د/ أحمد بن حامد الغامدي
بعد مرور أسبوعين على حادثة سقوط الطائرة المروحية للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وبعد مرور حوالي عشرة أشهر على إسقاط الطائرة المروحية للزعيم الروسي المنشق بريغوجين قائد قوات مرتزقة فاغنر الروسية، وبعد مرور كل هذا الزمن لم تتبين أي معلومة مؤكدة عن أسباب سقوط هذه الطائرات، بل حتى الآن لم يذكر هل تم انتشال (الصندوق الأسود) لهذه الطائرات المحطمة وما هي المعلومات التي استخرجوها منها. وهذا في جانب منه يوضح لماذا في العادة من أفضل وسائل الاغتيال السياسي لقادة الدول استخدام عمليات التفجير في الجو، لما في ذلك من ضمان تصفية الهدف المطلوب وكذلك لمحو أغلب وأهم الأدلة من مسرح الجريمة والمتمثلة في آلاف القطع المبعثرة على مساحة شاسعة من الأرض.
في الواقع في العديد من حالات إسقاط (الطائرة الرئاسية) ومع ارتطامها بسطح الأرض يثار غبار كثيف من الشك والغموض حول طبيعة تلك الحوادث الجوية هل هي مفتعلة أو طبيعية. فمثلا حادثة سقوط طائرة الرئيس الباكستاني ضياء الحق في عام 1988م قد تكون بالفعل ناتجة بسبب خلل فني وليست من جراء تخريب متعمد للطائرة وربما ما يؤكد ذلك أنه نتج عن تلك الحادثة ليس فقط مصرع الرئيس الباكستاني، ولكن أيضا من كان بصحبته في تلك الطائرة وهم السفير الأمريكي وكذلك رئيس البعثة العسكرية الأمريكية في باكستان ويصعب الاقتناع بأن بعض قادة الجيش الباكستاني أو المخابرات الأمريكية هم من قام بتلك المؤامرة. وفي المقابل نجاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من حادث سقوط طائرته في الصحراء الليبية في عام 1992م قد تكون بالفعل محاولة لتصفيته واغتياله بدليل مقتل ثلاثة من مرافقي أبي عمار وإن كانت تلك الحادثة أعلن في ذلك الحين أنها كانت مجرد محاولة للهبوط الاضطراري للطائرة المصابة بخلل فني. ونتيجة للحالة الضبابية هذه المصاحبة لإسقاط أو سقوط الطائرة الرئاسية للحكام وقادة الدول يتكرر أحيانا أن تكون مؤامرات ومخططات الاغتيال لرؤساء الدول تنفذ في هيئة سقوط طائرة الرئيس وذلك كمحاولة لتغطية تلك الجريمة السياسية. وللدلالة على ذلك تشير الإحصائيات أنه منذ بداية استخدام الطائرات في ثلاثينيات القرن العشرين كوسيلة للتنقل لقادة وحكام الدول حصلت حوالي 24 حادثة سقوط طائرة رئاسية. وفي المقابل وفي نفس تلك الفترة إي منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى الآن بلغت حوادث اغتيال رؤساء وقادة الدول باستخدام السلاح الناري تقريبا أربعين حالة وكما هو معلوم تسلل شخص انتحاري لقتل رئيس دولة بمسدس أسهل بكثير من مؤامرة تخريب الطائرة الرئاسية أو إسقاطها بصاروخ.
خذ على ذلك مثلا أيه القارئ العزيز واقعة اغتيال الملك الأردني عبد الله بن الحسين عام 1951م وهو ذاهب لصلاة الجمعة في المسجد الأقصى، فتلك الحادثة ربما تمت دون تخطيط مسبق لأن القاتل الذي أطلق النار على الملك الهاشمي كان شابا مقدسيا صغير السن ويعمل خياطا تسلل حتى أقترب من هدفه بكل يسر لأنه لم تكن توجد حماية كافية حول الملك لأنه لم يتوقع أحد أن تقع جريمة في ساحات المسجد الشريف. بينما في المقابل وبالاتجاه شمال فلسطين للوصول إلى لبنان نجد أن عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رشيد كرامي عام 1987م عن طريق تهريب قنبلة إلى داخل طائرته المروحية وتثبيتها خلف كرسيه وتفجيرها بجهاز التحكم عن بعد، هذه المؤامرة المعقدة تحتاج لخيانة كبرى أو تعاون جهاز مخابرات دولي. خصوصا أن دولة الرئيس رشيد كرامي له ثقل سياسي كبير في لبنان لأنه تولى منصب رئاسة الوزراء لثماني مرات كما أنه من أسرة سياسية ذات وزن ثقيل فأبوه عبد الحميد كرامي وأخوه عمر كرامي شغلا كذلك منصب رئيس الوزراء ومن هذا وذاك نعلم أن عملية اغتيال شخصية ذات نفوذ سياسي راسخ عن طريق طائرة مفخخة عملية صعبة جدا.
وعلى كل حال وإن كانت الجريمة السياسية من خلال إسقاط طائرة الرئيس غالبا عملية شائكة إلا أنها أحيانا قد تكون مغرية لأن الفاعل ومرتكب تلك الجريمة قد يفلت من الاتهام ومن ثم العقوبة لأن (أجواء) العملية قد تكون مغيمة أو معكرة. والمقصود أن تصفية قادة الدول بعملية اغتيال بالسلاح أو تفجير سيارة مفخخة أو حتى بفرقة إعدام بعد انقلاب عسكري، كل هذه العمليات واضح أنها جريمة سياسية مكشوفة، ولكن التخلص من رئيس الدولة عن طريق إسقاط طائرته في أحوال جوية عاصفة قد يكون ذلك غطاء مناسبا لجريمة سياسية محبوكة. وكثيرا ما تمر علينا عبارة أن (الطائرة الرئاسية سقطت في ظروف غامضة) لأن الحدث حصل أثناء أحوال جوية عاصفة كما حصل قبل أسبوعين عند سقوط طائرة الرئيس الإيراني. ومن العاصفة الرعدية الماطرة في ليل إيران إلى العاصفة الرملية السافية في العراق حيث نشهد هذه المرة مصرع الرئيس العراقي عبد السلام عارف في مساء يوم 13 أبريل من عام 1966م والجدير بالذكر أن الطائرتين المرافقتين للطائرة المروحية الرئاسية العراقية وصلتا إلى مدينة البصرة بسلام بينما سقطت طائرة الرئيس ولهذا أثيرت الشكوك في العراق قديما كما حصل في إيران هذه الأيام بأن الحادث قد يكون مدبرا وليس بسبب سوء الأحوال الجوية جراء العاصفة الرملية.
والسبب في تكرار ظهور (نظرية المؤامرة) في تفسير سبب سقوط الطائرات الرئاسية راجع لحالة الاحتقان الداخلي في تلك الدول او نتيجة للصراع الدولي والخصام السياسي مع دول الجوار فهذا عبد السلام عارف كان في داخل العراق في حالة تنافس مع الشيوعيين والبعثيين وبينما في الخارج كان في حالة عداء مع إيران البهلوية في زمن الشاه. وهذه الأيام الجميع يعلم أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حالة تنافس داخلي مع ابن المرشد الأعلى مجتبى خامنئي، بينما في السياسية الخارجية دولته في حالة صدام مع الكيان الصهيوني. ومع ذلك ينبغي الإشارة إلى أن حالة التنافس والصراع الداخلي كثيرا ما تظهر كخلفية لنظرية المؤامرة عند تفسير حوادث سقوط الطائرات التي تحمل شخصيات سياسية ذات نفوذ عال هي على خصام مع حاكم الدولة. وخير شاهد على ذلك تلك الحادثة الغامضة لسقوط طائرة وزير الدفاع العراقي عدنان خير الله طلفاح بعدما ساءت العلاقة بينه وبين صدام حسين عام 1989م وكذلك حادثة سقوط طائرة وزير الدفاع المصري أحمد بدوي عام 1981م والتي يزعم البعض أنها كانت بموافقة وتدبير من قبل الرئيس أنور السادات!!.
الطائرات المخففة وإعادة كتابة التاريخ
في كثير من الحالات تكون لحظة سقوط الطائرة الرئاسة هي نقطة فاصلة في تاريخ بعض الدول والشعوب كما حصل في عام 1994م عندما تسبب صاروخ في إسقاط طائرة تقل كلا من رئيس دولة راوندا والرئيس السابق لدولة بورندي وكان من تداعيات ذلك اندلاع الحرب الأهلية والمجازر المهولة والبشعة التي شهدتها رواندا وقضت على حوالي 800 ألف ضحية. ولهذا لا غرابة أن حوادث سقوط الطائرات التي ينتج عنها مصرع قادة الدول تحظى باهتمام واسع من وسائل الإعلام ومن الأشخاص العاديين كما تابعنا ذلك كلنا الأيام الماضية مع خبر سقوط الطائرة الرئاسية الإيرانية. ولكن في المقابل الحالات الفاشلة لمحاولة اغتيال رؤوسا الدول من خلال تفجير طائراتهم أو نجاة قادة الدول من الموت بعد سقوط طائراتهم أمر يكون مصيره أحيانا النسيان في غياهب الزمان وبطون كتب التاريخ.
في الواقع أدق التفاصيل التاريخية معلومة عن الرئيس النازي هتلر وأحداث الحرب العالمية الثانية لكن القليل منا مر عليه خبر محاولة اغتيال هتلر من خلال تفجير طائرته الرئاسية. في الواقع تعرض الرئيس النازي الأثيم هتلر لعدد من مؤامرات الاغتيال إحداها تلك التي كان من المفترض أن تتم في كبد السماء في أحد أيام شهر فبراير من عام 1943م عندما استطاع بعض قواد الجيش الألماني المعارضين لمغامرات هتلر الحربية من تهريب قنبلة إلى داخل طائرته الخاصة. تلك القنبلة تم تمويهها واخفائها داخل زجاجتي خمر فرنسي، ولكن للأسف لم يشتعل صاعق الشرارة الكهربائية spark بعد إقلاع الطائرة لتفجير القنبلة ولهذا لاحقا عرفت هذا المحاولة لاغتيال هتلر (بعملية الصاعق الكهربائي operation spark).
كم كان سوف يتغير تاريخ البشرية لو نجحت محاولة اغتيال الغازي النازي هتلر بإسقاط طائرته أو لاحقا تفجير مقر قيادته العسكرية في (وكر الذئب) تلك المحاولة الفاشلة (عملية فالكيري) التي تحتفل بها ألمانيا حتى الآن. وعلى نفس النسق ربما اختلف التاريخ المعاصر في كثير أو قليل لو نجحت عدة محاولات أخرى لاستخدام الطائرات الساقطة أو المفخخة لاغتيال قادة بعض الدول. وكما نجى رئيس ألمانيا النازية من محاولة اغتياله بالطائرة المتفجرة نجى كذلك الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون من محاولة اغتيال نفذها متمرد أمريكي يدعى صموئيل بيك. ففي صباح يوم الجمعة 22 فبراير حاول ذلك الرجل اختطاف طائرة من مطار بالتيمور الذي يبعد حوالي 50 كيلومترا من مدينة واشنطن وكان الهدف الأساسي بعد اختطاف الطائرة أن يرتطم بها على مبنى البيت الأبيض وبهذا تتم تصفية الرئيس الأمريكي نيكسون وهو في عقر داره. ولكن ما حصل أن هذا المختطف بعد أن قتل أحد الحراس تم إطلاق النار عليه أثناء محاولة اختطاف الطائرة ثم انتحر لاحقا قبل القبض عليه.
حادثة أخرى لسقوط طائرة كان من الممكن أن تغير التاريخ قليلا لكن ذلك لم يحصل وذلك عندما قام الملك البريطاني الحالي تشارلز الثالث في عام 1994م عندما كان وقتها يعرف بأمير ويلز بالسفر بالطائرة الملكية من لندن إلى إسكتلندا وقبل هبوط الطائرة أصر أن يقوم هو بإنزال طائرة والدته الملكة على مدرج المطار. صحيح أن الملك تشارلز وأخاه الأصغر أندرو كان كلا منهما طيارا يستطيع قيادة طائرة نفاثة حربية في حين أن ابنه الأمير هاري عمل كطيار لطائرة هليكوبتر عسكرية، ولكن هذا لا يعني أن الأمير تشارلز وهو يقترب من سن الخمسين عندما حصلت الحادثة كان في وضع بدني ملائم لقيادة طائرة مدنية ضخمة في أجواء عاصفة. طبعا التاريخ توقف هنا من غير مبالغات لأن أمير ويلز نجا من الموت في حين أنه لو لقي مصرعه في حاثة ارتطام طائرته الملكية لوقع إثارة الشائعات أن الحادث مدبر كما سوف تثار الإشاعات بعد ذلك بسنوات قليلة عندما تلقى زوجته السابقة الأميرة ديانا مصرعها نتيجة حادث سير شبه عادي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق