د/ أحمد بن حامد الغامدي
الجميع يتفق على أن من أدوار الجامعات التدريس الأكاديمي وإجراء البحث العلمي وثالث تلك الأهداف الجوهرية للجامعات قيامها بدور: خدمة المجتمع. وفي حين أن الجميع دون استثناء يرحبون بدور الجامعة في خدمة المجتمع من خلال المساهمة في البناء والتطوير بينما في المقابل يرفض البعض على الأقل دور الجامعة في (نقد) وتصحيح أوجهه الخلل في مسيرة المجتمعات والحكومات. ولنضرب على ذلك مثالا كما نجده في حالة أحد أساتذة جامعة كيمبريدج وهو بيرتراند راسل الذي وإن افتخرت به الأمة الإنجليزية بحكم كون أحد أهم علماء الرياضيات في العصر الحديث وبكونه كذلك آخر الفلاسفة من العيار الثقيل وأيضا لحصوله على جائزة نوبل في الأدب. ومع ذلك في بداية اندلاع الحرب العالمية الأولى وعندما بدأ راسل وغيره من المفكرين في الاعتراض على دخول بريطانيا الحرب تم فصله من جامعة كيمبريدج ولاحقا مع تصاعد جهوده المناهضة للمجهود الحربي تم سجنة لمدة ستة أشهر لأنه اعترض على دعوة الولايات المتحدة لدخول الحرب العالمية الأولى كحليف لبريطانيا. والطريف في الأمر أنه في بداية الحرب العالمية الثانية كان بيرتراند راسل يدرس في جامعة نيويورك وعندما عارض الحرب مرة أخرى بسبب مبدئه الأخلاقي السلمي pacifismتعرض مرة أخرى للفصل من الجامعة، بل وصل الأمر أنه رفعت عليه قضايا في المحاكمة مما دعا أينشتاين وغيره من العلماء والمفكرين أن يتدخلوا لمناصرته.
في جامعة كيمبريدج البريطانية وفي جامعة نيويورك الأمريكية تم فصل عالم الرياضيات والفيلسوف بيرتراند رسل من الكلية وحرمانه من التدريس بحجة الخوف من تأثيره على أفكار الطلاب. والغريب أن بعض أساتذة الجامعات الأمريكية في أثناء تزايد فضائح حرب فيتنام وكوسيلة للتعبير عن اعتراضهم ومناهضتهم للحرب اتخذوا أسلوب (الاضراب عن تدريس الطلاب) كوسيلة للتعبير عن الرأي. حصل ذلك في يوم 17مارس من عام 1965م عندما أتفق حوالي 50 عضو هيئة تدريس من جامعة ميتشجان على الإضراب تماما عن التدريس ليوم واحد فقط كوسيلة احتجاج على سياسية الحكومة الأمريكية في حرب فيتنام. ولاحقا ونتيجة لقلق بعض هؤلاء الأساتذة أن يتعرضوا للمساءلة القانونية نتيجة إضرابهم عن العمل قاموا بتغيير أسلوب مناهضتهم للحرب وذلك بدعوة الطلاب لحلقات نقاش إضافية داخل أسوار الجامعة لتوضيح أبعاد وأسباب موقفهم السياسي والفكري المعارض للحرب. وبحكم أن أساتذة الجامعة الذين يرغبون من طلابهم حضور المزيد من الندوات التدريسية كان يطلقون على هذه الحالة (تعليم إضافية Teach-in) لهذا أصبحت موجات المعارضة الأكاديمية في الجامعات الأمريكية المناهضة للحرب تعرف إجمالا بحركات (Teach-in movements).
المتابع لأخبار (الحركات الطلابية الثورية) والمعلومات المنشورة عنها في الكتب والمصادر والأفلام الوثائقية يعتقد أنها حركة طلابية (خالصة) ولكن في الواقع جذورها وبعض العوامل المؤثرة فيها راجعة لنضال أساتذة الجامعات. ومن ذلك أن أشهر حادثة في تاريخ الجامعات الأمريكية للاحتجاج ومناهضة الحرب الفيتنامية تلك التي حصلت في منتصف الستينيات من القرن العشرين في جامعة كاليفورنيا بيركيلي الأمريكية العريقة ساهم في الترتيب لها عالم الرياضيات الأمريكي ستيفن سمال الحاصل على ميدالية فيلدز التي تصوف بأنها (جائزة نوبل لعلماء الرياضيات).
الجامعات الأمريكية ونصرة المظلوم .. إرث مشرف
من عادات الشباب حب الانطلاق من القيود والرغبة في الاستحواذ على أكبر قدر من المغريات والشهوات ولهذا أثناء ثورة شباب الهيبيز في فترة الستينيات من القرن العشرين كان من ضمن شعاراتهم الشائعة التداول بينهم (إنه حرام أن تحرم أي شيء its forbidden to forbid ). وفي حين أن بعض الشباب الجامعي ربما كان يثير الشغب والاعتراض داخل أسوار الجامعة بسبب مطالب ذاتية مثل تخفيض رسوم الدراسة أو تحسين حالة غرف السكن الجامعي أو الاعتراض على لوائح الجامعة نجد أنه مع حادثة جامعة كاليفورنيا بيريكلي في عام 1965م حصل تغيرا جذريا في طريقة وعي الشباب من الأنانية الذاتية إلى النضال لأجل الآخرين. بعدما بدأت جامعة كولومبيا كما ذكرنا ظاهرة الاحتجاج ضد حرب فيتنام من خلال عقد المحاضرات وحلقات النقاش وعرض الأفلام ورفع اللافتات داخل أسوار الجامعة، قام أستاذ الرياضيات ستيفن سمال السالف الذكر مع بعض الطلبة في جامعة بيركلي باستنساخ تلك التجربة ولهذا نظموا اعتصاما احتجاجيا لمدة يوم ونصف داخل الجامعة اشترك فيه عدد مهول من الطلبة وغيرهم بلغ حوالي 30 ألف شخص.
بالرغم من أن الفارق الزمني بين نهاية الحرب الكورية الأمريكية (في عام 1953م) وبين بداية الحرب الفيتنامية الأمريكية (في عام 1955م) هما سنتان فقط إلا أن تعامل المجتمع الأمريكي حيال هذه الحرب الأخيرة كان مختلفا جدا ففي حين تقبل الحرب الأولى لأنها قصيرة وسريعة إلا أنه رفض الثانية لأنها طويلة وغير شرعية. وعندما ظهرت حركة معارضة الحرب الفيتنامية وأخذت تتوسع في المجتمع الأمريكي كان منطلقها ومبتدأها من داخل أسوار الجامعات الأمريكية وبدعم وزخم من الشباب الجامعي الثوري. في الواقع في بداية الستينيات من القرن العشرين عندما ظهرت المنظمة الطلابية الأمريكية المسماة (طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي SDS) استطاعت مع الزمن استقطاب حوالي 30 ألف طالب جامعي لعضويتها وكان لهم تواجد في حوالي 300 جامعة أمريكية. وانطلاقا من شعار تلك المنظمة الطلابية الأمريكية الكبرى الذي يقول (جامعات حرة في مجتمع حر) تحولت منهجية تلك المنظمة بشكل متدرج من طرحها اليساري المناهضة للرأسمالية المتوحشة إلى قضايا الفصل العنصري واضطهاد السود لتختم في النهاية بالقيادة الفعلية لحركة المجتمع الأمريكي المناهض للحرب في فيتنام.
مما سبق ذكره نعلم أن ما نشهده هذه الأيام من تصاعد حركات الاحتجاج وتزايد حالات الاعتصامات في مختلف الجامعات الأمريكية من قبل الطلاب والطالبات المعارضين للحرب الصهيونية في غزة، أن هذا في جانب منه إعادة للتاريخ العريق والمتجذر في جينات التيارات الشبابية المدافعة عن السلام والمناهضة للحروب. وكما تسببت هذه الأيام حماقة رئيسة جامعة كولومبيا العجوز الشمطاء نعمت شفيق في توسيع مدى المظاهرات والاعتصامات في ساحات الجامعات الأمريكية بعد دناءة استدعاء الشرطة للقبض على الطلاب بعد فصل بعضهم، نجد أنه في عام 1970م تسببت حماقة أخرى في انتشار الاعتصامات والإضرابات في أغلب الجامعات الأمريكية الكبرى. حصل ذلك بعد قيام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في ربيع تلك السنة بتوسيع حرب فيتنام عن طريق غزو دولة كمبوديا المجاورة وهنا تجدد اندلاع ثورة الشباب الجامعي لدرجة حصول حالة من الشغب والتخريب في جامعة مدينة كينت بولاية أوهايو وأسفر التدخل العنيف من قبل الشرطة في مقتل أربعة طلاب وأصابت العشرات. وهنا انتشرت المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات في عدد كبير من الجامعات الأمريكية بلغت 450 جامعة وكلية وشارك رقم هائل بلغ حوالي أربعة ملايين طالب جامعي في تلك الحادثة المميزة جدا في التاريخ الأمريكي الحديث والمسماة (إضراب الطلاب عام 1970م).
طلبة الجامعات الفرنسية والثورة الجامحة
الجدير بالذكر أنه كعادة الشباب في كل مكان سرعان ما تنتقل تقليعات الشباب من دولة إلى دولة ومن شعب إلى شعب وكما يحصل هذه الأيام أن وجدنا الشباب المصري في الجامعة الأمريكية في القاهرة يقلدون شباب الجامعات الأمريكية بتنظيم مظاهرات داخل الحرم الجامعي تطالب بإيقاف الحرب ضد غزة نجد أن هذا الأمر سبق حصوله في الجامعات الأوروبية التي تظاهر طلابها ضد الحرب الفيتنامية. وهذا ما حدث في سنة 1968م عندما تظاهر العديد من الطلاب الألمان في داخل جامعة فرانكفورت في حين تجمع حوالي عشرة الآلاف جامعي في شوارع وساحات برلين الغربية وهم يرفعون شعارات ولافتات مناهضة ومنددة بحرب فيتنام. وفي حين مرت المظاهرات الطلابية ضد الحرب بسلام في ألمانيا الغربية في ذلك الزمن نجد أن الأمور تعقدت بشكل غريب ومتصاعد وحاد في باريس حيث عندما تعرضت مسيرة في مدينة باريس مناهضة لحرب فيتنام للقمع من قبل الشرطة الفرنسية.
وعندما قام طلاب جامعة نانتير في غرب باريس بالاحتجاج على اعتقال الشرطة لعدد من زملائهم وصعدوا الأمر بأن اعتصموا في مجلس الجامعة لكي يضغطوا على الشرطة للإفراج عن رفقاء الدراسة والنضال نتج عن ذلك إغلاق جامعة نانتير. وكردة فعل لذلك الموقف ضد طلبة الجامعة حصلت حالة مساندة من طلاب جامعة السوربون الذين اجتمعوا بأعداد غفيرة داخل جامعتهم لأبداء المناصرة لزملائهم في جامعة نانتير وللتعبير كذلك عن مناهضتهم للحرب الفيتنامية وهنا حصلت الكارثة والحماقة عندما اقتحمت الشرطة جامعة السوربون واعتقلت حوالي 600 طالب وكانت تلك الشرارة التي تسببت في الأزمة السياسية الهائلة في فرنسا والتي عرفت باسم (أحداث مايو 1968م). الأمر الصادم أن هذه الاحتجاجات الطلابية العفوية ضد الحرب غير العادلة في فيتنام تحولت بسبب الرعونة في التعامل مع الشباب إلى أزمة خطيرة تصاعدت مع الزمن لتشمل الاعتصامات والإضرابات أغلب المدن الفرنسية لدرجة أن البعض توقع باحتمالية وقوع حرب أهلية أو ثورة شعبية. بل أن الرئيس الفرنسي شارل ديغول كان يخشى حتى من حصول انقلاب عسكري عليه ولهذا كمحاولة لتهدئة الأمور غامر بحل الحكومة والدعوة لانتخابات مبكرة ولاحقا بعد فشله في تحقيق نتيجة إيجابية في الاستفتاء الذي طرحه على الشعب الفرنسي، تقدم باستقالته وليتوفى بعد ذلك بسنة واحدة فقط وهو محطم الفؤاد.
ثورة شباب الجامعات في فرنسا في عام 1968م وإن كانت تسببت في إسقاط أكبر رجال السياسة في أوروبا وهو جنرال التحرير الفرنسي من الاحتلال النازي الرئيس شارل ديغول، نجد في نفس تلك السنة وبنفس سبب ثورة شباب الجامعات في أمريكا سوف يؤدي ذلك بشكل أو آخر في نهاية الحياة السياسية للرئيس الأمريكي ليندون جونسون. في الواقع عندما فاز ليندون جونسون في عام 1964م بمنصب الرئيس تشير الإحصاءات أنه حصل على أعلى نسبة في تاريخ الانتخابات الأمريكية ومن أسباب ذلك أنه كان داعم لحركة الحقوق المدنية للسود وغيرهم. ولكن ما إن حل موعد الانتخابات للفترة الرئاسية الثانية له في عام 1968م إلا وقد كانت السمعة السياسية للرئيس جونسون في الحضيض بسبب إشعال طلبة الجامعات الأمريكية الانتقادات ضد أداء الرئيس في حرب فيتنام ولهذا لم يستطع أصلا أن يدخل تلك الانتخابات وتنازل عنها لأحد أعضاء الحزب الديمقراطي الذي خسر أمام الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون.
والمقصود في الختام أنه كما كان لحركة طلاب الجامعات في الغرب المعارضين والمناهضين لحرب فيتنام، كان لهم دور صغير أو كبير في إسقاط كبار رجال السياسية من مثل ديغول أو جونسون. بمشية الله سوف يكون للاعتصامات والاحتجاجات الطلابية المتزايدة يوما بعد آخر في أعرق الجامعات الأمريكية المناصرة للقضية الفلسطينية، بمشيئة الله سوف يكون لهذه الاعتصامات الطلابية دور ما في إسقاط نتنياهو بعد أن حصل الضرر الهائل بتمريغ سمعة الكيان الصهيوني الغاشم في تراب العار والخزي أمام جميع شعوب وأحرار العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق