الجمعة، 15 مارس 2024

( السياحة مع أسماك القرش !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1445/8/21

مدينة كيب تاون في دولة جنوب إفريقيا لها ميزة خاصة من النواحي الطبيعية والتاريخية والجغرافية والعمرانية، ونتج عن ذلك أنها أصبحت واحدة من أشهر وأبرز المزارات السياحية في القارة السمراء لأنها أكثر مدينة من ناحية التطور العمراني كما أنها تتيح الفرصة كنقطة انطلاق لرحلات سفاري الحيوانات أو زيارة سجن نيلسون مانديلا ومتحف نضال السود. ومع ذلك شرائح من السياح من مختلف أنحاء العالم ربما أكثر ما يجذبهم للقدوم إلى مدينة كيب تاون أنها توفر لهم جرعة عالية من الأدرنالين من خلال (السياحة والسباحة) مع أسماك القرش. على مستوى العالم تشتهر مدينة كيب تاون أنه تحتوي على العشرات من الشركات السياحية التي توفر رحلة بحرية لمدة ثلاث ساعات تشمل فرصة المقابلة المباشرة وجها لوجه مع أسماك القرش البيضاء بالغة الضخمة والمرعبة ولذا تستحق بجدارة لقب (الفك المفترس).

أثناء الاستعداد والتجهيز للسفر بأسرتي إلى دولة جنوب إفريقيا فكرت في البحث عن مدى إمكانية أن أحجز رحلة بحرية من مدينة قانسباي (خليج الأوز Gansbaai) وهي مدينة الصيادين الساحلية التي تنطلق منها السفن السياحية للغوص المثير مع أسماك القرش أو الاسترخاء على ظهر القارب لرصد حيتان المحيط الضخمة. وبحكم أن رحلتنا تتوافق مع الإجازة الدراسية التي تتزامن مع نهاية شهر فبراير فقد تبين لي أنني قد أغامر بدفع مبلغ مالي مرتفع مع احتمالية إلغاء الرحلة بسبب تقلب أجواء المحيط الهندي فالطقس هنالك متذبذب لدرجة حتى الرحلات التقليدية مثل مجرد الصعود لقمة جبل الطاولة قد يحصل أحيانا أن تغلى رحلة الصعود بالتلفريك في الأجواء الماطرة والعاصفة. ولهذا تعزز لدي أكثر أن يكون الهدف الأساسي من رحلة جنوب أفريقيا هو الاكتفاء بالإثارة مع (عيش سفاري) وبدلا من المغامرة بمشاهدة الفك المفترس لسمك القرش من داخل القفص المعدني في وسط المحيط، فلا بأس من تخفيض سقف الطموحات والاكتفاء بمغامرة مشاهدة الفك المفترس للقطط الكبار من الأسود والنمور، ولكن من داخل سيارة الجيب التي تتنقل بنا داخل محمية العقاب Aquila لحيوانات السفاري التي تبعد حوالي 180 كيلومترا عن مدينة كيب تاون.

منذ أن أحتل الإنجليز جنوب أفريقيا في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر سرعان من تعرفت الطبقة المخملية من المجتمع البريطاني على الهواية الجديدة المثيرة للحماس والأدرنالين: السفر السياحي بهدف رياضة صيد الحيوانات الأفريقية الخطرة. ولهذا خلال فترة العصر الفيكتوري ظهرت تسمية رياضة صيد الحيوانات الخمسة الكبار (Big Five games). ونظرا لأن صيد حيوانات الأدغال على درجة عالية من الخطورة في ذلك الزمن الذي تتم فيه عملية الصيد بالمشي سيرا على الأقدام وباستخدام بنادق الطلقة الواحدة البطيئة إعادة الشحن لهذا كانت رحلة الصيد للرجال فقط وهم يحاولون اقتناص الحيوانات الخمس الكبار: الأسود والنمور والفيلة ووحيد القرن والجاموس.

طبعا بالدرجة الأولى كان الهدف من رحلات الصيد قديما مجرد الترفيه ومن ثم تخليد تلك المغامرة المذهلة عن طريق الحصول على ما يسمى (تذكار الصيد Trophy hunting) والذي يتمثل غالبا في الاحتفاظ برأس أو جلد أو قرون الحيوان المُصاد. ومع التوسع الهائل في العقود الأخيرة لسياحة (السفاري) وبمنطق ضرورة المحافظة على الحياة الفطرية أصبحت (تذكارات رحلة السفاري) هي مجرد صور فوتوغرافية تذكارية (trophy photos) يلتقطها السائح كما حصل معنا ونحن في سيارة آمنة والحيوانات البرية تحوم في مسافة غير بعيدة عنا. ومع ذلك توجد فئة من الشباب المغامر أصبحت تحاول إعادة إحياء الزمن الجميل لصيد الحيوانات الخمس الكبار سيرا على الأقدام، ولكن بدلا من استخدام البندقية لكي يطلقوا shooting رصاص الرماية على الحيوانات هم يقومون باستخدام الكاميرات لتصوير shooting الحيوانات (كلمة shoot باللغة الإنجليزية تعني إطلاق النار كما تعني التقاط الصور). والجيل الجديد من المغامرين والمصورين لا يشعر بالإثارة والتميز إلا إذا قام بعملية التصوير لتلك الحيوانات الخمسة وغيرها من الحيوانات المميزة مثل الزرافة والغوريلا بشرط أن تكون عملية التصوير تتم بدون استخدام السيارة وبالتسلل الحذر على الأقدام إلى أقرب نقطة آمنة لتصوير الحيوانات البرية ويفضل أن تكون اللقطة والحيوان ينظر إلى الكاميرا مباشرة (التواصل والنظر المباشر eye to eye contact).

سياحة الإثارة مع الحيوانات البرية

وفي حين الآلاف من السياح يسافرون سنويا إلى جنوب أفريقيا وجنوب أستراليا وجنوب فلوريدا للسياحة والسباحة مع أسماك القرش من داخل الأقفاص الحديدة، بينما عشرات الآلاف من السياح سنويا يستمتعون بتصوير الحيوانات البرية المتوحشة وهم يقودون سيارات السفاري ذات الدفع الرباعي، نجد أن المئات فقط من السياح سنويا قد يرغبون في الفرار عن حيوان الثور الهائج الذي يطاردهم في الأزقة الضيقة للمدن الإسبانية. وهذا ما يحصل في كل صيف في مهرجان (سباق الثيران) حيث يتم إطلاق حوالي عشرة من الثيران الضخمة في الأزقة والشوارع الضيقة لمدينة بامبلونا الصغيرة في أقصى شمال إسبانيا، علما بأن هذا المهرجان يقام منذ القرن السادس عشر الميلادي. والفكرة هنا أن يتم الركض والهروب من أمام الثيران الهائجة التي تطارد آلاف المشاركين من السكان المحليين والسياح الأجانب الذين لا يكتفي بعضهم بالفرجة من شرفات ونوافذ المنازل بل يحرص على تلقيه جرعة زائدة من الأدرنالين (هرمون الإثارة وهرمون الكر والفر). الجدير بالذكر أنه نظرا لجوانب الجذب الثقافية والتنشيط السياحي انتقلت فكرة مهرجانات (سباق الثيران bulls running) للعديد من المدن الأخرى كما نجد ذلك في البرتغال والمكسيك بل وصلت لبعض مدن جنوب فرنسا ومدينة ستامفورد البريطانية.

وإذا كانت سياحة الأدرنالين وقمة الإثارة والمغامرة مع الحيوانات تتطلب (الهروب) والفرار من أمام الثيران كما يحصل في شوارع إسبانيا فإن نوع آخر من سياحة المغامرة مع الحيوانات يتطلب العكس تماما وهو أن تبقى جالس وثابت تماما. هذا النوع النادر جدا من سياحة الطبيعة المعروف باسم (تتبع الغوريلا Gorilla Trekking) يتوفر فقط في دول وسط أفريقيا وبالخصوص في المناطق الجبلية من أوغندا ورواندا والكونغو حيث يقوم مرشدين سياحيين مسلحين بقيادة مجموعة صغيرة من السياح في حدود ثمانية أشخاص إلى مناطق معيشة الغوريلا والتي يمكن الاقتراب منها ببطء شديد. وأثناء مشاهدة مجموعات الغوريلا وهي تعيش حياتها الطبيعية يحصل أحيانا أن يقترب لمسافة قصيرة جدا ذكر الغوريلا الضخم المعروف باسم الغوريلا ذو الظهر الفضي وهنا ينصح بعدم الهروب أو إبداء أي مشاعر خوف وكل المطلوب أن تجلس تماما بدون أي حركة وتنظر في الأرض وأياك ثم أياك أن تنظر مباشرة (eye to eye) إلى عين ذكر الغوريلا لأنه سوف يعتبر ذلك نوع من السلوك العدائي الموجه ضده.

ومن الأمثلة الإضافية لسياحة المغامرة مع الحيوانات الخطرة يمكن أن نذكر أن من يزور جزيرة بالي الأندونيسية يمكن أن يذهب في رحلة بالقارب إلى جزيرة تنين الكمودو وهو أكبر سحلية موجودة على سطح الأرض حيث قد يصل طوله إلى حوالي ثلاثة أمتار. وبالجملة من التنبيهات التحذيرية للسياح الذين يقتربون من هذه السحلية المرعبة أنه يجب أن يكونوا بصحة جيدة وقادرين على الجري بسرعة في حال انقض عليهم ذلك التنين السريع. كما ينصح بعدم زيارة أي سيدة وهي في وقت دورتها الشهرية لأنه هذه الحيوان يستطيع شم رائحة الدماء وربما يعتقد أن تلك السيدة هي فريسته الدامية. وحيث إننا بدأنا المقال برصد ظاهرة السياحة و(السباحة) مع أسماك القرش فالجميع يعلم أن هذه المخلوقات حساسة جدا للدم وتصبح أكثر شراسة في حال وجد كائن أو (سائح) جريح بالقرب منها تقطر منه الدم. وهذا يقودنا إلى نوع آخر من السياحة والسباحة مع الكائنات المائية بالغة الخطورة ونقصد بها أسماك البيرانا التي تعيش في مياه نهر الأمازون في البرازيل. الجميع ربما شاهد أفلام الكارتون أو الأفلام السينمائية والوثائقية التي تعرض الصورة النمطية المشهورة عن هذه الأسماك الصغيرة الضارية والمفترسة وذات الأسنان الكبيرة والحادة، ويقال بأنه لو تجمعت العشرات من أسماك البيرانا على حيوان جريح يمكن أن تلتهم لحمه حتى العظم خلال دقائق معدودة. ومع ذلك يوجد البعض من المجانين بحب المغامرة والإثارة يقومون بالفعل بمخاطرة السفر إلى البرازيل للسباحة في نهر الأمازون وفي المناطق التي توجد فيها أسماك البيرانا ولكن يتم تنبيه وتحذير هؤلاء المغامرين ألا يكون الواحد منهم مصاب بأي جروح أو ألا يكون قد لامس اللحوم النيئة مباشرة قبل نزوله للماء لأن هذه الأسماك كما اسماك القرش وتنين الكمودو تصبح مثارة إذا تحسست وجود رائحة الدماء في الماء أو في الهواء.

وفي الختام لا بد من العودة على بدء فيما يتعلق بعنوان المقال (السياحة) مع أسماك القرش فهذا يمكن أن يتحقق بسهولة نسبيا أما مغامرة (السباحة) مع أسماك القرش الأبيض الضخم فهي في الغاب مغامرة خطرة جدا ولا ينصح بالتحديق المباشر إلى عين وأسنان فك القرش إلا من وراء القضبان الحديدة للقفص الذي ينزل فيه السائح لكي يحظى بتجربة العمر. ومع ذلك (السياحة والسباحة) مع أنوع خاصة من وحوش البحر يمكن أن تتحقق كما يحصل في سيرلانكا حيث يتم تنظيم رحلات سفاري بحرية للسباحة في معية الحوت الأزرق الضخم. بينما الشركات السياحية المختصة في الساحل الغربي لأستراليا توفر خدمة السباحة مع الحوت الأحدب المشهورة بقفزاته وتشقلبه فوق الماء في منظر بديع يجذب السياح لأماكن عديدة من محيطات العالم لمشاهدة الرشاقة المذهلة لهذا الحوت الهائل. وفي حين أن الحوت الأحدب يقفز بعنف عبر الماء ولهذا السباحة بالقرب منه خطرة بالفعل نجد أن نوع آخر من الحيتان الضخمة والمشابه لأسماك القرش، يمكن حتى للأطفال السباحة حولها !!. نحن هنا نتحدث الحيوان البحري المسمى قرش الحوت Whale shark والملقب بالحوت المسالم لأنه يسبح ببطء وهو كائن لطيف ومهادن بالرغم من أنه في الواقع أحد أنواع (أسماك) القرش وليس من الحيتان التي هي في الأصل من الثدييات.

على كل حال تجربة السياحة والسباحة مع الحوت المسالم (قرش الحوت) المشهور بوجود عدد كبير من النقاط على جسمه وكأنه سجادة أو نمر مرقط، هذه السباحة والغوص (scuba diving) مع قرش الحوت توجد لها مواقع متعددة من العالم مثل أستراليا والمكسيك والفلبين وتايلند. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الأسماك العجيبة والمسالمة يوجد كذلك في البحر الأحمر وقد اشتهر قبل فترة مقطع الفيديو لأحد رجال ينبع وهو السيد زاكي الحربي والذي نُشر له مقطع وهو يقفز على ظهر قرش الحوت. ولاحقا عندما قامت قناة العربية بإجراء لقاء تلفزيوني معه ذكر معلومة جميلة وفريدة وهو أنه كان يشاهد هذه الأسماك في البحر الأحمر منذ كان طفل مع والده وكثير ما يرصد مشاهدتها أثناء رحلاته للصيد أو حتى في أثناء الرحلات البحرية التي كان يرتبها للسياح الأجانب. ولذا السياحة والسباحة مع أسماك القرش هي أقرب لنا أكثر مما نتصور.

 

 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق