في الزمن الاستهلاكي المعاصر ويوما بعد آخر نجد أشكالا متجددة من الظاهرة السلوكية السيئة في دنيا التجارة المسماة (الشراء الاندفاعي impulse purchase). هذه الظاهرة السلوكية حيرت علماء النفس قبل علماء الاقتصاد فلماذا نجد بعض الأشخاص (العاقلين) فجأة يندفعون بتهور وبدون تفكير في شراء سلعة تجارية لا يحتاجونها بمجرد مشاهدة إعلان عنها أو بمجرد مشاهدة صف طويل من الناس يقفون في طابور لكي يحصل الواحد منهم على تلك السعلة (الكمالية غير المهمة).
البعض يفسر ظاهرة الشراء الاندفاعي بأنها نتيجة للحظة خلل في السلوك العاطفي وتعثر في عملية التفكير واتخاذ القرارات العقلانية أو بكل بساطة وبمختصر العبارة أنها لحظة غير رشيدة لإشباع حاجة النفس وإرضائها والهروب من الواقع الصارم. وبشيء من التشبيه والتبسيط خطر في بالي أن ظاهرة الشراء الاندفاعي في عالم المال والأعمال يمكن أن تساهم في تفسير الحادثة الغريبة والنادرة في واقعنا العربي والتي حصلت هذا الأسبوع في معرض الكتاب بمدينة الرباط المغربية عندما حصل ازدحام شديد وتدافع وإغماءات في حشود الشباب والمراهقين الراغبين في مقابلة الكاتب السعودي أسامة المسلم والحصول على إحدى رواياته الممهورة بتوقيعه والمسطرة بعبارات (أوتوقرافه).
التدافع والتزاحم والصراع لمحاولة شراء سلعة استهلاكية أو الحصول على توقيع مؤلف مشهور على كتاب أو رواية أمر مشهور ومتكرر في الدول الغربية ذات النزعة المادية فمن الظاهرة الاقتصادية (الشراء الاندفاعي) إلى الظاهرة النفسية والأدبية (الهوس الهاري بوتري Harry-mania) والمقصود بها حالة الهوس الجنوني برواية (هاري بوتر). وإذا كان رجال الأمن والسلامة في معرض الرباط للكتاب تدخلوا لإلغاء حفلة توقيع روايات أسامة المسلم بسبب التزاحم الشديد وحالات الإغماء، تجدر الإشارة أنه ربما كانت أكثر سلعة تم بيع أكبر عدد منها في يوم واحد هي الجزء السابع والأخير من سلسلة روايات هاري بوتر للكاتبة البريطانية واسعة الشهرة والثراء جي كي رولنغ. في يوم 21 من شهر يوليو من عام 2007م تم طرح الجزء الأخير من رواية هاري بوتير في منافذ البيع في أمريكا وبريطانيا وفي ذاك اليوم فقط تم بيع أكثر من 11 مليون نسخة. ولهذا بدلا من تنظيم حفلة توقيع للرواية الجديدة مفتوحة للجميع بالقطع كانت سوف تحصل بها مدعكة ومهلكة للشباب والأطفال الصغار المتدافعين لحضور حفل التوقيع. ولهذا حصل وبشكل مسبق طلب التسجيل لم يرغب في حضور الحفل الخاص بتدشين الرواية الأخيرة ولاحقا تم عن طريق القرعة اختيار 1700 شخص فقط تمت دعوتهم إلى متحف العلوم في وسط لندن لكي تقوم المؤلفة جي كي رولنغ بالتوقيع على النسخة الشخصية لكل واحد منهم.
ولاستيعاب الشعبية منقطعة النظير لروايات هاري بوتر تشير التقديرات إلى أنه تم بيع أكثر من 500 مليون نسخة من تلك الروايات خلال عشر سنوات من ظهور تلك السلسلة من الروايات الخيالية. بينما في المقابل أهم وأروع قصة مكتوبة باللغة الإنجليزية لأهم روائي عالمي وهي رواية (قصة مدينتين) لتشارلز ديكنز لم يتم خلال أكثر من قرن ونصف من زمن نشرها بيع أكثر من 200 مليون نسخة. بل إن الرواية الأكثر تشويقا والمناسبة لفئة الشباب اليافع وهي رواية (أوليفر تويست) لتشارلز ديكنز والتي تدور عن معاناة الطفل أوليفر داخل ملجأ الأيتام أو حياة الشوارع وعصابات الأطفال، لم يباع منها إلا 50 مليون نسخة فقط.
والمقصود أن كتب الروايات الأدبية التي تستهدف الشباب والمراهقين (تعرف هذه الفئة في لغة أهل المكتبات: بالشباب البالغين young adults) لها شعبية كبيرة ونسبة كبيرة في عملية مبيعات الكتب تصل لأكثر من 35 مليون كتاب سنويا في أمريكا وحدها وبقيمة مبيعات تقارب مبلغ 600 مليون دولار سنويا. بل إن الروايات المتخصصة في مجال الخيال والفنتازيا تشهد في السنوات الأخير إقبال منقطع النظير من قبل فئة الشباب لدرجة أن نسبة الزيادة السنوية في مبيعات تلك الروايات تزداد سنويا بحوالي 35% وهي زيادة هائلة مقارنة بأقرب فئة كتب واسعة الانتشار وهي الروايات الرومانسية التي تشهد زيادة سنوية بمقدر 25% فقط.
من هذا وذاك لا عجب أن نجد حالة من الطيش والنزق في تصرف وسلوك المراهقين في حفلات توقيع الروايات الجديدة مثل حالة السفه في استقبال كاتب روائي والتدافع لمشاهدته وكأنه نجم غنائي يخطف قلوب المراهقين كما يحصل في الحفلات الغنائية الصاخبة للفرق الموسيقية الشبابية الكورية.
قراءة المراهقين لروايات الخيال .. محاولة للفهم
على خلاف الشائع والذائع من تراجع السلوك الحضاري باقتناء وقراءة الكتب تشير الأرقام الإحصائية المنشورة من المواقع المتخصصة (مثل موقع statista) أنه عدد الكتب المباعة سنويا على مستوى العالم والدخل المالي من تجارة الكتب تتزايد بشكل سنوي ولا تنقص، بل إن نسبة الكتاب الورقي لم تتراجع كثيرا وأنها ما زالت في حدود السبعين في المئة. على كل حال نحن الآن في محاولة تفسير لماذا شباب الجيل الجديد (شباب الألفية) المتعود من نعومة أظافره على استخدام التقنية الإلكترونية ما زال يقبل بشغف على شراء الكتب في هيئة روايات الخيال العجائبي والفانتازيا (ٍfantasy novels). لا نكشف سراً عندما نقول إن أهم ما يميز مرحلة المراهقة هي عقدة (إثبات الذات) ولهذا يميل الشباب الناشئ للإعجاب بالأبطال الصغار الذين يخوضون المغامرات ويحاول حل المشاكل والفوز بإعجاب الآخرين من خلال الصراع مع التنانين والجن والسحرة ومصاصي الدماء. الشاب الصغير أو المراهق بدلا من يتم إظهاره في صورة الطائش أو الكسول أو الساذج في الروايات الدرامية الجادة نجده في روايات الخيال والفانتازيا هو مخلص العالم في شخصية الطفل الساحر هاري بوتر أو شخصية الشاب فرودو في رواية سيد الخواتم أو الأطفال والأشقاء الأربعة الذين يساعدون الأسد الناطق أصلان في رواية مملكة نارنيا.
ومن القضايا النفسية للشباب المراهق ظاهرة أحلام اليقظة وهي قد تكون وسيلة لتحقيق الرغبات وإشباع الخيال وقد تكون سبيلا للهروب من الواقع خصوصا إذا كان مؤذيا ومزعجا. يعتقد أن الشباب صغير السن إذا كان في حالة قلق نفسي فقد يجد في قراءة رواية الخيال والفانتازيا نوع من التخفيف والهروب من ضغوط حياة المراهقة ولهذا ما أسهل أن ينجذب ذلك المراهق لرواية أدبية شيقة يستطيع بطلها الشاب مقاومة الصعاب والتغلب على الأعداء بسبب امتلاكه لقوى سحرية غرائبية. والجدير بالذكر أن أشهر وأهم الروايات الأدبية في مجال الخيال والفنتازيا تمت كتابتها زمن الأوقات العصيبة فمثلا رواية الكاتب البريطاني جي آر توكلين (ثلاثية سيد الخواتم) ذائعة الصيت والانتشار بعد أن بيع منها حوالي 150 مليون نسخة، نجد أنه كتبت أجزاء كبيرة منها أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية وهي في أصلها انعكاس رمزي لتلك الحرب. أما ثاني أهم روايات الفانتازيا التي طبع منها حوالي 100 مليون نسخة وهي رواية (سجلات مملكة نارنيا) للمفكر والكاتب الإيرلندي سي لويس (بالمناسبة هو صديق مقرب من الروائي توكلين السالف الذكر كما أنه زميل له بجامعة أكسفورد) فتلك القصة أصلا تبدأ بإخلاء عشرات الأطفال من مدينة لندن عندما كانت تقصف من قبل النازيين في الحرب العالمية الثانية، وقد كان من ضمن أولئك الأطفال المهجرين الأشقاء الأربعة أبطال الرواية. بقي أن نقول إن (الأوقات العصيبة) التي تزامنت مع مخاض ولادة روايات هاري بوتر المدججة بالخيال كانت في نهاية القرن العشرين مع تزاد حالة الهلع من تعطل أجهزة الكمبيوتر في العالم كله بسبب مشكلة عام 2000 (Y2K bug). وفي واقعنا المحلي لن نستغرب كثيرا عندما نعلم كيف ساهمت حالة القلق والعزلة التي صاحبت جائحة كورونا في تحقيق جزء من نجاح الكاتب السعودي أسامة المسلم حيث إن أشهر رواياته مثل (الساحرة الهجينة) و (أجيج) و (أرض القرابين) ظهرت مباشرة بعد سنوات كورونا البائسة.
وفي الختام وبمختصر العبارة لكسب شريحة القراء الصغار من المراهقين والشباب يحتاج المؤلف الذكي وصائد الفرص أن يكتب عمل أدبي يخلط فيه بين الإثارة والغموض والمغامرة والرعب والخيال والرومانسية. مع مراعاة أن تكون الرواية طويلة ومن أجزاء متعددة ومكتوبة بأسلوب لغوي وفني ملائم لمدارك فئة الشباب وهنا في الغالب سوف يحصل ذلك (المنتج) الروائي على انتشار مقبول ومبيعات تجارية مربحة وهذا سر نجاح أي مؤلف المتخصص في روايات الخيال والرعب مثل أسامة المسلم السعودي وجوان كي رولنغ البريطانية وأحمد خالد توفيق المصري وستيفين كينج الأمريكي.
وقبل أن أغادر لا بد من أن أعترف بأنني في حيرة من أمري. فهل نفرح باندفاع المراهقين والشباب للقراءة حتى وإن كانت قراءة الروايات ضعيفة الجودة الأدبية وأن هذا قد يعودهم مع مرور الأيام للبدء في القراءة الجادة والهادفة. أم في المقابل هل ننظر للموضوع من زاوية أن قيام شاب مراهق بقراءة سلسلة ضخمة من الروايات المتصلة (عدد صفحات الأجزاء الثلاثة لرواية صخب الخسيف لأسامة المسلم 1405 صفحة، في حين مجموع صفحات الأجزاء السبعة لرواية هاري بوتر هو 3407 ورقه) هو في حقيقة الأمر فعل طائش، يحتاج الشاب الصغير من يوجه لصرف شغفه المبكر بالقراءة لأمر أكثر توازنا وفائدة و(رشدا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق