د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1445/8/7 الموافق 17 فبراير 2024
تاريخ اليوم هو السبت السابع عشر من فبراير ولا أعلم هل من قبيل الصدفة البحتة أو هو أمر مقصود وذو دلالة أن يتوافق ويتلاحق اليوم العالمي للسياحة المستدامة (يوم 17 فبراير) مع اليوم العالمي للحيتان (18 فبراير). وأبدأ بالقول إن قضايا السياحة والسفر متشعبة ومتنوعة وهي كأي نشاط بشري تتفاوت بيت النقيضين: الإفراط والتفريط والبناء والهدم، ولهذا التوعية بالآثار السلبية والإيجابية لصناعة السياحة أمر على درجة عالية من الأهمية.
من الأمور الشنيعة المرتبطة بالسياحة هو التخريب المحزن للبيئة الطبيعية أو المعالم التاريخية والتراثية وهذا ناتج بالدرجة الأولى من مشكلة ما يسمى (السياحة المفرطة Overtourism) وهو مثلا ما شاهدته قرية الحمدة في مدينة الباحة العام الماضي بعد تدفق الزوار بحشود (مفرطة) لمشاهدة جداول مائية صغيرة. ولهذا في مقابل السياحة المفرطة يظهر مفهوم راقي للسفر يعرف باسم (السياحة البيئية Ecotourism) وهي الأنشطة السياحية التي تكون صديقة للبيئة ومحافظة على الحياة الفطرية. ومن أطرف ما يمكن ذكره هنا هي رحلات الصيد في زيمبابوي أو جنوب أفريقيا التي يمكن أن تمنح خيارا آخر غير قتل الحيوانات، وهذا ما يميز رياضة (الصيد الأخضر Green hunting) حيث يعطى السياح بنادق صيد تحتوي على إبرة مخدرة لاقتناص الفيلة أو وحيد القرن وبعد ذلك بكل بساطة (وملائمة بيئية) يقوم السائح بالتصوير بالقرب من الحيوان النائم بدلا من الحيوان المصروع. ومن هذا المنظور لعلي أنقل للقارئ الكريم سبب غبطتي بترابط اليوم العالمي للسياحة المستدامة مع اليوم العالمي للحيتان لأن النشاط الاقتصادي يمكن أن يستنزف الموارد الطبيعية والحياة الفطرية ولهذا مفهوم الاستدامة البيئية هو النهج المتوازن الحكيم لأنظمة التنمية المسؤولة.
في أثناء القرن التاسع عشر وقبل اكتشاف الكميات الضخمة من خام النفط واستخراجها من باطن الأرض كانت المجتمعات الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية تستهلك كميات ضخمة من الزيوت مصدرها الأساسي شحوم الحيتان. ولهذا خلال القرن التاسع عشر فقط تشير التوقعات أنه تم صيد وقتل ما يقارب من 2 مليون حوت وهذا ما تسبب في كارثة بيئة واقتصادية مزدوجة حيث كادت تنقرض تلك الكائنات البحرية الهائلة. وبمناسبة الحديث عن الصيد الجائر للحيتان تجدر الإشارة إلى أن رواية (موبي ديك) للكتاب الأمريكي هيرمان ميلفيل والتي من شبه المؤكد أن أغلبنا قد مر عليه من خلال أفلام الكرتون خبر قصة الحوت الأبيض الضخم الذي يطارده قبطان سفينة صيد غريب الأطوار يدعى الكابتن أهاب ذو القدم الواحدة، في الواقع هذه القصة المشهورة للأطفال والكبار هي مبنية على قصة حقيقة. في صيف عام 1852م سافر الشاب هيرمان ميلفيل إلى جزيرة صغيرة تقع أمام شواطئ ولاية ماساتشوستس وهنالك سمع من السكان المحليين قصة سفينة صيد حيتان هاجمها حوت أبيض ضخم. ونظرا لأنه كان من أساليب صيادي الحيتان قديما محاولة القيام أولا بصيد صغار وعجول الحيتان وهذا من شأنه دفع بقية قطيع الحيتان للتجمع لمحاولة إنقاذ الصغار وبالتالي تكون حصيلة الصيد أوفر. ويبدو أن حوتا ضخما أبيض حاول أن يبعد سفن الصيد عن قطيعه ولهذا تسبب في تدمير سفينة صيد كان يملكها القبطان جورج بولارد والذي أشرف على الموت هو وطاقم سفينته. والمقصود أن الصيد الجائر للحيتان ورد الفعل لهذا الكائنات البحرية يمكن أن تلهم أرقى الأعمال الأدبية كما يمكن أن تقود لتصحيح هذا السلوك الاستهلاكي الجشع والمفسد للحياة الفطرية والطبيعة البكر. وهذا ما يقودنا مرة أخرى للإعجاب بالتوافق والتلاحق بين اليوم العالمي للحيتان واليوم العالمي للسياحة المستدامة المبنية على الاقتصاد المتوازن.
وفي منتصف القرن التاسع عشر وبينما الروائي هيرمان ميلفيل السالف الذكر يضع مخططات رواية (موبي ديك) وجريمة الصيد الجائر لملايين الحيتان في عرض المحيطات كانت على السهول الأمريكية تبدأ واحدة من أشنع وأحقر الحروب التي ارتكبها الرجل الأبيض ضد الحياة الفطرية. ونتحدث هنا حرب الجواميس (The Buffalo war) والتي من جرائها تمت إبادة الملايين من حيوان جاموس البيسون الضخم والمهيب الذي كان يمرح في السهول الخضراء عبر القارة الأمريكية من كندا إلى المكسيك. لم يكتف الرجل الأبيض الأوروبي في التسبب بشكل أو آخر في إبادة الملايين من السكان الأصليين (الهنود الحمر) لأمريكا الشمالية، ولكن أراد كذلك سرقة أراضيهم بالقوة ولهذا كمحاولة لتهجيرهم وسحق مقاومتهم صدرت الأوامر من قبل قادة الولايات المتحدة لأفراد الجيش ولعامة الناس وحتى للمسافرين والسياح بارتكاب مجزرة في حقل ثور الجاموس.
لقد كان للهنود الحمر اعتماد مكثف على جاموس البيسون في غذائهم وملابسهم ولهذا ارتكبت جريمة تكثيف الصيد الجائر للجاموس بهدف تجويع وتخويف الهنود الحمر ووصل الأمر أنه كانت تنظم رحلات صيد سياحية إلى السهول التي تحتوي قطعان الجاموس في ولاية نبراسكا. وقد كانت تتم المراهنات بين القناصين من يستطيع قتل أكبر عدد من الجاموس في اليوم الواحد، حيث قد يصل الرقم لأكثر من 50 جاموسا في اليوم للصياد الواحد بل وصل الأمر أن أحد الجنود الذي اشتهر بلقب بيل الجاموس (Buffalo Bill) كان يفتخر بأنه لوحده قتل 4280 جاموسا. ولأن سهول قطعان الجاموس في وسط الولايات المتحدة كانت تمر من خلالها سكك القطارات ولهذا كان يتم تشجيع وحث المسافرين على أن يستخدموا بنادقهم لقنص وقتل الجواميس بكثافة أثناء مرور عربات القطارات بالقرب من قطعان الجاموس !!. وبعد هذه المجزرة الأثيمة ضد الجاموس والهنود الحمر والتي استمرت لسنوات طويلة قد لا نستغرب أن نعلم أن أعداد حيوان البيسون انخفضت في أمريكا الشمالية من حوالي 60 مليون جاموس إلى عدد ضئيل جدا يقارب 500 جاموس فقط.
الذئب والنمر العربي والسياحة البيئية
وبعد أن كانت قارة أمريكا الشمالية تعج سهولها بملايين الجواميس البرية ومئات الآلاف من رجال قبائل الهنود الحمر تناقصت أعداد الجميع بشكل مريع وحشروا الناجين من الحيوان والإنسان إما في المحميات الهندية أو المحميات الطبيعية. وما يهمنا الحديث عن هنا هو (محمية يالوستون الوطنية) والتي هي محمية طبيعية ضخمة هي حاليا الموطن شبه الوحيد لحيوان البيسون البري والذي تبلغ أعداده بها حوالي 6 آلاف جاموس. وبالرغم من أن تلك المحمية الطبيعية الضخمة لها سهول خصبة في ثلاث ولايات أمريكية إلا أن صلافة الرجل الأبيض الأمريكي في القديم والحديث جعلته يفتك بذلك الحيوان المذهل ولهذا حصل في عام 1995م تجديد المجازر ضد ثور البيسون حيث تم تصفية وقتل أكثر من ألف جاموس. السبب في ذلك أن القائمين على محمية يالوستون الأمريكية يزعمون أن الأعداد الزائدة من الجاموس تشكل خطرا على الزائرين والسياح وكذلك تزاحم قطعان الأبقار والماشية على المراعي البرية ولذا كان لا بد من تقليص أعدادها.
بمناسبة الحديث عن محمية اليالوستون الطبيعية والقيام المتعمد من قبل أحفاد الكاوبوي بتصفية وإعدام بعض الحيوانات شبه الخطرة على السياح والسكان تجدر الإشارة إلى أن العديد من الحيوانات البرية المفترسة تعرضت للقتل مثل الكوجر (أسد الجبال) والدب البني ولكن أكثر هذه الحيوانات مأساة كان الذئب الأغبر. مرة أخرى نجد أنه في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كان مفهوم المحافظ على الحياة الفطرية غائبا تماما عن بلاد العم سام ولهذا كانوا في (الغرب الأمريكي المتوحش Wild West) يقتلون كل من لا يروق لهم فتم تصفية الملايين من الجاموس وكذلك أعدم مئات الآلاف من الذئاب البرية.
والغريب أنه بعد ما تم تصفية أغلب قطعان الذئاب الغبراء من محمية يالوستون الوطنية أكتشف العلماء والقائمون على المحمية أنه كان لذلك كوارث طبيعية ملموسة على (التوازن) البيئي في المحمية حيث استهلكت جموع الغزلان والحيوانات العاشبة كميات هائلة من الشجيرات والنباتات وهذا أدى في نهاية المطاف لاختفاء الغطاء النباتي ومن ثم الكارثة الكبرى: انجراف التربية وتلوث مياه الجداول والبحيرات بالطمي الزائد. ولهذا كان الحل المنطقي هو إعادة إدخال قطعان الذئاب الغبراء إلى المنظومة البيئية في المحميات الطبيعية (إعادة توطين الكائنات الحية species reintroduction).
وهذا ما حصل في عام 1995م في محمية يالوستون الطبيعية من إعادة إطلاق قطيع من الذئاب في المحمية وهو توقيت غريب لأنه يتوافق مع كارثة وفضيحة قتل حوالي ألف جاموس. والغريب في الأمر أنه في نهاية القرن التاسع عشر كان من أسباب قتل ذئاب المحمية كوسيلة لتأمين الزوار والسياح ومع ذلك عندما تم إعادة الذئاب إلى المحمية رصد عالم الاقتصاد الأمريكي جوم دوفيلد من جامعة مونتانا أن أعداد السياح الذين ترددوا على المحمية ارتفع بنسبة مئوية سنوية مقدارها 5% أغلبهم يرغب في مشاهدة هذه الذئاب البرية وهذا انعكس بزيادة في الدخل الاقتصادي للمحمية الطبيعة بمبلغ خمسة ملايين دولار سنويا. وهذا يقودنا ولا شك في الختام للربط مرة أخرى بين مفهوم (السياحة المستدامة) وظاهرة (السياحة البيئية) وأنه يمكن توظيف البعد الاقتصادي في الأنشطة السياحية لتحقيق وتفعيل الهدف الراقي والمتمثل في المحافظة على الحياة الفطرية وتقليل الإضرار بالبيئة.
النجاح الباهر بيئيا واقتصاديا وسياحيا في إعادة توطين قطعان الذئاب الغبراء في موطنها الأصلي في شمال غرب الولايات المتحدة خلق جو من الحماس للعديد من الهيئات الفطرية الأمريكية لمحاولة استنساخ تلك التجربة وإعادة توطين حيوان الأسد الجبلي (الكوجر) على قمم مرتفعات موطنة الأصلي في الشمال الشرقي لأمريكا. وعلى نفس النسق في واقعنا المحلي وبعد نجاح إعادة توطين الغزلان البرية والوعول الجبلية وطيور النعام تم الإعلان مؤخرا عن برنامج طموح تقوم به الهيئة الملكية لمحافظة العلا لإعادة إدخال حيوان (النمر العربي) إلى البيئة الطبيعة في غرب المملكة وبالتحديد في محمية (شرعان) الطبيعية. وكوسيلة لزيادة الوعي بحيوان النمر العربي المهدد بالانقراض تم في محمية شرعان الطبيعية وغيرها من المواقع داخل بل وحتى خارج المملكة (حتى في الصين) تنظيم فعالية (المشي مع القطط Catwalk) وهي نشاط بيئي شائع منذ سنوات في العديد من دول العالم للتعريف بسبعة من الحيوانات المفترسة المعرضة للانقراض.
في الواقع يوم السبت الماضي الموافق للعاشر من شهر فبراير كان يوما مشهودا في تاريخ حماية الحياة الفطرية في المملكة حيث كان ذلك اليوم هو أول يوم من مناسبة (اليوم العالمي للنمر العربي) والمعتمد بشكل رسمي من الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وبحكم أن الفعالية البيئية للتعريف ونشر الوعي بالنمر العربي وغيرة من القطط السمان السبعة (7 Big Cats) وهي فعالية (المشي مع القطط Catwalk2024) التي تتضمن المشي لمسافة سبعة كيلومتر (أو على الأقل 700 متر) في داخل محمية شرعان الطبيعية السالفة الذكر والتي سوف يطلق فيها لاحقا بشكل فعلي النمر العربي. ومع ذلك فإنه من الناحية التاريخية والعلمية من أهم المناطق التي كان يوجد بها النمر العربي هي جبال السراة في منطقة الباحة بدليل رصد الشاعر الجاهلي الشنفرى للنمر العربي ومعايشته له.
في مطلع صيف عام 1442هـ قامت الهيئة السعودية للحياة الفطرية بإطلاق مجموعة من الوعول والغزلان في إحدى المنتزهات الطبيعية في منطقة الباحة ثم حصلت الفضيحة بمطاردة وقتل بعضها خلال ساعات. هذا العمل الهمجي قادني لكتابة مقال أقارن فيه التصرف الأحمق للرعاع من الشباب مع موقف صعاليك الجاهلية مثل الشنفرى وتأبط شرا (الملقب أنيس الوحوش) وما تذكره أشعارهم من حياة السلم التي كانوا يعيشون فيها مع الوعول. وفي ذلك المقال الذي حمل عنوان (الصعاليك والوعول الجبلية) أشرت إلى أن الشنفرى كان كثيرا ما يعيش منفردا على قمة جبل في منطقة زهران (في ديار سلامان بمحافظة المندق) يسمى جبل المرقبة وهو المكان الذي كانت تغشاه فيه الوعول وتقترب منه. والمهم هنا أن المطلع الرائع لقصيدة (لامية العرب) للشنفرى يذكر فيه أنه سوف يهجر البشر و(يعتزلهم) ليعيش مع الوحوش من الحيوانات وخص بالذكر الذئب السريع (سيدٌ عملس) والضبعة الضخمة (عرفاء جيأل) وأيضا (أرقط زهلول):
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القِلى متعزّلُ
ولي دونكم أهلون سيدُ عملّسٌ وأرقطُ زُهلولٌ وعرفاءُ جيألُ
والحيوان الموصوف من قبل الشنفرى بأنه (أرقط زهلول) ليس إلا النمر المرقط الأملس الجلد أي هو النمر العربي الذي كان يجول قديما فوق جبال منطقة الباحة. وفي مقال آخر حمل عنوان (شعر الوقوف على الأطلال .. دليل سياحي لمنطقة الباحة) تتبعت فيه أسماء الأماكن وبالخصوص جبال أرض زهران من منطقة الباحة التي وردت في شعر الشنفرى مثل جبل عصنصر وجبل سبط وجبل قو وجبل بيضان وجبل المرقبة وجبل السرد وجبل أرفاغ. وهذه سبعة جبال تلائم القطط السمان السبعة (7 Big Cats) وبحكم أن النمر العربي شاهده ورصده الشنفرى ربما على تلك الجبال ولهذا أقترح على الجهات المختصة لتطوير منطقة الباحة وتنشيط حركة (السياحة المستدامة) بها أن تتعاون مع فريق (مشاة الباحة) لتنظيم فعالية (Catwalk) في شهر فبراير الحالي بمناسبة اليوم العالمي للنمر العربي. والفكرة بسيطة أنه بدل من أن تكون فعالية (المشي مع القطط Catwalk) مجرد المشي لمسافة سبع كيلومترات، عضوا عن ذلك يقترح أن تكون رياضة صعود الجبال (الهايكنج) ومحاولة تتبع آثار أقدام النمر العربي والسير على خطى الشاعر الشنفرى فوق تلك الجبال السبعة من أرض زهران.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق