السبت، 29 يونيو 2024

( قضايا البيئة في عام 2030 وما بعدها )


 

 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 قضايا البيئة ومشاكل التلوث أصبحت في السنوات الأخيرة مصدر قلق للدول والمنظمات العالمية وللأفراد كذلك، نظرا لأبعادها الاقتصادية والسياسية والمجتمعية بل وحتى النفسية. ونظرا لاهتمام منظمة الأمم المتحدة البالغ بأم القضايا هذه تنوعت الوسائل التي تبذلها تلك المنظمة الدولية وغيرها لمواجهة مشاكل البيئة وتعقيداتها ولهذا تعددت المؤتمرات العالمية والحملات التوعوية لتثقيف الجمهور العام ولحشد الإرادة السياسية وتأمين الموارد اللازمة لمعالجة تلك المشاكل المفصلية لمستقبل الجنس البشري. وبالرجوع لقائمة الأيام والأسابيع الدولية التي تعتمدها الجمعية العمومية للأمم المتحدة وجدت أن ما لا يقل عن 28 يوما دوليا له ارتباط وثيق بالبيئة من مثل اليوم العالم للبيئة واليوم العالم للمياه واليوم الدولي للتنوع البيولوجي واليوم العالمي لنقاوة الهواء واليوم الدولي للحفاظ على طبقة الأوزون وغيرها كثير.

وبعد موجات الحر اللاهب غير المسبوقة في بعض الدول الأوروبية في صيف العام الماضي (صيف عام 2023م حطم الرقم القياسي كأشد الفصول حرارة في التاريخ البشري المسجل) وبعد موجة الأمطار قبل أسبوعين غير المشهودة منذ سنوات طويلة في واقعنا المحلي والأمطار والفيضانات المهولة التي ضربت عمان والإمارات العربية هذا الأسبوع. لذا رأيت أنه من المناسب الحديث عن مشاكل البيئة بمقال خاص يتزامن مع (اليوم الدولي لأمنا الأرض) الذي تحل مناسبته بعد غد أي يوم الإثنين القادم 22 أبريل. كلنا تقريبا قد مر علينا مصطلح (الطبيعة الأم Mother Nature) وهو مفهوم شائع الاستخدام في الحضارة الغربية الأوروبية منذ أن استخدمه لأول مرة الشاعر والفيلسوف الروماني القديم لوكريتيوس في قصيدته العجيبة (عن طبيعة الأشياء) التي يحتفل بها الأدباء وعلماء الفيزياء والفلاسفة على حد سواء.

ومع ذلك مفهوم ومصطلح (أمنا الأرض Mother earth) ربما يكون مفهوم جديد نسبيا بالرغم من وروده في بعض الأساطير اليونانية القديمة وبالذات في شخصية الربة والإلهة الخرافية المجسدة للأرض والمسماة غايا Gaia التي منها خلقت السماء والجبال والبحار ولهذا تعرف كذلك بكونها (الأم الأرض). ولهذا قبل حول نصف قرن عندما طرح العالم البيئة البريطاني جيمس لوفلوك نظريته العلمية التي اشتهرت باسم (فرضية الغايا Gaia hypothesis) والتي تنظر لكوكب الأرض ككل على أنها (نظام حي) أو أشبه بكائن حي ضخم لهذا استمع جيمس لوفلوك نصيحة أحد جيرانه بأن يوظف الأساطير اليونانية في اشتقاق اسم نظريته الجديدة. والمهم هنا أن هذه النظرية تنظر لكوكب الأرض كنظام متكامل وليس كالسابق أنها مكون من غلاف صخري وغلاف مائي وغلاف جوي وغلاف حيوي شبه معزولة، ولكن بدلا من ذلك تم التركيز على تفاعل الكائنات الحية مع محيطها غير العضوي ومن ثم تأثيرها على البيئة. وأحد مخرجات فرضية الغايا أن كوكب الأرض إذا كان بصورة مجازية يمكن وصفها بأنها (كائن حي ضخم) فلذا هي وكماثل الكائنات تستطيع التأقلم والتكيف والتحكم في الظروف المؤثرة على البيئة وتعيد ضبطها في حال تسبب مؤثر خارجي في انحراف التوازن البيئي.

في الواقع الرسومات واللوحات بل وحتى التماثيل الحديثة نسبيا لإلهة الإغريقية الخرافية غايا (أو الأرض الأم بزعمهم) تظهرها على شكل امرأة شابه حامل وبطنها المنتفخ يحوي كوكب الأرض وعليه فكرة وجود الكائنات الحية داخل رحم الأرض هي إلى حد ما مشابهه لنظرية علمية حديثة تنظر للأرض كبيئة حية معزولة ومغلقة وكأنها في رحم أو وعاء خاص. ومن ذلك التوصيف المجازي لكوكب الأرض وكأنها رحم أو وعاء أو دورق تجارب flask ظهرت نظريات علمية جديدة في مجال البيئة تستخدم برامج الكمبيوتر المتطورة جدا لمحاولة نمذجة أو محاكاة التداخلات المعقدة جدا بين الكائنات الحية في بيئتها المغلقة والمعزولة وكأنها تجربة لنظام بيئي مصغر موجود داخل دورق التجارب العلمية وهي النظرية العلمية المسماة (عالم قارورة الدورق Flask world).

 تخطي الخطوط الحمراء في الإضرار بالبيئة

وبالإذن من القارئ الكريم اضطررت لكتابة الفقرة السابقة ذات الحشو المعرفي ببعض النظريات العلمية لكي أصل إلى ترسيخ مفهوم علمي هام أنه فيما يتعلق بموضوع (قضايا البيئة ومشاكل التلوث) فالمشكلة معقدة جدا ومتداخلة الإبعاد والعديد من العوامل تتداخل لدرجة ان الأرض الصلبة من تحت أرجلنا أصبح بعض العلماء ينظر لها وكأنها أشبه بكائن حي يتفاعل بشكل ما مع المؤثرات من حوله. وكما نعلم جميعنا أنه في السنوات الأخيرة تزايد النقاش بل الخصام حول حقيقة وجود مشكلة (الاحتباس الحراري) والتغير المناخي وقد يعتقد البعض أن هذه المشكلة مرتبطة فقط بتلوث الغلاف الجوي بانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بينما النظرة الأعم والأشمل ترشدنا إلى أن قضايا البيئة أعقد من ذلك بكثر. ففي الواقع التلوث بغاز ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات ليس فقط يتسبب في ضرر الغلاف الجوي بل كذلك الغلاف المائي عبر الظاهرة المسماة الأمطار الحمضية والأخطر من ذلك كارثة (المحيطات الحمضية/ تحمض المحيطات) التي سوف تؤثر على الغلاف الحيوي المائي ممثلا في تدمير الشعب المرجانية نتيجة لإذابة الجير التي تنمو منه ومن ثم هذا بدوره يؤثر على الثورة السمكية ومنظومة الكائنات البحرية. والدراسات العلمية الحديثة تثبت أن قاعدية مياه المحيطات انخفضت بشكل طفيف من pH8.2 إلى pH8.1 بسبب ظاهرة تحمض المحيطات وأن هذا التغير سوف يتسبب في هلاك هائل للعوالق النباتية المجهرية البحرية المسماة البلانكتون وهذا بدوره سوف يؤدي في نهاية المطاف لضرر بالغ في انقراض الكائنات البحرية. والعجيب أن تغير حمضية مياه المحيطات بسبب التلوث بغاز ثاني أكسيد الكربون من المؤكد علميا أنها تتسبب في زيادة حرارة المياه في سطح المحيطات وهذا بدورة مرة أخرى يسبب في ضرر بالغ على الكائنات المجهرية بل يصل كذلك إلى إضعاف سرعة تدفق تيارات المحيطات وهذا بدورة يؤثر على المناخ الجوي وحركة الرياح !!.

ولعل الصورة بدأت تتضح للقارئ الكريم أن (التوازن البيئي) معقد ومتداخل فبمجرد التلاعب بأحد المتغيرات البيئية (مثل زيادة تركيز الغازات الملوثة) ينتج عن ذلك سلسلة من العواقب الخطيرة. وهنا لابد من أن أعترف أنه بالرغم من استمتاعي بالقراءة المتنوعة جدا في مجالات مختلفة إلا أنني كنت مقلّ وغير مهتم بقراءة الكتب المتعلقة بمجال البيئة. ولكن في السنوات الأخيرة ومع تصاعد الجدال فيما يتعلق بظاهرة الاحتباس الحراري أو القلق من انقراض بعض الحيوانات البرية وتضرر التنوع الأحيائي، لهذا قرأت في السنة الأخيرة فقط عدة كتب باللغة الإنجليزية عن قضايا البيئة. عندما قرأت كتاب (كائنات الله .. إنقاذ كوكب الأرض في عصر البشر) للعالم البريطاني مارك ليناس، استمتعت لأول مره بالقراءة في مجال علوم البيئة بعيدا عن الأفكار التقليدية المستهلكة عن التلوث الكيميائي للبيئة ووسائل انتاج الطاقة البديلة والنظيفة. مما يعزز الفكرة التي أرغب فب ترسيخها من هذا المقال أن مواضيع البيئة معقدة ومتداخلة وقابلة للنقاش والجدل ومن ذلك مثلا أن مارك ليناس وبالرغم من أنه خبير بيئي ومستشار في شؤون المحافظة على البيئة في بعض الدول والمنظمات الدولية إلا أنه عندما ناقش مواضيع التوسع في استخدام محطات الطاقة النووية أو زيادة زراعة الأغذية المعدلة وراثيا GMF والوقود الحيوي طرح النقاش بطريقة علمية عقلانية معاكسة لحالة التشويش والمبالغة التي يقوم بها معتنقو أفكار التيارات الخضراء ومخابيل مناصري حماية البئية (environmentalists). وفي المقابل تم في ذلك الكتاب استعراض الأبعاد المخفية المرتبطة بالضرر على البيئة من استخدام السيارات الكهربائية أو تأثير محطات توليد طاقة الرياح على الطيور المهجرة أو محطات طاقة أمواج البحر على الأسماك فضلا عن الأضرار المسكوت عنها عن إقامة سدود المياه أو استصلاح الأراضي البور للزراعة !!.

من هذا وذاك أوكد مرة أخرى أن قضايا البيئة معقدة بشكل محير ولهذا اجتمع في عام 2009م فريقا علميا متخصصا في مجال علوم البيئة برئاسة العالم السويدي يوهان روكستروم وعضوية صاحبنا السابق مارك ليناس لجمع شتات هذه الأبعاد البيئية المتعددة والمتداخلة وطرحوا نظرية جديدة تسمى (الحدود الكوكبية Planetary boundaries) فكرتها ببساطة أنه توجد تسعة أنظمة (أو حدود) لدعم الحياة على كوكب الأرض وبالتالي بقاء البشرية. وبحكم أن نشاط الإنسان قد يحدث خلل في توازن هذه الحدود التسعة وتأثيرها على بعضها البعض وعندما يحصل أن تحدث عملية عبور وتعدي لعتبة واحد أو أكثر من تلك الحدود الكوكبية قد يحدث تغير بيئي مفاجئ أحيانا (وهنا الخطورة) تغير لا رجعة فيه.

في كتابه الشيق الشبيه بالسيرة الذاتية (الحياة على كوكبنا) يمزج عالم الأحياء والإعلامي الكبير السير ديفيد أتينبارا بين مشواره المهني مع وحدة برامج عالم الطبيعية في قناة البي بي سي وبين رسالته التي يرغب أن يساهم فيها قبل وفاته (عمره الآن بالهجري يقترب من 100 سنة) وذلك في إنقاذ كوكب الأرض من تداعيات اختلال التوازن البيئي. ينبغي الإشارة إلى أن السير ديفيد أتينبارا النجم التلفزيوني ذو الوجه المميز للملايين من محبي الأفلام الوثائقية يوافق على وجهة النظر العلمية أننا بالفعل قد تخطينا (الخطوط الحمراء) وأننا حاليا نواجه أخطارا بيئية ملموسة في أربعة من (الحدود الكوكبية) التسعة التي حددها علماء البيئة. السبب في حصول هذه الأخطار البيئية هو زيادة عدة سكان الأرض ولهذا في ذلك الكتاب (ولاحقا في الفلم الوثائقي الذي أنتجته نيتفليكس) أخذ السير ديفيد يستعرض مراحل مختارة من حياته منذ الطفولة وحتى الآن يبدؤها بذكر عدد سكان الأرض وكميلة التلوث بغاز ثاني أوكسيد الكربون والنسبة المئوية المتبقية من الحياة الفطرية ولقد كانت هذه الأرقام تتغير بشكل صادم وخطير عبر سنوات عمره المديد.

وما يهمنا هنا أن السير ديفيد أتينبارا في الجزء الثاني من ذلك الكتاب وضع فصلا قصيرا بعنوان (ماذا ينتظرنا في المستقبل) ذكر فيه توقعاته وتنبؤاته لمستقبل البيئة لمراحل زمنية محددة هي فترة الأربعينيات والخمسينيات والتسعينيات ونهاية القرن الواحد والعشرين. وفيما يتعلق بقضايا البيئة في سنة 2030 وما بعدها (أي فترة 2030s) يتوقع مقدم برامج الطبيعية المشهور السير أتينبارا أن غابات الأمازون في ذلك الزمن تكون قد خسرت ربع حجمها. وتلك كارثة بيئة هائلة ليس فقط لأن غابات الأمازون حرفيا هي رئة كوكب الأرض، ولكن لأن عملية إزالة الغابات سوف يصحبها تفاقم مشكلة ظاهرة (سقام الغابات forest dieback) التي قد تصيب مساحة 75% الباقية من الأمازون. هذه الضربة القاصمة في أمريكا الجنوبية قد يمتد أثرها إلى أقصى شمال كوكب الأرض فمع تعطل رئة الأرض الأمازونية تلك سوف تقل كفاءة التخلص من غاز الكربون وبالتالي تزيد حرارة الكوكب. وعليه يتوقع السير أتينبارا أنه بحلول 2030s سوف تحصل لأول مرة في التاريخ أن يذوب تماما في فصل الصيف كل الجليد الموجود في محيط القطب المتجمد الشمالي وتلك المنطقة هي مضخة تيارات موجات المحيط وهي القلب النابض لتدفق شريان المياه والحياة للكوكب.

قد يكون السير ديفيد متشائما بشكل مبالغ فيه بأن رئة كوكب الأرض في الأمازون أو قلبه النابض المحرك للتيارات المائية في القطب سوف تتعطل ويعطب أداؤها بشكل خطير في العقد الزمني القريب القادم. ومع ذلك الاحتمالية ما زالت قائمة أن المشاكل البيئة في المدى المنظور قد تزداد سوءا بشكل حاد خصوصا إذا كانت فرضية (الحدود الكوكبية) صحيحة لأنه بكل بساطة إذا حصل خلل في أحد تلك الحدود فإن الضرر الناتج قد يتفاقم بشكل عاتي في حال وجود خلل في حدّ آخر فما بالك بوجود عطل في أربعة حدود. وعليه في الختام فإن تعرض الدول الأوروبية في صيف العام الماضي لدرجات حرارة غير مسبوقة وتعرض بعض مدن الجنوب لدينا وبعض دول الخليج لفيضانات هائلة هذه الأيام هي أحداث مرتبطة بالرغم من بعد المسافة الجغرافية واختلاف التوقيت الزمني وهذا ما ناقشته باستفاضة في مقال سابق حمل عنوان (الفيضان والجفاف .. وجهان لقطرة واحدة !!). والله أعلم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق