السبت، 29 يونيو 2024

( أَحَرُّ يوم طلعت عليه الشمس )

 د/ أحمد بن حامد الغامدي

  قبل أيام مرت علينا الأجواء الإيمانية ممثلة بيوم عرفة (خير يوم طلعت عليه الشمس) وكذلك يوم النحر ويوم القر (أفضل الأيام عند الله) كما ورد في الأثر الشريف. ولكن مع هذه الأجواء الإيمانية وصيغ أفعل التفضيل (أخير وأفضل) مرت علينا كذلك أجواء مناخية ساخنة كانت من (أشدّ وأحرّ) الأيام في درجة الحرارة. فوفق الأخبار الواردة عن المركز الوطني للأرصاد أنه أعلن في يوم الإثنين الماضي (أول أيام التشريق لحج هذا العام) بأن درجة الحرارة القصوى في المنطقة المركزية بالمسجد الحرام بلغت حوالي 52 درجة مئوية. وربما تكون هذه هي أعلى درجة حرارة سجلت في مكة المكرمة في العصور الحديثة حيث كانت أعلى درجة حرارة رصدت في مكة المكرمة قبل ذلك هي 50 درجة مئوية وذلك في شهر يوليو من عام 1983م، بينما أعلى درجة حرارة سجلت في المملكة على الإطلاق هي 53 درجة مئوية وهي التي سجلت في منطقة الأحساء خلال صيف عام 2017 ميلادي.

بصورة ما كانت تنبؤات الطقس المحلية الصادرة عن المركز الوطني للأرصاد تشير إلى أن الأجواء المناخية خلال موسم الحج سوف تكون ساخنة ومرتفعة عن المتوسط بعدة درجات ويضاف لذلك تصريحات الأمين العالم لأمم المتحدة يوم الخامس من يونيو بمناسبة يوم البيئة العالمي بأن البشرية متجه نحو (جحيم مناخي) وأن كل الأشهر 12 الماضية كانت الأكثر دفئا على الإطلاق منذ بداية الرصد العلمي للطقس. ومن هذا وذاك كتبت بعد ذلك بأيام مقالا حمل عنوان (الحج زمن الحر والقيظ) أشرت فيه لاحتمالية أننا على وشك معايشة أكثر موسم حج سخونة منذ عقود وربما منذ قرون، وربطت ذلك بحشد عدد كبير من شواهد الرحالة العرب والأجانب عن مشاهداتهم عن موسم الحج في زمن الصيف وحمارة القيظ.

وإذا كنا تقريبا هذا الأسبوع عاصرنا وسمعنا عن (أحرّ يوم طلعت عليه الشمس) في مكة المكرمة وأنه ربما تم تسجيل الرقم القياسي لأعلى درجة حرارة وهي (52 درجة مئوية) سجلت في الظل بينما درجة الحرارة الملموسة أو الفعلية تتخطى الستون درجة مئوية. لذا تجدر الإشارة إلى أن أحر يوم طلعت عليه الشمس وتم توثيقه ورصده بالأجهزة العلمية كان العاشر من شهر يوليو من عام 1913م في صحراء وادي الموت بشرق ولاية كاليفورنيا حيث بلغت درجة الحرارة 56.7 درجة مئوية، علما بأنه يوجد شك في دقة الطريقة العلمية لرصد الرقم القياسي الذي زُعم تسجيله في نهاية صيف عام 1922م في ليبيا حيث أعلن أنه حرارة الجو بلغت (57.8 درجة مئوية). على كل حال درجات الحرارة القصوى تلك التي سجلت في وادي الموت في أمريكا أو في منطقة العزيزية في ليبيا كلها قديمة جدا قبل أكثر من قرن من الزمان وتمت رصدها باستخدام أجهزة علمية عتيقة وغير دقيقة، ولهذا علماء الأرصاد الجوية والمناخ في العصر الحديث يفضلون أن يجعلوا (الرقم القياسي لأعلى درجة حرارة) هي تلك المسجلة في عام 2013م في وادي الموت بكاليفورنيا وفي عام 2016م في مرصد مطربة بشمال الكويت. وفي منظور هذا التعديل والتدقيق العلمي يكون (أحرّ يوم طلعت عليه الشمس) في العصور الحديثة حيث بلغت درجة الحرارة القصوى (54 درجة مئوية) وذلك في يوم 20 من شهر يونيو لعالم 2013م في غرب أمريكا ويوم 21 يوليو لعام 2016م في شمال الكويت. وفي ضوء ما سبق ذكره من أن أعلى درجة حرارة موثوقة للطقس هي 54 درجة مئوية وأن منطقة الأحساء سجلت يوما ما درجة حرارة لاهبة هي 53 درجة مئوية وأن مكة المكرمة هذه الأيام لامست درجة حرارة 52 درجة مئوية، فلذا نحن بالفعل نحس ونلمس ونشعر بحقيقة ظاهرة (الاحتباس الحراري والتغير المناخي).

وبما إن سيرة الاحتباس الحراري انفتحت ووردت في السياق فمن الثابت علميا أنه يوجد ترابط وثيق بين ظاهرة التغير المناخي وتلوث الغلاف الجوي بالغازات الكيميائية المعروفة بالغازات الدفيئة (أو غازات البيت الزجاجي) التي لها القدرة على امتصاص الأشعة تحت الحمراء مثل غاز ثاني أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين وغاز الميثان بل وحتى بخار الماء. من الناحية التاريخية تزايدت ظاهرة الاحتباس الحراري منذ بداية عصر الثورة الصناعية عندما كان تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون يبلغ في الجو حوالي 180 جزء من المليون (180 ppm) بينما في الوقت الحالي وصل تركيز ذلك الغاز السيئ الذكر إلى مستوى (425 ppm). وبحكم أن تلوث الهواء مرتبط بتزايد النشاطات البشرية في الصناعة ووسائل النقل ومحطات توليد الطاقة، لذا تشير الإحصاءات والقياسات العلمية أن تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون يزداد سنويا بمقدار يلامس 5 ppm وعليه تشير التوقعات أنه بحدود عام 2100م يمكن أن يصل تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون لمستويات خانقة (1000 ppm).

 تأرجح العصور الجيولوجية بين الجليد والنار

بالاعتماد على العلاقة العلمية الطردية بين زيادة تركيز غاز الكربون وبين ارتفاع درجة الحرارة يمكن أن نخمن بأن (أحر يوم طلعت عليه الشمس) سوف يكون في المستقبل عندما يزداد التلوث غاز ثاني أكسيد الكربون بأكثر من الضعف. ومع ذلك تشير القياسات الجيولوجية والدراسات المناخية المتعلقة بزيادة حرارة سطح الأرض مع ارتفاع تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون أن أحر يوم طلعت عليه الشمس حصل في الماضي السحيق وليس في المستقبل المنظور. صحيح أن تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون الحالي 425 ppm هو الأعلى تقريبا خلال 14 مليون سنة الماضية، ولكن كما توجد (دورة الكربون) المشهورة لكل طلاب المدارس توجد كذلك ما تسمى (دورات تغير تركيز غاز ثاني أوكسيد الكربون). وما أريد الوصول إليه أن الدراسات العلمية تشير لتذبذب وتأرجح تركيز هذا الغاز الدافئ عبر العصور الجيولوجية السحيقة ففي أثناء فترة العصور الجليدية منذ 20 ألف سنة كان ينخفض لمستوى 180 ppm بينما خلال العصر الكامبري قبل 500 مليون سنة يعتقد العلماء بأن تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ربما بلغ مقدار هائل جدا في حدود (4000 ppm) نتجت في الغالب من تدفق حمم بركانية غطت مساحات شاسعة من وسط قارة آسيا.

وبالعودة للعلاقة الرياضية الخطية بين زيادة تركيز الغازات الدفيئة وارتفاع درجة الحرارة، فإذا كانت درجة الحرارة زاد معدلها حوالي 1.5 درجة مئوية فقط بارتفاع تركيز غاز الكربون إلى مستوى 400 ppm فإن عشرة أضعاف هذا الرقم أي 4000 ppm خلال العصر الكامبري جعل علماء الجيولوجيا يتوقعون بأن درجة الحرارة زادت في تلك الفترة بمقدار يزيد عن 14 درجة مئوية وهذا بكل بساطة يعني بأن (أحر يوم طلعت عليه الشمس) بالفعل كان في زمن الأحقاب الجيولوجية السحيقة. وفي مثل هذه الأجواء الخانقة والبالغة السخونة أعتقد أننا لن نستغرب عندما نعلم أن بعض الأبحاث العلمية المعتمدة على دراسات نسبة نظائر عنصر الأكسجين وعنصر السيلكون في عينات الصخور من قاع المحيطات، تشير تلك الدارسات إلى احتمالية أن تلك الصخور تكونت عندما كانت درجة حرارة المحيطات القديمة ساخنة تتخطى حرارتها 55 درجة مئوية بل ربما تصل حتى 80 درجة مئوية !!.

وبالدمج بين عجائب علم الجيولوجيا وغرائب علم المناخ القديم نفتح نافذة على معلومات علمية مذهلة تتعلق بمناخ كوكب الأرض في العصور الجيولوجية السحيقة. فمثلا في الوقت الحالي إحدى أبرز قضايا الاحتباس الحراري تتجسد في صيحات التحذير من ذوبان كميات مهولة من الجليد بالذات في القطب المتجمد الشمالي، ومع ذلك تشير الدراسات الجيولوجية أنه بسبب درجات الحرارة العالية جدا التي كانت سائدة قديما قبل حوالي 252 مليون سنة، نجد أن كلا من القطب المتجمد الشمالي والجنوبي حصل لهما ذوبانا كاملا. الأمر الصادم ليس فقط أن كوكب الأرض من المحتمل أنه في فترة من الزمن لم يكن يحتوي على الأقطاب المتجمدة بل يتوقع علماء الجيولوجيا أن هذا الأمر استمر عبر الفترة الزمنية من 252 وحتى 34 مليون سنة، بمعنى آخر أن الأرض ظلت لمدة 218 مليون سنة وهي خالية من وجود القطب المتجمد الشمالي والجنوبي.

وأختم بالقول أن القارئ الكريم إذا بلغت ثقته في دقة العلوم الحديثة أن يقبل فرضية أنه قد مر زمان على كوكب الأرض ومياه المحيطات على درجة عالية من السخونة والأقطاب الجليدية في الشمال والجنوب ذائبة تماما، فلعل القارئ قد يثق مرة أخرى في علم الجيولوجيا (كما أفعل أنا) ويقبل نظرية (كرة الأرض الثلجية  Snowball Earth) والتي تقول بأن كل المحيطات والبحار قد تجمدت قبل حوالي 635  مليون سنة خلال حقبة العصر الكريوجيني (العصر البارد). وكما أن التحليل الكيميائي لنسبة نظائر عناصر الأوكسيجين والسيلكون في أحجار المحيطات أعطت نافذة على التاريخ القديم للمحيطات وأن مياهها كانت ساخنة، نجد أن علماء الجيولوجيا حاول تفسير وجود صخور ضخمة مبعثرة في مناطق متعددة بالقرب من خط الاستواء وأنها وصلت إلى هناك محمولة بواسطة الأنهار الجليدية وهي فكرة علمية جريئة فكيف تصل الأنهار الجليدية إلى منطقة خط الاستواء وهي شديدة الحرارة. وبالاستعانة بعدد إضافي من الأدلة العلمية استنتج العلماء بأن الكرة الأرضية بأكملها تقريبا كانت مخطاه بالجليد والثلج في الحقبة الجيولوجية المعروفة بالعصر ما قبل الكامبري.

ربما انجرفنا كثيرا في نهاية المقال عما ابتدأنا به وهو رصد (أحرّ يوم طلعت عليه الشمس) ومع ذلك نود أن نشير إلى عجائب خلق الله سبحانه وتعالى وأن الكون والأرض التي نعيش عليها لم تكن دائما في حالة ثابت وسرمدية من ناحية المناخ أو معالم التضاريس الجيولوجية. وبدون الدخول في مزيد من التفاصيل العلمية وفيما يخص حرارة نجم الشمس تشير دراسات علم الكونيات والفيزياء الفلكية أن الشمس قبل أربعة بلايين سنة (أي عندما كان عمر الأرض 500 مليون سنة فقط) كانت شدة أشعتها أقل بحوالي 30% من شدتها الحالية. ولهذا تلك الشمس الخافتة حديثة التكوين faint young sun لا يمكن أن تكون حرارته كافيه لإحداث أسخن يوم في التاريخ بينما لشمس أخرى مشابهه لشمسنا ولو كتب الله سبحانه وتعالى عمر مديد للكون يصل إلى خمسة بلايين سنة قادمة، عندها تصبح تلك الشمس العجوز على مشارف مرحلة النهاية لوجودها وتتحول لنجم (العملاق الأحمر). لو حصل هذا الأمر لشمسنا وتمددت كما يتوقع علماء الفيزياء الفلكية لتصل إلى موقع قريب من مدار القمر وعليه سوف تكون حرارة سطح الأرض أشبه بالجحيم وعندها بالقطع سوف تقع لحظة (أحرّ يوم طلعت عليه الشمس).

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق