أن النضال يمكن أن يثمر ويحقق التغيير ولو بعد مشوار طويل طويل وخير مثال على ذلك تلك الأيقونة الرمز: نيلسون منديلا وسجن جزيرة روبن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق